حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدل اللغة والفكر في مشروع محمد عابد الجابري
نشر في هسبريس يوم 04 - 05 - 2012

يرى تشومسكي أن اللغة واحدة من الخصائص المقصورة على النوع الإنساني في مكوناتها الأساسية؛ فهي جزء من الإعداد الإحيائي المشترك الذي لا يختلف فيه أعضاء النوع الإنساني إلا من أصيب بعيب عضوي شديد. ويضيف أن اللغة تدخل بطريقة جوهرية في الفكر والفعل والعلاقات الاجتماعية . من هنا نستنتج أن البحث في قضية اللغة، مهما كان منهجه وغاياته، يحيلنا مباشرة إلى علاقة الإنسان بالظاهرة اللغوية، وإلى طرح تساؤلات مبدئية حول ديمومة لقاء الإنسان باللغة منذ بدايته. والتفكير في هذا الأمر، على تنوعه وطرافته، تكتنفه مضايقات نظرية ومنهجية؛ أولاها التفكير في اللغة وباللغة في نفس الوقت، أو بعبارة أخرى اعتبار اللغة مادة للفكر وموضوعا له.
لقد شكلت اللغة، لذلك، شاغلا من شواغل حقول المعرفة المتعددة، واحتلت في المنظومة الفكرية الحديثة أسمى الأمكنة في مستويات الظاهرة الفكرية، بل صار متعذرا البحث في أصول المنهجيات الفكرية، دون وصف الأصول اللغوية لها أو كشف الجذور المتواشجة بين أطروحاتها والأسس المرجعية اللغوية المستندة إليها. فاللغة ذات سلطة تصورية، تمارس تأثيرها على متكلمها؛ إذ بسبب كونها نظاما رمزيا لا شعوريا تفرض على أفرادها نظم ترميز معينة تكون بمثابة أسس ومرجعيات ثقافية للتفكير؛ فحسب إدوارد سابير "الناس لا يعيشون في العالم الموضوعي فقط، ولا في عالم النشاط الاجتماعي كما يفهم في العادة، بل هم واقعون تحت رحمة اللغة التي أصبحت وسطا للتعبير في المجتمع الذي يعيشون فيه. وإنه لمن الوهم كليا التخيل بأن أحدا يتلاءم مع الواقع من غير ما استناد إلى اللغة، وأن اللغة مجرد وسيلة عارضة لحل مشكلات التوصيل والتأمل. فواقع الأمر يكمن في أن "العالم الواقعي" مبني إلى أقصى مدى بناء لا شعوريا على العادات اللغوية للجماعة" . وعليه، فقد تبنت أغلب الدراسات اللغوية الأطروحة القائلة بأن منظومة لغوية ما تؤثر في رؤية أهلها للعالم، وخرجت بخلاصات مفادها أن اللغة التي تحدد قدرتنا على الكلام هي نفسها التي تحدد قدرتنا على التفكير.
ويذكر الجابري،رحمه الله، في بداية تناوله لهذا الموضوع، أن الأمر لا يتعلق بتناول العلاقة بين اللغة والفكر من الناحية المنطقية – الفلسفية، ولا من الناحية السيكولوجية، ولا حتى من الناحية اللسانية السيميائية، وإنما يندرج عمله في إطار ما يسمى: "الإبستمولوجيا الثقافية"؛ أي البحث في أساسيات المعرفة، ونظامها وآليات إنتاجها داخل الثقافة العربية، انطلاقا من مسلمة أن كل ثقافة تحمل جنسية اللغة التي تنتجها. ولتبرير دور اللغة العربية الرئيس في تشكيل العقل العربي، يرى الجابري أن "العربي يحب لغته إلى درجة التقديس، وهو يعتبر السلطة التي لها عليه تعبيرا ليس فقط عن قوتها، بل عن قوته هو أيضا؛ ذلك لأن العربي هو الوحيد الذي يستطيع الاستجابة لهذه اللغة والارتفاع إلى مستوى التعبير البياني الرفيع الذي تتميز به".
وعلى الرغم من أن آراء الجابري حول قضية اللغة والفكر مبثوثة في ثنايا مشروعه العلمي إلا أنه يمكن اعتبار الفصل الرابع من الجزء الأول، المعنون ب "الأعرابي صانع "العالم" العربي" بمثابة تفصيل وتكثيف لكل آرائه في هذا الموضوع؛ حاول فيه الوقوف، حسب تعبيره، على الكيفية التي تحدد بها اللغة العربية الفصحى نظرة العربي إلى العالم. وعمل على رصد خصوصيات العلاقة بين اللغة والفكر العربيين على عدة مستويات أهمها: مستوى المادة اللغوية ونوع الرؤية التي تقدمها عن العالم، ومستوى القوالب النحوية وطبيعتها المنطقية، ومستوى أساليب البيان العربي وطبيعتها الاستدلالية.
وإيمانا منا، مسبقا، أن هذا الدور الذي أعطاه الجابري للغة العربية في تحديد ماهية الإنسان العربي، هو أمر مبالغ فيه؛ إذ لج بنا في تأملات فلسفية "ميتافيزيقية"، بعيدا عن التناول الإبستمولوجي الذي ألزم الجابري نفسه به، فإننا سنحاول عرض آرائه، لما في بعضها من جدة تحليل ودقة ملاحظة، ولما يحتاج إليه بعضها من نقد بل تصويب. كما نلفت الإنتباه إلى أن الوقوف عند قضية لغوية واحدة، أي قضية اللغة والفكر، لا يعني تجاهل قضايا أخرى ذات طبيعة لغوية في المشروع، ولكن مسوغ عملنا هذا هو اعتبارنا قضية اللغة والفكر الأصل والمركز وما دونها فروع وهوامش.
1-المادة اللغوية ورؤية العالم
يرى الجابري أن عصر التدوين هو عصر البناء الثقافي في التجربة الحضارية العربية الإسلامية، ويمتد زمنيا بين منتصف القرن الثاني والقرن الثالث للهجرة. وينبه الجابري إلى أن عصر التدوين لا ينبغي أن يفهم فقط في ذلك العمل الجبار الذي بذله علماء العربية في الجمع والتسجيل والتقييد، بل ينظر إليه كإعادة البناء الثقافي، وتشكيل الإطار المرجعي للفكر العربي بمختلف ميادينه. إنه عملية الحذف والزيادة والإبراز والإخفاء والتأويل بدوافعه السوسيوثقافية المتعددة؛ هو العصر الذي دونت فيه اللغة العربية، وشيدت فيه العلوم العربية الإسلامية، وترجمت "علوم الأوائل" وفلسفاتهم.
ويخلص الجابري إلى أنه إذا كانت الفلسفة هي معجزة اليونان فإن علوم العربية هي معجزة العرب؛ إذ لا يمكن للمرء إلا أن يقف مجلا ذلك العمل العظيم الذي أنجز في عصر التدوين؛ فهو أشبه شئ بالمعجزة ، نظرا للسرعة التي تم فيها الانتقال بلغة قائمة على الفطرة والطبع والسليقة، لغة لا تفهم إلا بالعيش وسط القبائل التي تتكلمها، إلى لغة قابلة للاكتساب والتعلم كما تتعلم العلوم اعتمادا على مبادئ ومقدمات منهجية صارمة. إنه بكلمة واحدة، حسب الجابري، "الانتقال باللغة العربية من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم" ؛ علم اللغة متكاملا، بجمع المفردات وإحصائها، وضبط المشتقات وتصريفها، ووضع قواعد التركيب، ورفع اللبس عن الكتابة باختراع النقط والشكل ووضع العلامات والرموز. ويذكر الجابري أن ما يهمه أكثر هو "عملية البناء ذاتها، تلك العملية التي لا سبيل للشك فيها كحدث تاريخي؛ إن شئنا الدقة أكثر قلنا ما يهمنا في عملية البناء تلك، ليس مواد البناء، أعني المعطيات التاريخية، بل طريقة البناء وفعل البناء نفسه" . من هنا حاول الجابري طرح أسئلة ملحة حول زمن بدء الوعي العربي بالتفكير في عملية البناء تلك أو التدوين. ولتفكيك عناصر تلك التساؤلات للمقاربة والتحليل، ذكر الجابري أن مرحلة الوعي تلك ابتدأت مع مهاجمة الشعوبية للماضي العربي والطعن فيه فكرا وثقافة وحضارة، فكان رد الفعل العربي الطبيعي هو الدفاع عن الماضي العربي، خاصة العصر الجاهلي، بل تحول الأمر إلى دفاع عن الهوية والوجود؛ فأضحت مسالة التدوين، إذن، مسالة مصير؛ فالماضي يهاجم لا من أجل ذاته، ولكن من أجل الحاضر والمستقبل.
أمام هذه الظروف النفسية والحضارية والتاريخية اكتسب التدوين شرعيته وتوضحت ضرورة البناء الثقافي الشامل.
إن عملية التدوين، تحت هذه الضغوط النفسية، حسب الجابري "هي إعادة ذلك الموروث الثقافي بالشكل الذي يجعل منه، تراثا "أي إطارا مرجعيا لنظرة العربي إلى الأشياء، إلى الكون والإنسان والمجتمع والتاريخ" . من هنا يخلص الجابري إلى أن عصر التدوين بالنسبة للثقافة العربية إنما هو الإطار المرجعي الذي يشد إليه بخيوط من حديد جميع فروع هذه الثقافة، وتضم مختلف تموجاتها اللاحقة (...) إن صورة العصر الجاهلي، وصور صدر الإسلام والقسم الأعظم من العصر الأموي إنما نسجتها خيوط منبعثة من العصر التدويني . لقد ترابطت إذن بنية العقل العربي مع العصر الجاهلي، "لا العصر الجاهلي كما عاشته عرب ما قبل البعثة، بل العصر الجاهلي كما عاشه في وعيهم عرب ما بعد ترتيبه وتنظيمه في عصر التدوين".
إن اعتقاد الجابري، كما أسلفنا، بأن اللغة ليست أداة للفكر فقط، بل هي أيضا القالب الذي يتشكل فيه هذا الفكر ، جعله ينظر إلى اللغة العربية الفصحى، لغة المعاجم والشعر والآداب، على أنها ما زالت تنقل لأهلها عالما بعيدا عن عالمهم؛ عالم البداوة الذي استنسخته اللغة العربية في العصر الجاهلي. يعيشونه في أذهانهم ووجدانهم وخيالهم، وهو يعاكس تماما عالمهم الحضاري الآني والمعقد. وعلى هذا الأساس بنى الجابري خلاصته المركزية وهي أن الأعرابي فعلا هو صانع العالم العربي؛ عالم البساطة والبداوة والحس ! فما كفاية هذه الخلاصات وما مصداقيتها؟.
أولا لا بد من التنبيه إلى أن للتدوين أهميته وخطره؛ فالمادة المدونة هي الأساس الذي منه يلتقط المرء صنوف المعرفة التي يثقف بها نفسه ويروض بها عقله، ثم تختمر فيه لتجعل منه بعد ذلك منبعا معطاء سواء في مجال التصنيف والتبويب، أو في فن الكتابة والتأليف، أو في تشكيل ثوابت التفكير العقلي وإنتاج المعرفة العلمية. ولكن إذا تساءلنا عما إذا كان هناك تدوين قبل الإسلام في النطاق العربي، فكيف تصير رؤية الجابري لعصر التدوين هذا؟ وإذا اعتبرنا أن وضع اللغة العربية على أساس من الحس ومن الرصيد الحسي، مما لا يمكن أن نفرد اللغة العربية وحدها به، إذ لا يمكن أن نخرج منه أية لغة من اللغات الطبيعية والتي لا بد أن تنبني في أساسها على رصيد حسي، فكيف يكون الأعرابي صانعا للعالم العربي؟
الواقع أن التدوين بالشكل المألوف الذي يؤدي إلى صور المعرفة متعددة الألوان لم يكن معروفا قبل الإسلام، باستثناء حالات قليلة لا تنهض أساسا يمكن أن ننطلق منه إلى عطاء يؤدي إلى معرفة واسعة لإنتاج علم متميز، وبالتالي تجاوز رؤية الجابري لعصر التدوين الذي حصره زمانيا في مرحلة تالية للعصر الجاهلي.
إلا أن الثابت أن بعض القبائل العربية خاصة الحميريين كانت تدون أخبارها والكثير من حوادثها على الأحجار بخطها ورموزها الخاصة بها. وعرف على أطراف الجزيرة العربية أهالي الحيرة بالكتابة وإن بشكل محدود. وفي الحجاز وجد عدد قليل من الناس يعرفون الكتابة. وكانت قلة من الشعراء كذلك تعرف الكتابة بل كان بعضهم يكتب قصائده وينسقها بنفسه ويراجعها من حين لآخر.
ولا يمكن أن تعتبر هذه الأعمال إلا شكلا من أشكال التدوين، رغم بساطتها ماديا وعمليا؛ إذ تبقى على مستوى الوعي بعملية التدوين مهمة، ويكون بذلك الجمع والتدوين منطلقين من اقتناع تلقائي منبعه الأوضاع الحضارية والتاريخية الطبيعية للبلاد العربية ، وليس فقط منطلقه ردود أفعال على هجمات الشعوبية وطعونها كما ذكر الجابري؛ إذ لو لم تكن الشعوبية فهل سنظل في المرحلة الثقافية الشفوية إلى اليوم؟
أما القول بأن الأعرابي صانع العالم العربي، اعتمادا على المنهج الذي سلكه جامعو المادة اللغوية، فهو في نظرنا تعميم يحتاج إلى المراجعة للأسباب الاتية:
1. الحديث عن تحكم الأعرابي في العلماء وآرائهم بالتصويب والتخطئة، لما اكتسبه من صفتي البداوة والفصاحة، وتحوله إلى قانون ينصاع له العلماء وينفذون مشيئته، كلام مبالغ فيه ؛ فلقد أكدنا منذ البداية أن جمع اللغة من البدو لا يدل دلالة قاطعة على أن الحصيلة: لغة بدوية، وكذلك الحضارة والفكر؛ فتوجه العلماء إلى البدو كانت تحكمه رؤية منهجية صارمة تحاول رصد متكلم مستمع مثالي يعيش في مجتمع متجانس لغويا، يتقن لغته إتقانا ولا تؤثر في سلوكه أية عاهة. إنه بحث عن قيم نسقية مجردة تحكم لغة الأعرابي وتصف سليقته. إضافة إلى أن أخذهم لغة الأعرابي لم يكن على مستوى التركيب بالدرجة الأولى، كما لا يشكل المعجم إلا مستوى بسيطا جدا. وعليه يجب التركيز على جميع المستويات صوتيا وصرفيا ومعجميا وتركيبيا ودلائيا وتداوليا. إن بناء علاقة اللغة والفكر انطلاقا من المعجم يدل على خلل في التصور اللساني للظاهرة اللغوية بجميع مكوناتها.
2- الطابع الحسي للغة العربية:
إذا سلمنا بتداخل اللغة مع الفكر والتصورات، فالفكر نفسه يعتمد على جهاز الحواس، واللغة بدورها تنطلق من مفاهيم حسية لتطورها إلى أخرى تجريدية في إطار عملية تطور ذاتي يتجاوز ما هو مادي شكلي إلى ما هو معنوي تصوري، وإلا كيف نفسر قاموس الغزل العربي برمته، وكذلك الرثاء وما يزخران به من مفاهيم معنوية كالشوق والحب والهجران والحزن والأسى... وغيرها من المفاهيم التي تنبئ عن عقلية تجريدية لا حسية فقط. أضف إلى ذلك القاموس الصوفي الضخم، الذي لا نبالغ إذا قلنا بطابعه التجريدي كلية؛ فالرصيد الحسي، إذن، ضروري في بناء أية لغة من حيث هو أساس وأصل للانتقال إلى المستوى التصوري التجريدي.
إن ضبط الجابري لعلاقة الفكر واللغة من هذه الزاوية أي "الطابع الحسي" ينم، كما أسلفنا، عن افتقاد برنامج لساني ذي تصور نظري منهجي متماسك، يؤطر فيه تناول الظاهرة اللغوية، بل على العكس من ذلك نجد تحليل الجابري يطبعه كثير من التعميم والحسم في قضايا لغوية هي إلى الآن مثار نقاش وجدال في الوسط اللساني الأكاديمي. وكان أجدر بالجابري أن يؤطر تحليله هذا في إطار علمي مضبوط، وليس في إطار الإسقاطات الفلسفية كما كان عند النحاة الفلاسفة. وكان عليه تجاوز تلك العلاقة المبهمة والغامضة ذات الطابع الفلسفي الميتافيزيقي بين اللغة العربية والفكر العربي. إن طغيان التصور الفلسفي في التحليل هو ما أسقط الجابري في عدد من الثغرات ليس أقلها الخلط بين تناول اللغة في إطار عمل لساني موضوعي له محدداته وضوابطه، وبين تناولها في إطار ثقافي عام تحكمه دعاوى غير مدلل عليها، إن كانت لها مسوغاتها الواقعية والتاريخية فهي تفتقد الاستدلال اللازم.
وجماع القول: إن رصد العلاقة بين اللغة والفكر من هذه النقطة في مشروع الجابري اوقفنا على تقصير واضح في الكفاية النظرية والإجرائية؛ فالخلل وقع منذ البدء، وهو عدم طرح مبادئ ومسلمات نظرية وقرارات منهجية موازية على شكل تساؤلات محورية تمسك بتلابيب الظاهرة اللغوية في عمومها من نحو :
1. ما الذي يميز اللغات الطبيعية عن غيرها من اللغات؟
2. ما هي السمات التي تلتقي فيها اللغات وما هي السمات التي تختلف فيها؟
3. إلى أي مدى تغيرت اللغات وإلى أي مدى ظلت قارة؟
3.مالعلاقة بين أساليب البيان العربي والهوية الاستدلالية
يرى الجابري أنه إذا كان السماع من الأعرابي قد رسم حدود العالم الحسي الذي تنقله اللغة العربية الفصحى إلى متكلميها، فإن مجهود النحاة قد( قولب) العقل الذي يمارس فعاليته في اللغة العربية وبواسطتها. وذهب إلى حد القول بأن السماع من الأعرابي لم يكن من أجل أخذ اللغة، فحسب، بل وفي أحيان كثيرة، من أجل "تحقيق" و"تثبيت" فروض نظرية في اللغة والنحو ؛ فتحولت اللغة المعجمية بذلك إلى لغة "إمكان ذهني" لا لغة "إمكان واقعي"، لكلمات صحيحة لاتتوفر على أصل ترد إليه أو نظير تقاس عليه. وأصبحت اللفظة في الغالب فرضا نظريا وليست معطى من معطيات الاستقراء أو التجربة الاجتماعية. ولتناول هذه القضية اتخذ الجابري منهج الخليل أنموذجا لتحليله.
أوضح الجابري أولا أن ما شده كباحث إبستمولوجي معاصر، وهو يتناول منهج الخليل في جمع اللغة وهيكلة معجمه "العين"، هو ذلك المبدأ المنهجي الدقيق الذي اعتمده في فرض النظام على شتات اللغة العربية؛ مبدأ ينم عن عقلية رياضية فذة، عقلية ذات ذوق موسيقي مرهف ساعد الخليل في استنباط أوزان الشعر العربي . لقد وظف الخليل، إذن، حدسه الرياضي الحاد في وضع قوالب نظرية افتراضية لا تعدم أصولا في واقع اللغة.
بل ذهب الجابري إلى أن الخليل بتعامله مع الحروف العربية الهجائية الثمانية والعشرين كمجموعة أصلية اشتقت منها المجموعات الفرعية الكاملة فيها، والمشتملة على عنصرين إلى خمسة عناصر، إنما كان يطبق بوعي جانبا أساسيا من العمل الرياضي المؤسس لنظرية المجموعات في صيغتها المعاصرة . إن منهج الخليل، بنظر الجابري، على دقته وضبطه، كان سيفا ذا حدين؛ فمن جهة قنن اللغة العربية وجعلها علمية مضبوطة، ومن جهة ثانية، ونظرا لتعامله الرياضي الصرف مع الحروف الهجائية العربية، وحصره لأنواع الألفاظ الممكن تركيبها منها ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية، ينظر إلى هذا العمل على أنه وضع للغة العربية بالجملة، وصب لها في قوالب نظرية جاهزة، مما عمل على تحصين العربية من كل تغير وتطور تاريخيين. فبقيت اللغة العربية منذ زمن الخليل هي هي، لم تتغير لا نحوا ولا في معاني الألفاظ ولا في طريقة التوالد الذاتي، فتكرست لا تاريخية اللغة وبقيت في طابعها الحسي البدوي الأول.
لقد أطر النحاة، إذن، كلام العرب في قوالب منطقية صورية وصوتية في الغالب، بل فرضوها ليبقوا على اللغة العربية كلغة مصطنعة في قوالب جامدة ذات نغمة موسيقية، حتى أصبحت الموسيقى تحل محل المعنى وتجعل مصفوفة من الكلمات ذات معنى حتى ولو لم يكن لها معنى ! بكلمة واحدة، أصبحت الأذن تنوب عن العقل في تمييز المعنى بل وتعشقه قبله. وفي ذلك يقول أحد الباحثين اللسانيين: "إن قوالب الألفاظ وصيغ الكلمات في العربية أوزان موسيقية؛ أي أن كل قالب من هذه القوالب وكل بناء من هذه الأبنية نغمة موسيقية ثابتة(...) فأشكال الألفاظ في العربية هي من جهة أبنية وقوالب وهيئات، ومن جهة أخرى أوزان موسيقية تدركها الأذن بسهولة ويسر، فيدرك السامع جزءا من المعنى بمجرد إدراكه وزن الكلمة. واتفاق الألفاظ في الوزن دليل في غالب الأحوال على الإتفاق في قالب المعنى أو نوعه كالآلية والمكانية والتفضيل أو المفعولية، فالكلام العربي، نثرا كان أو شعرا، هو مجموع الأوزان، ولا يخرج عن أن يكون ترتيبا معينا لنماذج موسيقية. والمقابلة بين نغمة الكلام وموضوعه قائمة واضحة في اللغة العربية . إن الطابع المنطقي للقوالب النحوية العربية، كما يرى الجابري، لا يمكن التثبت منه إلا بعقد مقارنة لا تخلو من فائدة بين هذه القوالب النحوية والمقولات الأرسطية. فالبعض يرى ارتباطهما الوثيق؛ إن لم تكن القوالب النحوية العربية قد استخلصت من مقولات أرسطو. ولإيجاد مسوغ المقارنة يؤكد الجابري على أن طريقة اللغويين بشكل عام تعتمد الاشتقاق . هذه العملية التي تؤخذ من صيغة الفعل أو مما هو في معناه كالمصدر. وعملية الإشتقاق لا تخضع للسماع، بل وضعت لها أوزان هي قوالب منطقية بالنسبة للنحو والنحاة؛ كالمقولات بالنسبة للمنطق والمناطقة.
إن التفكير، إذن، في اللغة العربية وفي اللغات السامية عموما، ينطلق من الفعل عكس اللغة اليونانية واللغات الآرية، وهذا ما يسوغ وضع جدول مقارنة بين "الجوهر" وما يحمل عليه في منطق أرسطو، وبين "الفعل" وما يشتق منه في النحو العربي .
عند أرسطو عند النحاة العرب
الجوهر الفعل
الكم إسم المرة، أمثلة المبالغة
الكيف إسم الهيئة، الصفة المشبهة، أفعال التفضيل
الإضافة ؟
المكان إسم المكان
الزمان إسم الزمان
الوضع ؟
الملكية ؟
الفعل إسم الفاعل
الانفعال إسم المفعول
؟ المصدر
؟ إسم الآلة
ومن الملاحظات التي استخلصها الجابري من هذه المقارنة، هي أن غياب مقولات الإضافة والوضع والملكية من المشتقات النحوية العربية مرده إلى مرجعية لغوية ميتافيزيقية وحيدة، لا تستسيغ حمل هذه المقولات على الإنسان؛ لأن الدين يمنع ذلك، إنها تحمل فقط على الإنسان في التعبير اللغوي على سبيل المجاز؛ فالمالك هو الله وما يضاف للإنسان هو من عند الله، وكذلك الوضع هو من عند الله. وبالمقابل فخلو مقولات أرسطو من المصدر وإسم الآلة راجع إلى تصور فلسفي منطلقه أن المصدر عند النحاة هو ما يدل على فعل دون زمان، في حين العقلية اليونانية تستبعد حدوث فعل خارج الزمان.
هذه خلاصة ما خرج به الجابري في تحليله للقوالب النحوية العربية، وهو يحاول دائما التأكيد على معطى مبدئي وأولي وهو أن اللغة العربية محدد أساسي في الفكر العربي، إلا أن ما خرج به من خلاصات يحتاج إلى تسجيل بعض الملاحظات النقدية:
في البداية، لا بد من التأكيد على أن الدراسات اللغوية العربية عموما والنحوية على الخصوص اتسمت بالصعوبة والتعقيد لانعدام التصور المنهجي السليم للظاهرة اللغوية، ولغياب التجديد في مناهج الدرس والتحليل، فوقع الخلط في التفكير اللغوي. ولهذا، فأي تناول للظاهرة اللغوية في هذا المستوى، لا بد وأن يضع أمامه هذه الاعتبارات. ثم إنا نعتقد أن الجابري وهو يناقش القوالب النحوية العربية، لم ينطلق مما ينبغي الانطلاق منه، وهو طرح الإشكالات الرئيسة التي ينبغي الخوض فيها؛ فغاب عنه أن البحث في النحو العربي يطرح إشكالا عميقا وهو مفهوم "النحو" في حد ذاته أولا، ثم المادة اللغوية والمعطيات اللغوية التي يقوم اللغوي بوصفها ثانيا. فلفظ "نحو" استعمل بكثرة في تحليل الجابري دونما تحديد. إنه لا تكفي إدانة النحاة القدماء حتى نظن بأننا نبحث في موضوع النحو؛ إدانتهم لإدخالهم أدوات ومفاهيم منطقية في تقعيداتهم، ولاصطناعهم تراكيب لم تكن موجودة في الواقع اللغوي ولم تتكلم بها العرب. لقد أهمل الجابري أن هدف الدراسة النحوية في عمومها "وضع قواعد من شأنها تمييز الأشكال الصائبة عن الأشكال الخاطئة؛ فهي ذات منحى معياري، إذ لا تولي أية أهمية للملاحظة الصرف، وترى أن عليها أن تسن قواعد بدل ملاحظة وقائع. غير أن لا مجال لمؤاخذة وجهة نظر النحاة بحيث تبين أعمالهم بوضوح نيتهم في القيام بوصف حالات Etats الألسنة، فبرنامجهم برنامج تزامني . إن الدراسة النحوية بهذا المعنى ذات طابع نفسي لساني وكذلك آلي، تطمح إلى بناء نماذج للاستعمال والإدراك. بكلمة واحدة، إن الجابري لم يكن ينظر إلى النحو كأداة واصفة تحاول تغطية المادة اللغوية وضبط السليم منها تحت توجيه قيود منهجية طبيعية في المجال التنظيري لا داعي للتضايق منها.
أما على مستوى المادة اللغوية فقد غيب الجابري تساؤلات مهمة حول المعطيات التي نجدها عند القدماء؛ فكما يؤكد اللساني المغربي عبد القادر الفاسي الفهري، فهذه المعطيات "ليست ناقصة أو غير ذات تمثيلية فحسب، بل هي أيضا معطيات زائفة في بعض الأحيان (...) لقد طرح النحاة على أنفسهم بكيفية ضمنية مشكلة تحديد المعطيات التي كانت في متناولهم، فلم تكن هذه المعطيات ذات تمثيلية بالنسبة لوصفهم، ولا ذات دلالة بالنسبة لتأملاتهم، ولقد اتخذ بعض النحاة، مثل سيبويه، احتياط الإشارة إلى أن ما يقدمونه من أمثلة يتنزل منزلتين مختلفتين؛ فبعضه من "كلام العرب"، أي أخذ عن الأعراب وسمع منهم، بينما البعض الآخر "تمثيل ولا يتكلم به"، أي يؤتى به لأغراض التحليل دون أن يكون معطى لغويا حقيقيا".
إن هذه الإحتياطات لم يأخذ بها الجابري، فكانت ملاحظاته على النحاة، خاصة الخليل، ناقصة بل غريبة لم تميز بين النحو الواصف للمادة اللغوية بشروطها المذكورة، وبين قراءة التراث النحوي العربي في إطار الهم الثقافي العام الذي ينهض مشروع الجابري الفكري ككل لتأسيسه،وبناء الذات بشكل نقدي من داخل التراث.
ففي نقد الجابري لمنهج الخليل، يرى أن هذا الأخير قد حول اللغة العربية إلى بنية صورية محصورة، وهذا أمر مخالف لما هو واقع؛ فاستعمال الخليل لمقولتي المهمل والمستعمل في تصنيفه خير دليل على انفتاحية اللغة لا على انغلاقها، بل إن ما استعمل من العربية إلى الآن هو قليل جدا مقارنة بما لم يستعمل أي المهمل، أضف إلى ذلك، وهذا أمر أكدناه في تحديد مفهوم النحو، أن الخليل كنحوي كان معتمده في التصنيف الوصف، ولم يكن في وقت من الأوقات يستنبط الألفاظ استنباطا. أما إضفاء مواصفات "الرياضي" عليه، فيستوجب الحذر وأخذ الكلام في بعده المجازي الاستعاري لا الحقيقي الواقعي. كما أن ظاهرة الاشتقاق التي وظفها الخليل كانت مؤشرا على الحركية الداخلية التي تميزت بها اللغة العربية ولم تكن أبدا عائق تطور أو تغيير؛ قال ابن جني متحدثا عن مبدأ التغير الطارئ على الظاهرة اللغوية: "... وهذا ونحوه مما يدل على تنقل الأحوال لهذه اللغة واعتراض الأحداث عليها وكثرة تغولها وتغيرها".
أما الحديث عن "نغمة الكلام وموضوعه"، أو موسيقية الألفاظ، وما ذكره الجابري وباحثون لغويون آخرون من أن المعنى يدرك بالأذن لا بالعقل، فإن القول بأن علماء العربية قد صبوا معانيهم العامة ومقولاتهم المنطقية في أبنية وقوالب خاصة لا يزكيه الواقع اللغوي؛ إذ في كلام العرب نفسه ما يخرق هذا الإدعاء؛ فمثلا كثيرا ما تأتي صيغة "فاعل" بمعنى "مفعول" أو "فعيل" بمعنى "فاعل"، فكيف يدرك المعنى في هذه الحالة؟
أما المقارنة التي عقدها الجابري بين مشتقات النحو العربي ومقولات أرسطو، فهي في حد ذاتها خير معبر على أن تصور الجابري اللغوي مشدود بشكل وثيق إلى التفكير الفلسفي القديم، خاصة الفلسفة اليونانية التي تعتبر اللغة اليونانية مقياسا للغات العالم. وحول مقارنة الجابري تلك، يجوز أن نقول له ما قاله أبو سعيد السيرافي النحوي لمتى بن يونس المنطقي في المناظرة المشهورة، قال له: " (...) أنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تعنى بها؟ وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها، ويتفاهمون بتصاريفها."
إن المرجعية اليونانية كانت النص الغائب عند الجابري، بثوابتها وخلاصتها؛ أي أن اللغة اليونانية في تراكيبها وطرقها صادقة على كل لغات العالم، إذ أن هذه اللغات تجري على مقياس اليونانية . ولسنا في حاجة هنا إلى التأكيد على أن هذه الأطروحة قد تجاوزها الدرس اللغوي الحديث، بل كشف ما تحمله من نزعات فلسفية ميتافيزيقية ضيقة. إلا أن الجابري أبى إلا أن يتجاوز معطيات الدرس اللساني الحديث، بل حتى منجزات تاريخ الفلسفة الحديثة فخرج بخلاصات غير مقنعة،بنظرنا،، كإرجاع غياب مقولة "الملكية" من الاشتقاقات النحوية العربية إلى التصور الإسلامي الذي يجعل الملكية لله وحده، وكذا مقولتي الوضع والإضافة.ويرجع عدم اقناع الجابري لتشبثه بالنموذج البرهاني الذي يسعى من خلاله لتجاوز "الأنظمة المعرفية التقليدية". هذا النموذج الذي يستند في مرجعيته إلى التفكير الأرسطي والذي يخلط بين الدراسات اللغوية والدراسات المنطقية والميتافيزيقية.
إن اعتراضنا على مقارنة الجابري، وكذا على اتهامه النحو العربي بالنزعة المنطقية، لم يكن ليغيب عنا علاقة النحو العربي بالفكر اليوناني؛ إذ إن العلاقة ثابتة ولكن ليس إلى حد القول بأن النحو العربي منقول بالكامل، أو على الأقل متأثر في منهجه وأصوله وقواعده بالفكر الإغريقي. إن هذه القضية ليست منتهية تماما كما أراد لها اللسانيون الوصفيون العرب، بل هي في حاجة إلى تحقيق تاريخي ونسقي متكاملين؛ مع اقتناعنا بأن "دخول المنطق إلى النحو لم يفد في إيراد نتائج أو مناهج أو أوصاف جديدة في اللغة، وإنما التغيير حصل في العبارات والصيغ، وإلا فالنحاة المتأخرون مثل المتقدمين لم يخرجوا إلا في جزئيات قليلة عن كتاب سيبويه (...) ولم تفد حدود المناطقة سوى أنها أدخلت الإضطراب على المفاهيم النحوية.
وإذا كانت القوالب النحوية في رأي الجابري تتضمن معنى المقولات المنطقية، فإن أساليب البيان العربي تشكل "برهان" الخطاب العربي؛ وأكبر نموذج صارخ بهذه الحقيقة، مجهود السكاكي الذي مزج الحديث عن البيان في مفتاح علومه بالحديث في الاستدلال، وهو مبحث منطقي صرف. ويرى الجابري أن لا مبرر لمؤاخذة السكاكي على ما اكتنف تنظيره من حشو وتطويل وتعقيد وتجريد وصل حد الترميز المبهم، لأنه يستحيل الفصل بين الخطاب المنطقي والخطاب البلاغي في التعبير العربي. وهذا رأي لا نراه ينسحب على مجموع الخطاب البلاغي العربي، بل يتعلق فقط ببلاغة علماء الكلام وبلاغة المناطقة والفلاسفة بشكل محدد.
ونحن لا نختلف مع الجابري في حديثه عن الفرق الكلامية، خاصة المعتزلة، وما بذلته لتشييد أركان البلاغة العربية لمواجهة منكري إعجاز القرآن من الزنادقة والشعوبيين؛ إذ نهضت الجهود لتحليل الخطاب العربي من داخله بحثا عن "دلائل الإعجاز" وكشفا "لأسرار البلاغة"، فاستكمل البلاغيون بذلك القسم الثاني من المنطق العربي، منطق اللغة العربية. ويرى الجابري أن النحاة قد ابتدءوا العمل بتقنين الخطاب العربي وتحديد مقولاته وقوالبه المنطقية، وتمم علماء البلاغة عملهم ذلك ببيان وجوه الإعجاز في نفس الخطاب، والكشف عن آلياته في البيان والبرهان. هذا الإعجاز البلاغي والبرهان البياني يراه الجابري شكلا من أشكال "القمع الإبستمولوجي" داخل الخطاب العربي، قوامه إخفاء الاختلاف وإظهار الائتلاف بواسطة مشاهد حسية ناطقة، تصرف المستمع عن المناقشة والإعتراض بل "وتفحمه" ليخرس على التو ويستسلم ! وسر هذا السحر الإعجازي يكمن في "التشبيه"، الذي يعرض سلسلة متوالية من الشواهد الحسية التي تنتقل بالذهن من فكرة إلى أخرى دون أن تترك للعقل فرصة السؤال. إن كثافة الصور البيانية في الخطاب البياني العربي تشغل السامع عن ملاحقة العلاقة بين المعاني قصد التثبت والتمحيص والمراجعة.
وبالتالي تكون حاجزا أمام التفكير العقلي المنطقي الواعي. بكلمة واحدة، إن الخطاب العربي في بعده الاستدلالي، حسب الجابري، ذو طبيعية لغوية بيانية، بعيدا عن الطبيعة العقلية المنطقية. فما هي حدود هذا الإدعاء؟
أولا: نؤكد مع الجابري أن التحدي الأول الذي رفعه القرآن الكريم في وجه منكريه هو إعجازه اللغوي؛ يقول أمين الخولي: "كانت الدعوة الإسلامية عملا بلاغيا قويا، أو شطرا واضحا من هذا العمل؛ إذ اعتمدت على حكم نقدي، وقامت على رأي في الفن القولي، تنتهي به إلى هذا الصنف من الكلام العربي (القرآن) مثالا لا يحتذى وغاية لا تنال. فضلته وهو من صنف كلامهم على سائر ما عندهم، وجاهرتهم بما جاهرتهم به، من عجزهم المطبق على أن يأتوا بمثله ولو ظاهرتهم الجن وآزرهم أهل عبقر، ممن نحلوهم كل فاخر باهر" .
إن هذا الإعجاز بجماليته البيانية لا يمكن أن يتحقق إلا بتصوير المعاني الذهنية والحالات النفسية تصويرا حسيا تشخيصيا، انسجاما مع المستوى الإدراكي التخييلي للإنسان . ولا يمكن أن نعتبر الأمر قمعا أو محاصرة تفكير.
ثانيا: إن العقل ليس معنى مدركا للجميع بطريقة واحدة، كما يذكر طه عبد الرحمن في جل كتبه؛ فانسجاما مع التصور الوظيفي والتحول الذي يحكم الفكر الحركي المعاصر يقتضي الأمر اعتبار العقل فعالية إدراكية تختلف باختلاف المكان والزمان والمعايير التي تشترط فيها بحسب الأهداف المرسومة للنظر العقلي: إن التفكير العقلي يمكن أن يكون علميا أو أدبيا أو فلسفيا.
وعليه فتناول الجابري للطبيعة الاستدلالية لأساليب البيان العربي لم تطبعه الدقة العلمية والوقوف عند أصول الاشتغال العقلي داخل الخطاب البياني العربي، فجاءت أحكامه معيارية غير مبررة في جوانب كثيرة؛ فالجابري في حديثه عن طبيعة الأسلوب البياني واللغوي العربي عموما، تجاوز أنه باعتباره متكلما للغة العربية من حيث هي لغة طبيعية ولغته الأم بالذات، كان ينطلق من مخزون ذاكري، بتعبير عبد القادر الفاسي الفهري، غير واع يجلي معرفته بتلك اللغة وملكته فيها؛ ومخزونه هنا عبارة عن معجم ذهني – نفسي، وأدوات لغوية وبيانية تساعده على تمثل معاني الكلام وظيفة وأصواتا، وتحكم بالتالي إدراكه اللغوي بمكوناته التحليلية، وليس الضوابط المنطقية الصارمة هي التي توجه إدراكه، والتي قد تساعده على تنظيم "فوضى الخطاب"، وليس في إدراك معانيه، وخلق حوارية تواصلية بين متكلم ومخاطبين.
رحم الله الفيلسوف محمد عابد الجابري،في ذكراه الثانية، فسيبقى حيا معنا بفكره وفلسفته ومقاربته كلما اعترضتنا إشكاليات فكرية ومعرفية ومنهجية، وفي خضم الجدل الذي نعيشه من أجل بناء جديد.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.