قدمت نتائج الباكالوريا هذه السنة معطيات تدل على ما يقدمه التعليم العمومي من خدمة تعليمية متميزة نسبيا، رغم الظروف والإكراهات التي يتم اجترارها في كل مناسبة لنقد أوضاع التعليم ببلادنا، فمعظم الميسورين حتى من رجال ونساء التعليم وأطر الوزارة يصرفون أبناءهم عن المدرسة العمومية ويوجهونهم نحو المدارس الخصوصية وأحيانا نحو مدارس البعثة الفرنسية. إن المدرسة العمومية المغربية على مر السنين هي من أنجبت الكفاءات والأطر في جميع المجالات،فمعظم المتفوقين والمتفوقات هم من أبناء المدرسة العمومية لم يستفيدوا من تضخيم نقط المراقبة المستمرة ولم يستفيدوا من مضاعفة الإيقاع الزمني لحصص مواد الامتحان الوطني أو الدعم الخاص في البيوت. بل إ أنور عبادي الحاصل على معدل 19،28 لا ينحدر من محور الرباطالدارالبيضاء أو من أسرة الأعيان ،بل إن كثيرا من هؤلاء المتفوقين ينحدرون من مدن وقرى توصف بالمناطق المهمشة ولنا في مغاربة متميزين في مراكز الأبحاث والجامعات المرموقة خير مثال على قدرة المدرسة العمومية على أداء رسالة تربوية تنافسية. إن هذا الوجه المشرق للمدرسة العمومية المغربية هو أمل ورجاء في أفق مستقبل كله إكراهات وتحديات، فالتعليم العمومي يستأثر بما يعادل 28 في المائة من الميزانية الإجمالية للدولة ،وأصبح يسجل خصاصا على مستوى المدرسين يقدر ب2900 مدرس ، وارتفاع نسبة الاكتظاظ المسجلة في جميع المستويات ، ناهيكم عن تقادم بنايات العديد من المؤسسات التعليمية وانعدام الكهرباء والماء في الكثير منها بالعالم القروي. أما الجامعة المغربية فبدورها أصبحت تعرف عزوفا من طرف حاملي شهادات البكالويا، وذلك لعدم تلبيتها لحاجيات عالم الشغل في المغرب، حيث تظل قطاعات اقتصادية معينة تبحث عن تخصصات وكفاءات محددة ومؤهلة، كما أن نسبة التخرج من الجامعات المغربية ضعيفة، حيث إنه يتخرج 30 ألف طالب في السنة من أصل 80 إلى 100 ألف طالب جديد يدخلونها في مطلع كل موسم دراسي. هذه التحديات والإكراهات يفهم البعض من استفحالها نعيا للمدرسة العمومية، وتشجيعا للمواطنين على توجيه أبنائهم نحو التعليم الخصوصي، فالمواطن البسيط أصبح عن غير وعي لا يثق بالتدريس بالمؤسسات العمومية، وكثيرون يعتقدون أن المدرسة تتجه نحو الإفلاس . فبلغة الأرقام تستوعب مؤسسات التعليم الخصوصي حوالي 500 ألف تلميذ موزعين على 2064 مؤسسة تعليمية في المغرب. هذا الارتفاع في الإقبال على المدارس الخاصة رافقه ارتفاع في الاستثمار في هذا القطاع، وتستوعب مؤسسات التعليم الخصوصي حوالي 500 ألف تلميذ وتلميذة موزعين على 2064 مؤسسة تعليمية في المغرب، هذا الارتفاع في الإقبال على المدرسة الخاصة رافقه ارتفاع في الاستثمار في هذا القطاع، فالمدارس الابتدائية الخاصة ارتفع عددها بما يناهز %7 خلال السنوات الأخيرة. كما أن الدولة خلقت صندوقا لدعم التعليم الخاص يقدم قروضا بنسبة %30 من قيمة المشروع، بنسبة فائدة مشجعة لا تتجاوز %2 وفي مدة مريحة تصل إلى 12 سنة. كما يمنح هذا الصندوق الأشخاص الراغبين في فتح مؤسسات خاصة إمكانية ضمان قروضهم لدى الأبناك. أما المدارس العليا الخاصة التي لا يلجها عموم أبناء الشعب ولا توفر جودة في التكوين، فإنها تتمركز بكل من الدارالبيضاء ب47 مؤسسة متبوعة بالرباط ب21 مؤسسة ، حيث لا توجد بباقي أقاليم البلاد إلا 42 مؤسسة للتعليم العالي الخصوصي. أما القلة القليلة فإنها استغنت عن النظام التربوي المغربي كلية واستبدلته بالنظام التربوي الفرنسي من خلال شبكة المِؤسسات التعليمية الفرنسية بالمغرب. حيث توجد ببلادنا 23 مؤسسة تعليمية تابعة لوكالة التعليم الفرنسي بالخارج. وتضم الدارالبيضاء وحدها 7 مؤسسات حرة صادقت عليها وزارة التربية الفرنسية وتضم 4339 تلميذا. إن القناعات التي تتشكل لدى المغاربة حول المدرسة العمومية هي انطباعات خاطئة ولدتها موضة اجتماعية تتنافس على بريستيج التعلم، والتنافس على التسجيل بالمؤسسات الخاصة التي تضم نخبة المجتمع من ذوي السلطة والنفوذ والمال. إن الرهان على احتضار المدرسة العمومية اختيار خاسر، وإعادة الاعتبار إليها يتطلب مجموعة من التدابير التي تشكل خارطة طريق لنصرة المدرسة العمومية وتتجلى هذه التدابير في إعادة الثقة بين مكونات المنظومة التعليمية ببرامج وتحفيزات تهدف إلى تجاوز الإكراهات والتحديات المرصودة ،والانخراط الجاد والمسؤول للأسرة ومكونات المجتمع في الإصلاح والوعي بضرورته لتكون حركة إصلاح المدرسة مندمجة في حركة إصلاح المجتمع . إن المدرسة العمومية التي تكالب عليها أهلها، خرجت أطرا عليا مشهودا لها بالكفاءة والخبرة وضعت أسس إدارة هذه الدولة لنصف قرن من الزمن، فلا بد من إعادة الاعتبار لها وحمايتها من الإفلاس وهذا أمر لا مناص منه للحفاظ على مكونات الهوية الوطنية. *أستاذ التعليم الثانوي التأهيلي بالدار البيضاء