كنت دائما من محبي مجموعة المشاهب؛ أحب ألحانها وكلماتها وأفرادها. وكم قلدت المجموعة في صباي. ولكني لاأخفي حبي الكبير أيضا لمجموعات أخرى خاصة ناس الغيوان، وإزنزارن ، وجيل جيلالة، والسهام. بل عملت في أبحاثي عن الثقافة الشعبية المغربية على ابتكار حقل خاص أسميته حقل الغيوانيات؛ له محدداته وخصائصه، ويشمل المجموعات المذكورة سلفا. كما كنت أتابع أداء هذه المجموعات وتطور ألحانها وأرصد قدراتها على التجدد والإبداع. وسيصدر في القريب إن شاء الله كتاب في الموضوع أطرح فيه تصوري للأغنية المغربية، خاصة أغنية المجموعات الخالدة التي ذكرت. وفي خضم بحثي في تراث مجموعات حقل الغيوانيات اصطدمت بظاهرة معقدة أسميتها "بالانشطارية" la fragmentation داخل هذه المجموعات؛ فبالأمس خرج عبد الرحمن باكو، شافاه الله، من جيل جيلالة ليلتحق بالغيوان، وخرج مولاي عبد العزيز الطاهري من الغيوان، وتنقل في أماكن عدة ليخلد إلى أعماله الموسيقية الخاصة وتأملاته الفردية. وفجأة خرج باكو من الغيوان وأسس باكو الغيوان ثم مجموعة أخرى يشكل أبناؤه الفنيون عمودها الفقري. وسنحدث من أمر باكو ذكرا في كتابنا المذكور. وتعرضت أيضا مجموعة إزنزارن لانشطار قوي نتيجة خلافات ومنافسات تافهة، فتشكلت إزنزارن عبد الهادي، وإزنزارن الشامخ. وقد صرح لنا الفنان الكبير وصديقنا العزيز إكوت عبد الهادي، بكل شجاعة وصراحة أن الرغبة في التحدي والمنافسة وإثبات الذات كانت عوامل محددة لإصراره على إسم إزنزارن، ولو اختار عبد الهادي اسما آخر لاشتهر اشتهار عبد الهادي نفسه. فالمعادلة في الأخير مرتبطة بالمبدع وبطاقته ومواهبه. ولم نكد نستوعب حالات الإنشطارية التي مست المجموعة الأسطورة ناس الغيوان، حتى تفاجأنا بمغادرة الفنان محمد الدرهم لمجموعة جيل جيلالة. ولم تنجح المساعي التي بذلت في الحفاظ على وحدة المجموعة، ولكن يحسب للفنان الدرهم أنه لم يجادل في الإسم ولم يتعصب لشيئ. بل كان هو، ربما، الخاسر من الوجهة المادية. ولكن همة الفنان الدرهم وثقته في ذاته وإمكاناته جعلته ينظر إلى المستقبل ويعمل بجد لإبداع فني راق، مع الحفاظ على تراث جيل جيلالة كتراث شامخ لكل المغاربة الذواقين للفن الرفيع، لايحق لأحد المساس به أو تعريضه للامتهان. وظاهرة الانشطارية la fragmentation ظاهرة خطيرة مست الحركة الفنية المغربية الملتزمة عبر مسارها التاريخي ومازالت. إن دراساتي لهذا اللون الفني المغربي جعلتني أخرج بنتائج من قبيل أن المجموعات المشكلة لحقل الغيوانيات، هي حالات فنية ووجدانية ومقامية. وقد عبر المرحوم العربي باطما عن ذلك أكثر من مرة؛ فالغيوانية يتداخل فيها ماهو نفسي وماهو مقامي وماهو فردي وماهو جماعي، وماهو إيقاعي وماهو صوتي، بل وتتداخل المجموعات المذكورة بجمهورها بشكل جنوني وصاخب. كما استطاعت العناصر المشكلة لها ترك بصمات خالدة على الأغاني وعلى شكل أدائها؛ فأنا مقتنع جدا بأن الفنان محمد الدرهم، مثلا، يصعب تعويضه في المجموعة، كما يصعب بالمقابل، محاكاة أداء المجموعة من دون مشاركة عبد الكريم ومولاي الطاهر وحسن ومصطفى. هذا أمر نلمسه أيضا في مجموعة ناس الغيوان رغم إضافة الأخوين باطما، رشيد وحميد؛ فالعربي باطما وعبد الرحمن باكووعمرالسيد وعلال، كانوا من سنخ التجربة الوجدانية الغيوانية، وكذا بوجمعة حكور. الأمر نفسه يقال بالنسبة للمشاهب؛ فغياب الشريف والسوسدي وسي محمد باطما، ليس سهلا تعويضه؛ فلا أحد من محبي المشاهب يمكن أن ينسى القيمة الفنية، من حيث الصوت والأداء، للفنان محمد السوسدي. لقد كانت رسالة المشاهب هي الارتقاء بالذوق والسمو بالإنسان وتحقيق لحظات من العنفوان الروحي والجمالي. هذا هو أفق مجموعة يامجمع العرب، وبعدما كونت في نومي هاني،وأمانة،وحب الرمان،ويومك جاك ،والصايك تالف، وفلسطين، والجنود ...وغيرها من روائع الأغاني التي سكنت عقل الإنسان المغربي واستوطنت وجدانه. إن المشاهب بدون السوسدي ستبقى ناقصة، أولا لكارزميته الفنية، وثانيا لخصائصه الصوتية؛ورغم أن صوته قدعرف بعض التحولات، كما فقد بعض معالمه بحكم السن، فقد حافظ ،رحمه الله،إلى نهاية حياته على طاقته الأساسية وشكل نطقه للكلمات والألحان ،كما حافظ على حباله الصوتية التي كانت يوما تهز المسارح والقاعات .حاولت المجموعة أكثر من مرة تعويض العناصر المفقودة محمد باطما والشريف الأمراني وأتاحت الفرصة لأوجه جديدة ومبدعة، خاصة العازف على الماندولين إبراهيم الروداني، تلميذ الشريف الإمراني؛ والذي حاول بكفاءة عالية تعويض الشريف عزفا والسوسدي صوتا، لكنه افتقد صرامة الشريف وحيويةالسوسدي . كما برز ضمن المجموعة في فترة قصيرة الفنان الميموني المختار، صوت تطوان الجميل والذي تفوق إلى حد كبير في تعويض صوت المرحوم محمد باطما بشكل مثير للانتباه،لكن غابت عنه بحة سي محمد وتقاسيم وجهه الناطقة بالألم والمعاناة. وعادت الفنانة سعيدة بيروك بكل عنفوان وتوثب،والتي كان صوتها الرقيق قيمة مضافة في الأداء الصوتي للمجموعة. فالسوسدي ،رحمه الله ،يعترف بأن سعيدة كانت إضافة نوعية للمجموعة؛ "فقد إلتحقت بها وهي فتاة صغيرة، في وقت كان محرما فيه على النساء مجال الغناء والمسرح؛ لقد كان عنوان التحدي والعنفوان أن تحمل فتاة بنديرا وتغني رفقة مجموعة كلهم رجال"، وبجانب زوجها. فقد أعطت، برأي السوسدي، للمجموعة طعما خاصا. (أنظر الاتحاد الاشتراكي عدد 7043، الجمعة 22 نونبر 2002م) . أكيد لم تكن الطاقات الشابةالجديدة في مستوى أداء الأقطاب المؤسسين خاصة الشريف ومحمد باطما ومحمد السوسدي؛ فالشريف مدرج موسيقي يمشي، وباطما بحر هادر من الأصوات والألحان لايتوقف،والسوسدي خزان اجتماعي من الصيحات والالام والايقاعات. عرفت مجموعة المشاهب خلافات شخصية بين أفرادها، وهي موجودة في كل التجمعات البشرية،ولم تنج منها مجموعة غنائية مغربيةحتى تلك التي يشكلها أفراد العائلة الواحدة نموذج "الاخوة مكري"و"الاخوة بوشناق"و"مجوعة إمغران"الأمازيغية،خلافات وصل بعضها الى المحاكم. وفي المشاهب برزت منذ الأيام الأولى لتشكل المجموعة واستمرت في حضور المرحوم الشريف وبعد موته، وفي حضور الأستاذ البختي وفي غيابه. ولم يكن أحد من محبي هذه المجموعة يجهل خلافات الشاذلي مع السوسدي ومع الشريف، أو سعيدة مع سي محمد باطما وغيرها ،ولكن بقيت المشاهب شامخة. ابتدأ محمد السوسدي،رحمه الله، نشاطه الفني مسرحيا مع مسرح الخلود بالحي المحمدي، ولن ينسى له الجمهور مسرحيات "البطالة" و "الجاسوس" وهو ابن 18 سنة . أسس رفقة امبارك الشاذلي مجموعة أهل الجودة على غرار ناس الغيوان، منذ سنة 1971، رفقة نور صالح وسعيد وعبد الرحيم. ومازال محبو المجموعة يتذكرون أغاني "اليام تشيبني وأنا صغير"، و "سيدي جابر" و "الغادي بيا" و "الكناوي". وقد قامت المجموعة بجولة ناجحة في الجزائر. وبعد عودتها، التحق السوسدي رفقة الشاذلي بمجموعة أخرى هي فرقة "الدقة". ختما عروضهما مع هذه المجموعة في جولة بهولندا، حيث استقرا لمتابعة التكوين في الموسيقى والمسرح والسينما. هناك بهولندا اتصل سي محمد باطما بالشاذلي والسوسدي للانضمام إلى المجموعة. وعند العودة إلى المغرب تكلف بالملف الأستاذ البختي فضم العنصرين إلى مجموعة المشاهب، وكانت تتكون عندها المجموعة من أحمد الباهري ومحمد الباهري والشريف وسعيدة وسي محمد باطما. هذا هو سياق انضمام السوسدي إلى مجموعة المشاهب، كما حكاه بلسانه. والسوسدي نفسه يصرح بأن بختى هو رئيس مجموعة المشاهب والتصريح كان في إسمه .وذكر السوسدي أن انضمام حمدي إلى المجموعة أعطاها نكهة خاصة، نظرا للصوت الذي حباه الله به، وقد استطاع من غير عناء أن يكسب ود الجمهور وحبه، وكأنه يشارك معنا منذ الإنطلاقة (الاتحاد الاشتراكي، عدد 7032، الإثنين 11 نونبر 2002م) . المشاهب اليوم ،بقيادة الصديق كسرى،تحاول أن تعيد سيرتها وتنبعث من جديد، كانت ستكون أكثر تألقا بوجود السوسدي،لكن القدر لم يمهلها.وستبقى المشاهب مدرسة وتجربة متميزة ، عبر من خلالها شباب عما يشغلهم، وامتلكوا فيها نضجا موسيقيا، كما صقلوا مواهبهم في الكتابة؛ فالشاذلي مثلا تخصص في الكتابة عن القضايا القومية، والسوسدي عن القضايا الاجتماعية، وسي محمد باطما كانت كتابته قريبة من الفلسفة والحكمة والتصوف والقيم. كما تربى في مدرسة المجموعة شباب كثير، أصبح لهم حس جميل، وطموح وسمو. وكانت مجموعة المشاهب تعتمد على إمكاناتها الخاصة، ويعيش أفرادها حياة بسيطة؛ فهي لم تكن شركة أسهم، بل انطلقت في رحلتها الفنية بكل تحد وإصرار وبعفوية وصدق. فالمشاهب، إلى جانب الغيوان وجيلالة والسهام وإزنزارن ، رفضوا أن يكونوا مجرد فولكلور تافه يؤثث فضاء سياحيا رديئا أو حفلة باذخة، يستبعد منها الفقراء والمساكين، بل عاشت وسط الشعب وفي أعماق الوطن، وغنت للقضايا المصيرية للأمة،وتنبأت بسليقتها الفنية وصدق رسالتها بما يعرفه العالم العربي اليوم من انتفاضات.مجموعة غنت الألم ولحنت المأساة.ثار زجالها الصوفي محمد باطما على من لم يستوعب رسالتها وأفقها ؛فألقى بمرثية ناقدة ومات،تقول بعض أبياتها: مانتوما مشاهب ولاانتوما نيرانها ماانتوما غابا ولاانتموما فيرانها رحم الله الفنان محمد السوسدي،وإنا لله وإنا إليه راجعون.