تابعت كالكثير من المغاربة كل تلك الضجة التي أحدثتها المغنية الصاعدة دنيا باطما في برنامج "أراب أيدول"، واستغربت حقيقة كل هذه الهالة الإعلامية التي أعطيت لبرنامج عادي جدا لا يقدم الإضافة المرجوة ما دمنا كعرب نبرع فقط في المسابقات الترفيهية ونغيب عن المسابقات الثقافية والعلمية، وحتى وإن تواجدنا فيها، فلا نحظى بأي متابعة إعلامية، وإلا فمن يعرف الطالب المصري عمرو محمد الفائز بجائزة "مختبر الفضاء" العالمية؟ والفلسطينية هناء شلبي التي قارعت الاحتلال الإسرائيلي بإضرابها عن الطعام؟ والشاب المغربي عبد الله محمد شقرون الذي اخترع 25 اختراعا وهو في سن ال24؟ غير أن هذا لا يعني استنكاري لمشاركة شاب أو شابة ما في برنامج غنائي، فمن حق دنيا باطما تحقيق حلمها في المجال الذي تبرع فيه، ومن حق أي شاب مغربي أن يحقق ما يريد وفي المجال الذي يريد، لكن العيب كل العيب، أن نركز على الغناء لوحده وننسى أن هناك مجالات أخرى نبرع فيها وتنتظر التنويه والتشجيع. لهذا السبب اكتفيت بمتابعة ما حدث في ذلك البرنامج دون رد فعل حقيقي، بل وشجعت دنيا في المباراة النهائية لمؤهلاتها الواضحة رغم أنني كنت أتمنى أن لا تطرق أبواب مثل هذه المسابقات التجارية، كما أنني حزنت لطريقة إقصائها التي أثارت الكثير من الجدل، غير أن تلك الوصلة الإشهارية التي تبث حاليا على قنواتنا الوطنية والتي تظهر فيها دنيا باطما وهي تتغنى باتصالات المغرب أصابتني بالحنق، خاصة وأن دنيا تتغنى بأغنية سبق أن غناها عمها وفرقة ناس الغيوان في ظروف سياسية واجتماعية خاصة، مع فارق عميق أن ناس الغيوان غنوا الأغنية وهم يتغنون بالله والرسول الكريم، في حين غنت دنيا الأغنية وهي تتغنى باتصالات المغرب. ما السبب الذي جعل هذه المغنية الشابة تغير كلمات أغنية يفتخر بها المغاربة من عشق الله إلى عشق شركة للاتصالات؟ هل وصل بها عشق هذه الشركة إلى هذا الحد رغم أن شركة أحيزون لم تدعم دنيا بمجانية الرسائل القصيرة إبان التصويت عليها في البرنامج؟ أم أن تلك الملايين الكثيرة التي تلقتها دنيا من اتصالات المغرب أنستها أن أغاني ناس الغيوان شيء وأغاني الوصلات الإشهارية التجارية شيء آخر؟ العربي باطما مات مرتين، المرة الأولى مات بيولوجيا سنة 1997 ، حيث حزن المغاربة لرحيل هذا الرجل المبدع الذي غنى من أجل الشعب وكرس فنه دفاعا عن كرامة المواطن المغربي ضد الفساد والاستبداد، والمرة الثانية مات معنويا عندما خذلته ابنة شقيقه، التي عوض أن تشق طريقها بثبات وتحافظ على روعة الكلمات وانسيابية الألحان وجدية المواضيع التي عرف بها اسم باطما، انساقت نحو المسابقات التجارية من قبيل استوديو دوزيم و محبوب العرب، فصار هذا الجيل الصاعد لا يعرف من اسم باطما سوى فستانها الغالي ومعجبها الإماراتي، وصراعها مع كارمن سليمان، وهيامها الشديد بشيء اسمه "جوال". كم تمنيت وأنا أسمع صوت دنيا باطما الجميل أن تكمل مسيرة عمها وتحيي من جديد فرقة اسمها ناس الغيوان استطاعت أن تصل بأغانيها لجل دول العالم، غير أنه وعوض أن يحافظ شبابنا الفني على موروثنا الحقيقي ويطوره، صار يهرول نحو أغاني الساندويتش التي تنتهي بسرعة دون أن تشبع نهمك للموسيقى- هذا إن لم تصبك بالغثيان-، لذلك صار عاديا أن تشاهد شابة مغربية تغني أغاني مغنية أمريكية تدعى ريحانا وتلبس نفس لباسها المحافظ جدا، وشاب آخر يغني بإنجليزية غير مفهومة، وآخر حاول دمج كل شيء ببعض، فأنتج لنا أغنية عبارة عن كلمات بالدارجة والعربية والفرنسية ولغات أخرى لا أفهمها.. لم ينته الفقر من بلدنا كي لا نغني عنه، فلا زالت معدلاته مرتفعة جدا لدرجة أن الكثير من المغاربة يعيشون فقط ب"البركة" لا غير، ولم ينته الفساد من بلدنا بعد كي لا نشير له في أغانينا، ولم ينته الاستبداد بعد ما دام قمع الناس هو السائد في بلدنا، ولم نقطع بعد مع حياة البؤس ما دامت الكثير من نسائنا تلد بالشارع، لذلك، حرام على شبابنا الصاعد الذي يمسك بالميكروفون لإطرابنا، أن يتغافل عن هذه الأمور الحقيقية التي تمسنا ويتغنى ببطاقة "جوال" وما جاورها.. قديما، غنت فرقة ناس الغيوان:" ما هموني غير الرجال إلا ضاعوا"، وأنا أقول " ما هموني غير الأصوات إلا ضاعوا"، ففي زمنهم ضاع الكثير من الرجال، وفي زمننا ضاع الكثير من الرجال والكثير من النساء والكثير من الأصوات، وقريبا سنضيع كلنا إن استمررنا على هذا الحال.. http://www.facebook.com/azzam.page [email protected]