جلّ مدن المملكة -خاصة الكبرى منها- تشكوا من الانفلات الأمني؛ فقد باتت الأحياء الشعبية مرتعا للجريمة؛ وأصبح المواطن المغربي المتوجه إلى عمله لا يأمن على نفسه ولا على أفراد أسرته من حملة السيوف والسواطير و(الماء القاطع).. عصابات إجرامية منتشرة هنا وهناك وهنالك؛ تتربص بالكادحين لتحصيل لقمة العيش؛ ومجرمون يجوبون شوارع وأزقة مدننا؛ يقتسمون بكل جرأة ووقاحة أماكن عملهم الإجرامي اليومي؛ تحت مرأى ومسمع المواطنين والسلطات الأمنية المختصة. فلا أحد يحرك ساكنا؛ باستثناء بعض ذوي الشهامة والغيرة -وقليل ما هم- سواء من المواطنين أو بعض أفراد الشرطة الذين يتدخلون في بعض المناسبات ويدفعون ثمن تدخلهم ذلك غاليا. وكي نكون منصفين؛ ونتحدث بصراحة أكثر حول ظاهرة الإجرام؛ يجب أن نعلم أن السلطات الأمنية تتعامل فقط مع إفرازات الظاهرة؛ وتعبئ قواها للحد من انتشارها؛ وتجري أبحاثا ودراسات استباقية لتوقع مخططات المجرمين، لكن يبقى من يمدُّ عالم الجريمة ويغذي عروقها رابضا في الظلام؛ لا أحد يحذر من شره؛ ويسلط الضوء على مخططاته وخطره؛ وذلك لتداخل عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية ودينية في هذا الموضوع. فنحن نشهد اليوم الحصار الشديد الذي يمارس على مؤسسة العلماء وكذا الخطباء والوعاظ؛ ومنعهم من التدخل في الشأن العام؛ ومن تأطير الناس وفق منهج شرعي؛ وسعي بعض القوى ذات التوجه العلماني إلى تغييبهم وتكميم أفواههم؛ اللهم إلا في بعض المناسبات الكبرى التي تستلزم تأثيث المشهد العام؛ وغُيِّب الدين والهوية الإسلامية في مجال التربية والتعليم الذي سيطر عليه اليساريون والاشتراكيون سنين عددا؛ وأشبعوه بالأفكار المادية والإلحادية؛ وأفرغوا التعليم من محتواه ومضمونه؛ وطبعوا التلاميذ والطلبة على الانحلال والفكر المادي والحرية الفردية المتسيبة؛ المناقضة لعقيدتنا وقيمنا وأخلاقنا، وأصبح قطاع التعليم يركز على الجانب المهني فقط، ويهدف إلى تخريج الأطر لا إلى تربية المجتمع وهدايته وتأطيره وفق أحكام الدين الإسلامي؛ الدين الرسمي للدولة. وفي مجال السلوك أصبحت مدارسنا ومؤسساتنا التعليمية مرتعا لعرض الأجساد العارية المهيجة للشهوات؛ وفضاء لترويج المخدرات بشتى أنواعها؛ وانتشرت فيها العديد من السلوكات المخلة بالأخلاق والقيم؛ وأصبحت الثقافة السائدة لدى التلاميذ والطلبة ثقافة منحلة لا تمت بصلة إلى ديننا وهويتنا. وقربت الخمور من عموم المواطنين؛ وبات المغاربة المسلمون يستهلكون 117 مليون لتراً من الخمر خلال سنة واحدة فقط!!! هذا دون احتساب الخمور المهربة أو المصنوعة بطريقة تقليدية، وباتت الأسواق والمتاجر الكبرى التي تسوق لهذا المنتج الخبيث تحقق نسبة مبيعاتها الكحولية ما بين 30 و40% من رقم معاملاتها السنوية. والشريحة العمرية المستهلكة لملايين هذه اللترات من الخمور تتراوح ما بين 18 و60 سنة. أما المخدرات والحشيش وحبوب الهلوسة بشتى أنواعها وأشكالها فهي في متناول يد كل من يطلبها؛ كيف لا والمغرب هو أول منتج لمادة الكيف في العالم؛ ويحتل الرتبة الرابعة عالميا أيضا من حيث حجم استهلاك هذا المخدر؛ ويزرع المغرب مساحة تقدر ب 47.500 هكتار من الكيف، و4,2 في المائة من المغاربة مدمنون على الكيف ومشتقاته -كما جاء في تقرير للأمم المتحدة حول المخدرات والجريمة لسنة 2011-. أما حبوب الهلوسة فقد حجزت إدارة الجمارك والضرائب غير المباشرة خلال سنة 2010 وحدها حوالي 67 طن من المخدرات؛ وما يزيد عن 90.000 وحدة من حبوب الهلوسة؛ ولك أيها القارئ الكريم أن تتساءل عن الأرقام الفلكية من نسبة المخدرات التي لم يتم حجزها واستقر بها الأمر في بطون أبناء وبنات هذا الشعب. أما إفساد الإعلام الذي يسيطر عليه اللوبي العلماني فلا يقل أبدا عما سبق ذكره من أنواع الفساد الذي يمد عالم الجريمة ويغذيها؛ فيكفي هذا الإعلام فسادا حربه على العلماء والدعاة والمصلحين من أبناء هذا الوطن الذين يرشدون الناس إلى الخير والصلاح والإصلاح، ويكفيه ما يبثه وما ينشره بين الناس من أفكار علمانية/لائكية؛ وبرامج يندى لها الجبين ونقل مهرجانات وحفلات موسيقية ساقطة، وأفلام مكسيكية وتركية؛... تجعل الشباب -خاصة- يعيش في عالم الخيال؛ ويطمح فقط إلى إشباع شهواته ورغباته الجنسية؛ ويطمح إلى حياة يستحيل تحقيقها في عالم الحقيقة؛ فإذا ما عجز عن تحقيق تلك الرغبات وإشباع تلك الشهوات بحث عن موارد مالية إضافية تأمن له ما يحتاجه من مخدرات وما يحيي به الليالي الحمراء؛ ولا يجد كل ذلك إلا في عالم الجريمة. وبالتوازي مع ذلك تعمل الجمعيات الحقوقية ذات المرجعية العلمانية على الدفاع عن الحقوق الفردية وفق (النظرة الغربية)؛ التي تشرعن شرب الخمور وتناول المخدرات والزنى واللواط وغيرها من الموبقات؛ وتسعى إلى تغييب ومحو كل تشريع؛ لا أقول يستمد من الشريعة الإسلامية وإنما يقرب منها فقط، كما هو الحال بالنسبة لمنع عقوبة الإعدام. ونستحضر بهذه المناسبة الحادث الذي شهدته مدينة فاس؛ حين قامت قوات الأمن بالعاصمة العلمية بتطويف بعض عتاة المجرمين -الذين أرهبوا الساكنة وساموهم سوء العذاب- في شوارع المدينة؛ وجعلت منهم عبرة لمن يعتبر؛ حينها انتدبت الجمعيات الحقوقية العلمانية للدفاع عن هؤلاء المجرمين؛ بدعوى أن هذا النوع من العقاب يعود بنا إلى الوراء ويذكرنا بزمن بوحمارة!! وكأن هؤلاء المعتدى عليهم لا حق لهم، وأن مقاربة العلمانيين تحد من الجريمة أو تخفف منها. فمن زرع الشوك لا يجني العنب!! إن الإرادة الصادقة والنظرة البعيدة والمقاربة الجادة تستلزم على المسؤولين الساهرين على حماية أمن هذا الوطن وضع استراتيجية متكاملة للحد من ظاهرة الجريمة؛ تأخذ بعين الاعتبار ودون حساسية كل الجوانب المؤثرة في هذا الموضوع. بداية بالتأطير الديني وتربية الشباب منذ نعومة أظفارهم على العقيدة الصحيحة والسلوك القويم؛ وتفعيل الدور التربوي للمؤسسات التعليمية انطلاقا من هذه المرجعية، وتوفير فرص العمل للعاطلين، ومحاربة دور الصفيح والسكن العشوائي، وتحسين ظروف عمل وأداء الجهاز الأمني حتى يكون فعالا وقريبا من عموم المواطنين، وسن نظام عادل وصارم في مجال العقوبات يتوافق وما نصت عليه الشريعة الإسلامية في هذا المجال دون الالتفات إلى دعاوى الجمعيات العلمانية التي تتنكب للمقاربة الشرعية لعلاج الجريمة. فإننا إذ لم نربي أبناءنا وبناتنا على الدين الصحيح؛ وخشية الله في السر والعلانية؛ والرضا بالقضاء والقدر؛ والسعي إلى تحصيل الرزق بالطرق الحلال، وأرهبناهم من العلماء والمصلحين؛ وأشعنا بينهم الخمور والمخدرات؛ ومسخناهم بإعلام يشيع الفاحشة ويطبعها، وأنشأناهم وفق أفكار مادية؛ ومفاهيم غربية إلحادية؛ سهل علينا آنذاك أن ندرك سبب ارتفاع نسب الجريمة والسطو، والاغتصاب، وزنا المحارم، والقتل، وحوادث السير.. واستفحال ظواهر كثيرة شاذة لم يكن لها وجود فيما بيننا من قبل. فمتى ما أردنا محاصرة الجريمة ووضع مقاربة فعالة للحد منها؛ يتحتم علينا لزاما النفاذ بعمق إلى الجذور التي تغذي هذا الورم الخبيث وتضمن له البقاء؛ وإلى إعادة النظر في المرجعية التي نصدر منها؛ وفي تغلغل العلمانية في العديد من القطاعات الحساسة والفعالة التي تمد عالم الجريمة وتغذيه؛ وتربط الإنسان بالمادة فقط وتجعل منه حيوانا يلهث وراء إشباع شهواته ورغباته؛ لا يؤمن بغيب ولا وحي ولا جزاء ولا معاد. فالجريمة (لا تقوم مع قوة الإيمان وصلاح الأعمال، وإنما تصاحب ضعيف الإيمان أو فاقده ولو ساعة ارتكاب المعصية)، كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) البخاري ومسلم. وخير الهدي هدي سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم.