تمهيد: تروم هذه الدراسة الكشف عن أهمية التراث البلاغي واللغوي والنقدي العربي ، لسانيات التراث بمفهوم مصطفى غلفان ، ويقوم هذا المفهوم على القراء أي قراءة التراث لكشف مكنوناته الجوهري التي تصلح لمعالجة الكير من قضايا اللغة العربية الحالية ، من جوانب متعددة كالمعجم مجهودات الخليل الفراهيدي (ت174ه)،والنحو مجهودات صاحب الكتاب سيبويه (ت180ه)، الصوت والإيقاع العروضي الموسيقي يمكن الوقوف عند ابن سينا ،أما النقد بمعناه القائم على أسس علمية فيمكن الوقوف عند الجرجاني (ت471ه) صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، من خلال نظرية النظم ، وحازم القرطاجني (ت684ه) الذي وقف في منهاجه عند أفكار مهمة لشرح تناسق واتساق النص الشعري . لا يمكن الحديث عن لسانيات النص في التراث النقدي العربي ،دون الإشارة إلى بعض الرموز التي شيدت صرح النقد ،تقعيدا وتأصيلا ، منذ أن كان انطباعيا مع الشاعر النابغة الذبياني في سوق عكاظ ،حينما كان يجيز الشعراء ويشهد لهم بالفحولة والطلاوة وكثرة الماء بلغة القدماء . ومن هذه الرموز التي أسست للنقد بمعناه الحقيقي نشير إلى الباقلاني (403ه ) و الجرجاني (ت 471ه) و ( حازم القرطاجني ت 684ه) . والمستقرئ لنصوص هؤلاء يتلمس فيها بوادر ،لمفاهيم لسانيات النص كما نجده اليوم عند هاليداي في حديثه عن اتساق النص ، وتون فان ديك في استحضاره للسياق contexte و روبرت ديبوجراند وولفغانغ دريسلر. ولا شك إذن أن التراث العربي القديم يحوي الكثير من النظريات البلاغية والأسلوبية والجمالية ، التي تساعدنا في تحليل النص وإثبات نصيته، وهي نظريات مهمة في هذا المجال ، ولا شك أن غربلتها واستثمارها مفيد للدرس اللساني النصي العربي . ومعلوم أن التراث البلاغي العربي القديم اهتم بفكرة "إعجاز القرآن الكريم" ، بالبحث عن الخصائص المائزة للأسلوب القرآني ،عن الأسلوب الإنساني ،بتفريد الأسلوب القرآني بجمالية اللفظ والمعنى ،والبيان ، إلى درجة أنه يمكن القول إن البلاغة أست لبيان إعجاز أسلوب القرآن ، وكان أبو بكر الباقلاني (ت403ه) من الذين ألفوا كتابا في هذا الباب سماه إعجاز القرآن ، ضمه مجموعة من الآراء المهمة لفهم جمالية الأسلوب القرآني خاصة ، وأسلوب الشعر عامة . ولم يشذ صاحب دلائل الإعجاز وأسرار البلاغة ، الجرجاني (ت 471ه) عن القاعدة فأثبت إعجاز القرآن بالدلائل ، وقعد لنظرية النظم ، وفرق بين اللفظ والمعنى ، واعتمادا على نظرية النظم يمكننا بحسب الجرجاني فهم النص من داخلياته ؛أي البحث في ما يجعل منه نظاما متسقا ، بالبحث في الفصل والوصل والتقديم والتأخير والاستفهام والحذف ،والبحث فيما يجعل منه منسجما في "معنى المعنى " على اعتبار أن "الألفاظ أوعية للمعاني " وأن المعنى هو الذي تصل إليه من ظاهر اللفظ ،من غير واسطة ،وأما معنى المعنى فهو الذي يفضي به ظاهر اللفظ إلى معنى ، ثم يوصلك إلى معنى آخر يسمى معنى المعنى . وإذا كان الجرجاني أغنى النقد العربي بنظرية النظم ، فإن حازم القرطاجني (ت 684ه) أثرى النقد العربي ولسانيات النص بفكرة التماسك النصي ، أو التناسب بين الأغراض والأوزان ، وبين الإيقاع الشعري والحالة النفسية التي يعبر عنها الشاعر ، ويعتبر مؤلفه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء " حقا سراجا لمن أراد دراسة النقد العربي عامة ، ولسانيات النص في التراث النقدي العربي القديم خاصة . 1- لسانيات النص : تحديد المفهوم إن الحديث عن لسانيات النص linguistique textuelle، حديث عن حقل معرفي يروم الاشتغال على النص ، باحثا عن آليات اتساقه وانسجامه ، أي تلك الآليات الشكلية والمعنوية التي تجعلنا نسم النص بالنصية textualité . وتكتسي لسانيات النص أهميتها في كونها تحلل النص / الخطاب ، مركزة على جوانبه الجمالية والتركيبية والصوتية والبلاغية ، حتى يحقق المتلقي بمفهوم نظرية التلقي la théorie de réception ، مع ولفغانغ ايزر وهانس روبيرت ياوس ، اللذة الجمالية بمفهوم رولان بارط وهو يتفاعل مع النص . هذا من جهة ، من جهة أخرى لسانيات النص حقل يمتح مفاهيمه من حقول معرفية متعددة كالمنطق وعلم النفس ، واللسانيات ، والسميائيات، ونظريات الشعر . وكان السؤال الذي يطرح جليا بصدد لسانيات النص،هو علاقتها بلسانيات الجملة ، لقد كانت لسانيات النص ،استثمرت أفكار لسانيات الجملة ، وهذا مطروح عند جميع المدارس اللسانية كالتوليدية مثلا ، أو الوظيفية ( المتوكل 2001 2008،2010). وإذا شئنا تعريف لسانيات النص قلنا إنه علم ، حقل معرفي جديد تكون بالتدريج في السبعينيات من القرن العشرين ، وبرز بديلا لنظرية الأدب الكلاسيكية التي توارت في فكر الحداثة ، وما بعد الحداثة ، وراح هذا العلم يطور مناهجه ومقولاته ، حتى غدا علما قائما بذاته ، وقد نشأ على أنقاض علوم سابقة له ك:" لسانيات الجملة "linguistique de phrase ، كاللسانيات التوليدية ، خصوصا مع ظهور نظرية الرابط العاملي، la ، théorie de gouvernement et de liage تشومسكي (1978)، النظرية التي اهتمت بالروابط والإحالة ، وأسماء الإشارة، والضمائر ، والعامل (الاسم والفعل ) ، غير أن لسانيات النص لم تعرف النور إلا مع مؤلفات من قبيل الانسجام في اللغة الانجليزية لهاليداي ورقية حسن ، والنص والسياق لتون فان ديك ،وقد أجمل الباحث محمد خطابي الاقتراحات الغربية في أربع منظورات : • منظور اللسانيات الوصفية : تناول فيه ما جاءت أبحاث كل من رقية حسن وهاليداي في كتابهما " الاتساق في اللغة الانجليزية " . • منظور لسانيات الخطاب : تناول فيه الخطابي ، أبحاث تون فان ديك خصوصا كتابه " النص والسياق " 1977 . • منظور تحليل الخطاب : وفيه تناول الخطابي ، أبحاث كل من ويل وبراون ، واقتراحاتهما لتحليل الخطاب • منظور الذكاء الصناعي : خصصه الخطابي لرصد اقتراحات جري سميت وروجي شانك اعتمادا على مقاربة الذكاء الصناعي ،لمعالجة اللغة الطبيعية لقد كان هدف لسانيات النص ،هو البحث في النص كوحدة دلالية ، تتشكل من متواليات من الجمل ، تربطها عناصر الاتساق والانسجام ، أي البحث فيما يكون به الملفوظ نصا حسب الأزهر الزناد . 2- لسانيات النص في التراث النقدي البلاغي العربي القديم : لا شك وأن التراث البلاغي العربي القديم يحوي الكثير من الآراء والنظريات البلاغية والأسلوبية والجمالية، التي تساعدنا في تحليل النص، وإثبات نصيته، وهي نظريات مهمة في هذا المجال، ولاشك أن استثمارها وغربلتها مفيد للدرس النصي ولسانيات النص العربية الحديثة، وسنقف على بعض آراء الباقلاني والجرجاني وحازم القرطاجني. -2-1: أبو بكر الباقلاني (ت 403ه) وإعجاز القرآن: اهتم التراث البلاغي والأسلوبي العربي بفكرة " إعجاز القرآن" وبيان جمالية أسلوبه بلاغة ومعنى وبيانا، إلى درجة إلى أنه يمكن القول إن البلاغة أسست لبيان إعجاز وجمالية لغة القرآن، والباقلاني كان من الذين ألفوا كتابا في هذا الباب سماه " إعجاز القرآن" ضمه مجموعة من الآراء لفهم جمالية أسلوب النص القرآني خاصة، وأسلوب الشعر وغيره عامة. فالباقلاني يرى إلى أن تمكن القارئ من البلاغة، وتذوقه لجمالية أسلوب الشعر مثلا ستمكنه من" أن يميز سبك أبي نواس، من سبك ابن الرومي... ولا يخفى على أحد أن يميز شعر الأعشى، وشعر امرئ القيس، وبين شعر النابغة وزهير، وبين شعر جرير والأخطل فلكل منهم منهج معروف وطريق مألوف. وإذا ما تفحصنا هذا النص وجدناه يؤكد فكرتين : * أولا: ارتباط جمالية الأسلوب بالتذوق الفني للنصوص خاصة الشعرية. * ثانيا: ارتباط الأسلوب بالشاعر ومواضيعه وأغراضه. بالنسبة للفكرة الأولى يربط الباقلاني الأسلوب بالتذوق، ذلك أن تمييز سبك امرئ القيس عن سبك زهير، لن يتأتى لأي متلق إلا باحتكاكه بالشعر الجاهلي وقيمه وعاداته والجو العام للقصيدة التاريخية. والتمييز مستوى عال من التذوق يتجاوز التمييز الشكلي الصرفي إلى ما هو أعمق إنه " معنى المعنى" كما يسميه الجرجاني. أما بالنسبة للفكرة الثانية فيربط الباقلاني أسلوب الشاعر، وما يتوسل إليه من جماليات بلاغية وتحسينية بالموضوع الذي يتناوله الشاعر، على اعتبار أن أسلوب الهجاء ليس هو أسلوب المدح... وأسلوب الذي يطلب ود المحبوبة، ليس هو أسلوب الذي يرثى موت ابنه، وأسلوب المحارب في ساحة الوغى، ليس هو أسلوب الذي عاش السلم والأمان.... وهكذا، فأسلوب المتصنع المتكلف تظهر فيه ما يسميه الباقلاني " مخايل الاستيحاش" ،أي ما يجعلنا لا نستسيغه ونمجه. نخلص مع أبو بكر الباقلاني (ت 403ه)، إلى أن خصوصية الخطاب القرآني، بإعجازه وبلاغة ألفاظه، فهو يسير على سنن ونمط متجانس، دونما اختلال،أو اضطراب أو تفاوت بين سورة وسورة، وآية آية، أو موضوع وموضوع. -2-2 – عبد القاهر الجرجاني (ت 471ه) ونظرية النظم والفصل والوصل: إذا كان الباقلاني يؤكد فكرة " إعجاز القرآن" عن طريق تفريد الأسلوب القرآني بخصائص مائزة، عن الأسلوب الإنساني، من خلال مؤلفه " إعجاز القرآن" فإن الجرجاني يؤكد الفكرة نفسها من خلال مؤلفه " دلائل الإعجاز" على اعتبار أن القرآن الكريم قد تحدى فصحاء وجهابذة العرب، بنظمه وأسلوبه المعجز والقوي. واعتمادا على "نظرية النظم" الجرجانية يمكننا فهم النص انطلاقا من داخلياته؛ أي ما الذي يجعل من النظم متسقا ومنسجما؟ نجد الجرجاني ومن خلال نظرية النظم يتحدث عن التقديم والتأخير، الحذف، الاستفهام ، الفصل والوصل. ونظرية الجرجاني لا تبقى محصورة الشكل بل تتعدى إلى الدلالة أو ما يسميه ب " معنى المعنى" على اعتبار أن "الألفاظ أوعية المعاني". بالإضافة إلى نظرية النظم، ودورها في اتساق وانسجام النص/ الخطاب، نجد الجرجاني يتحدث عن الفصل والوصل، كإحدى التجليات السطحية العميقة لانسجام واتساق النص/ الخطاب. والفصل والوصل عند الجرجاني يعني "ما ينبغي أن يصنع في الجمل، من عطف بعضها على بعض أو ترك العطف فيها والمجئ بها منثورة، تستأنف واحدة منها بعد أخرى" . وعطف الجمل بعضها على بعض، لابد له من أساس نحوي ( شكلي، تركيبي) وقبل الحديث عن عطف الجمل هناك عطف المفرد على المفرد لاشتراكهما في الحكم الإعرابي نحو: - مررت برجل وامرأة. عطف الجملة على الجملة وذلك بشروط فيها : - أن يكون حكمها حكم المفرد. - أن يكون للجملة الأولى محل من الإعراب. - أن تنتقل الواو إلى الجملة الثانية حكم الجملة الأولى. نحو : مررت برجل خلقه حسن، وخلقه قبيح. وخلاصة القول إن الجرجاني ينطلق من عطف المفرد على المفرد، فصلا ووصلا، لتفسير عطف الجمل. وبعد ما أشرنا إلى الأساس النحوي (الحكم الإعرابي)، نشير إلى الأساس المعنوي، فقد لايكفي الاشتراك في الحكم الإعرابي للحكم على فصل أو وصل الجمل، أو قد لا تفي الجمل بشروط الترابط بين الجمل تركيبيا لذا لابد من البحث عن علل أخرى منها: - معني الجمع. - النظير والشبيه والنقيض. - التضام النفسي والعقلي. أ – معنى الجمع: ننطلق من الجملة التالية: زيد قائم وعمرو قاعد. فالحكم الإعرابي هنا لا يكفي لفصل الجملتين، بل لابد من البحث عن علل أخرى أعمق، وهذا يقترح الجرجاني فكرة "معنى الجمع" على اعتبار أن قعود عمرو بسبب قيام زيد أو هما كالنظرين والشريكين. ب – النظير والشبيه والنقيض: ارتباطا بالمبدأ الأول "معنى الجمع" نجد الرجراني، يستعمل مبدأ النظير والشبيه والنقيض كمبادئ تجوز العطف معنويا، لامتناعه معياريا نحو: أ- زيد طويل القامة، وعمرو قصير. ب- كريم قاص، وخالد شاعر. ت- كريم قاص، والعراق دولة محتلة. فالجملة الأولى عطفت على الأخرى لأنهما تحملان نقيضين طول القامة وقصرها، أما الثانية فكون كريم قاص نفترض أن خالد شاعر لاشتراكهما في حقل الإبداع، أما الجملة الثالثة فهي شاذة لأن حقل القصة لا علاقة له بحقل العراق والاحتلال. ج- التضام النفسي والتضام العقلي: ننطلق لتوضيحه من الأمثلة الآتية: أ- زيد يكتب وعمرو يلعب. ب- العلم نور والجهل عار. ج – العدل محمود والظلم مذموم. د- الاجتهاد حسن والكسل قبيح. بالنسبة للتضام النفسي يفترض في متلق الجملة (أ) أن يفترض أن زيد وعمرو أخوين أو شريكين، فالتضام النفسي يتعلق بالمتلقي، إذن فهو خاص ونسبي. أما بالنسبة للتضام العقلي فتنطلق من الجمل الثلاثة الباقية(ب-ج-د) فالمبرر الدلالي للعطف هو كونها متضامن عقليا فالعلم نور ضد الجهل عار، والعدل المحمود ضد الظلم المذموم وهكذا. انطلاقا من "نظرية النظم" و"الفصل والوصل" عند الجرجاني، يمكن الخروج بخلاصة مفادها، الذي يجعل من النص متماسكا متسقا منسجما ليس فقط ما هو معياري تركيبي (أي القواعد التركيبية النحوية) في الجمل، بل هناك أساس دلالي: أي المعنى، فتناسق الدلالة وتلاقي المعاني على الوجه الذي اقتضاه العقل. هو الذي يهمنا في تحليل النص/الخطاب رغم أهمية الجانب التركيبي، يقول الجرجاني في هذا الصدد "ليس الغرض بنظم الكلام أن توالت ألفاظها في النطق بل أن تناسقت دلالتها وتلاقت معانيها على الوجه الذي اقتضاه العقل . ومعنى هذا الكلام ونحن نحلل أي نص/ خطاب، لا نبقى في حدوده الشكل التركيبي للألفاظ بل نتجاوزه إلى ما هو أعمق، ما هو دلالي إنه "معنى المعنى" حسب عبد القاهر الجرجاني. ولكن ألا يمكن القول بوجود أرضية عربية للسانيات النص ؟ ألا يمكن اعتبار ما أشار إليه الجرجاني في "نظرية النظم " وما أشار إليه حازم القرطاجني في التناسب أو التماسك النصي أصولا للسانيات النص ؟ -3-2-لسانيات النص في التراث النقدي العربي حازم القرطاجني (684ه) نموذجا : لا يمكن عند الحديث عن لسانيات النص في التراث النقدي العربي ، إلا التوقف عند أعمدة شيدت للنقد النصي ،بأفكارها المبثوثة في مؤلفاتها كالجاحظ (ت255ه)مثلا ، في مؤلفاته البيان والحيوان ،وقد إعتبره الباحث الجابري أو ممثل للباحثين في شروط إنتاج الخطاب البياني العربي ،بعد أن بحث الشافعي (ت 204ه) في شروط تفسير الخطاب ،ومعلوم أن الجابري يعتبر الحقل البياني العربي "رؤية ومفاهيم وطريقة في التفكير ، يتبلور ويتعمق مع الأيام داخل الثقافة العربية الإسلامية" والباقلاني (ت403ه)،والجرجاني(ت471ه) ، وحازم القرطاجني (ت684ه)، وقد وقف مجموعة من الباحثين عند اقتراحاتهم ،و أشادوا بها ونخص بالذكر الباحث إبراهيم خليل ، والهام أبو غزالة وعلي خليل حمد ، الأزهر الزناد ، ومحمد خطابي هذه إشارات لطيفة يقصد منها ، الوقوف عند مساهمات النقاد العرب القدماء ،ودورها في اغتناء وإثراء النقد النصي ، غير أننا سنتوقف أساس عند بعض أفكار القرطاجني ،خاصة فكرة التماسك النصي ، والتناسب بين الأغراض والمواضيع في الشعر ، وعلاقتها بالحالة النفسية للشاعر ، واحتفاله بصناعة الشعر ،وأدواتها ، واحتفاله بالشعراء المجيدين خاصة أبا الطيب المتنبي ، وقصيدته التي طبق عليها حازم نظريته في " التماسك النصي " أغالب فيك الشوق . ولكن قبل الخوض في هذه المواضيع يستحسن تقديم ولو موجز عن حياة حازم .لفهم حياته النقدية والبلاغية والشعرية وقد وقف عندها محقق مؤلفه محمد الحبيب بلخوجة . 1-2- حازم القرطاجني (ت684ه) تعريفه : ولد حازم القرطاجني سنة 608 ه ، وعرف بالقرطاجني ، نشأ في وسط ممتاز ذي يسار .قضى طفولته وشبابه في عيش رغد ، متنقلا بين قرطاجة ومرسة ، ولم يكن دائما منقطعا إلى لذائذ الحياة ومتعها موليا وجهه قبلها ،بل كان إلى ذلك مقبلا على التعلم جادا في الدرس ، وقد بدأ ككل الأطفال بحفظ القرآن الكريم ،وتخرج في قراءته على شيوخ جلة من قراء بلده ووجد والده خير ملقن وموجه لمعرفة العربية وتعلم قواعدها والإلمام بطائفة من قضايا الفقه والعلوم الحديثة ...اشتهر بمقصورته في الشعر ، أخذ العلوم الحكمية الهلينية ، أعجب بعلو منزلة أستاذه ابن رشد ، كما تأثر بمؤلفات غيره من الفلاسفة كابن سينا و الفاربي .... 2-2- حازم وأفكاره النقدية في لسانيات النص : يطرح حازم القرطاجني (ت684ه) ، نظرية مهمة لفهم النص دلالة وشكلا ،ألا وهي "التماسك النصي "، فالنص ،الفصل بلغة الجرجاني ؛وحدة تتشكل من متواليات من الجمل ، مرتبا ترتيبا منطقيا من الكل إلى الجزء ، عن طريق آليات الاتساق والانسجام : كالروابط التركيبية ( أسماء الإشارة، الضمائر ، الروابط ..) والمعنوية ( وحدات الفصول وترابطها تناسب اللفظ للمعنى ، تناسب الإيقاع لغرض الشاعر ...) يقول حازم مؤكدا فكرة التماسك النصي في قصيدة المتنبي والتي مطلعها : أغالب فيك الشوق والشوق أغلب **وأعجب من ذا الهجر والوصل أعجب أما تغلظ الأيام في بأن أرى ** بغيضا تنائي أو حبيبا تقرب ولله سيري ما أقل تئية ** عشية شرقي الحدالى وغرب ويوم كليل العاشقين كمنته ** أراقب فيه الشمس أيان تغرب وهي قصيدة جميلة جدا ، جمع فيها الشاعر الهجر بالعشق والغربة ، يقول عنها حازم " فاطرد له الكلام في جميع أحسن اطراد وانتقل في جميع ذلك من الشيء ،إلى ما يناسبه ،وإلى ما هو منه بسبب ، ويجمعه إياه غرض ، فكان الكلام بذلك مرتبا أحسن ترتيب ، ومفصلا أحسن تفصيل وموضوعا بعضه من بعض أحكم وضع ، فعلى هذا النحو يجب أن تكون المآخذ في استفتاحات الفصول ووضع بعضها من بعض " وقد أشاد حازم بشعرية المتنبي معتبرا إياه النموذج الذي يجب أن يحدو الشعراء حدوه ، الحديث عن الشعرية والشعراء يقودنا ، إلى آراء حازم في الشعر والإيقاع وعلاقتها بالغرض ، والتناسب بين الألفاظ والمعاني . 3-2- حازم القرطاجني ومبدأ التناسب بين الغرض والإيقاع الشعري : يعتبر حازم بهذا المعنى مهتما بصناعة الشعر ، بالتركيز على الآليات التي تجودها ،وذلك بلغة فلسفية حكمية بالغة الدقة ،كيف لا وهو المطلع على مؤلفات الفلاسفة ؛كشيخه ابن رشد ، ومؤلفات الفاربي ، وابن سنا ، وفن الشعر لأرسطو . وعلى كل حال فقد تناول ،المعاني في علاقتها بالمباني ، والإيقاع الشعري وعلاقته بالغرض والحالة النفسية للشاعر ويمكن أن نلخص كل هذا في التماسك النصي أو لسانيات النص أو التناسب ؛ كل ذلك كان حازم يروم من ورائه ، صياغة نظرية متكاملة متماسكة لتحليل النص الشعري أساسا والنصوص النثرية عامة . ولهذا لم يغفل حازم الوقوف عند الجودة في العمل الفني ومردها ؛ والتي أرجعها إلى ثلاث قوى ضرورية أن تكون لدى المبدع وهي : القوة الحافظة ، والقوة الصانعة ن والقوة المائزة. وإذا تجمعت هذه القوى لدى الشاعر أمكن له أن يشيد قصيدته أحسن تشييد متى مخض المعنى في فكره نثرا ، واعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه والقوافي التي توافقه ، والوزن الذي يسلس له القول عليه بلغة ابن طباطبا العلوي في كتابه عيار الشعر مما يزكي الفكرة التي يدافع عنها حازم في منهاجه ،فكرة التناسب بين الوزن والمعنى الذي يروم الشاعر إيصاله للمستمع /القارئ ، على اعتبار أن كل معنى نريد التعبير عنه له إيقاعه الشعري فإيقاع الحزن ليس هو إيقاع الفرح والفخر ، وإيقاع النسيب والتغزل ،ليس هو إيقاع الهجاء والذم وقس على هذا ، يقول حازم " ولما كانت أغراض الشعر شتى وكان منها ما يقصد به الجد والرصانة ،وما يقصد به الهزل والرشاقة ،وما يقصد به البهاء والتفخيم ، وما يقصد به الصغار والتحقير .وجب أن تحاكى المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس " إن هذا النص من طبيعة الحال غني بالدلالات ، وإن كان لم يثبت أن لكل غرض شعري وزنه الخاص به فما الذي يمنعني أن أفتخر ، وأهجو، وأتغزل ، وأمدح ببحر الكامل مثلا !! وإذا أضفنا نصا آخر لما سبق ذكره عن التناسب بين الغرض والإيقاع الشعري، وفيه يربط حازم الألفاظ بالأغراض صارت نظريته أكمل وأتم وأجود ؛على اعتبار أن لكل غرض ألفاظه ،فألفاظ اللطافة والعشق، ليس هي ألفاظ الافتخار بالفروسية في ساحة الوغى يقول حازم " وإنما وجب أن يستعمل في كل طريق الألفاظ المستعملة فيه عرفا،لأن ما كثر استعماله في غرض ما اختص به ، صار كالمختص لا يحسن إيراده في غرض مناقض لذلك الغرض ،ولأنه غير لائق به لكونه مألوفا في ضده وغير مألوف في غيره ، وذلك مثل استعمال السالفة والجيد في النسيب ، و استعمال الهادي والكامل في الفخر والمديح ، ونحوهما ،واستعمال الأخدع والقذال في الذم " هكذا إذن يأتلف معنى القصيدة بمبناها ، وغرضها بإيقاعها الشعري حتى تكون وحدة متسقة منسجمة ، وحتى تجتمع إذ ذاك للمستمع حلاوة المسموع بحلاوة المفهوم كما نجد عند المتنبي الذي أجاد في التوفيق بين المعاني والمباني ،والأغراض والإيقاع والتخييل يقول حازم في هذا الصدد " وكان أبو الطيب المتنبي يعتمد المراوحة بين معانيه ويضع مقنعاتها من مخيلاتها أحسن وضع ، فيتمم الفصول بها أحسن تتمة ،ويقسم الكلام في ذلك أحسن قسمة، ويجب أن يؤتم به في ذلك ،فإن مسلكه فيه أوضح المسالك " مما يجسد العلاقة الوطيدة بين المعنى والمبنى ، التي توفرت أجودها عند المتنبي الذي اعتبره حازم قدوة للشعراء لمن أراد أن يجيد النظم . إن النص إذن عند حازم تتحقق نصيته ،أوتماسكه بشروط منها : - أن تكون مواد الفصل مناسبة للغرض الذي يروم الشاعر التعبير عنه - أن تكون حسنة الاطراد - أن تكون متباينة النسيج هذا من ناحية التركيب النحوي أما من جهة الدلالة فإن حازما يقترح مايلي : - مناسبة الغرض لإيقاع الشعري - مناسبة الألفاظ للمعاني خلاصة : هذا إذن نزر من فيض الناقد العربي حازم القرطاجني ،وهو يشرح" طريقة تماسك النص" النص أو بالأحرى الفصل ،وطريقة تجويد الشعرية ، وعلاقة الكل بالجزء ، والتسويم والتحجيل.مما يدل على غنى التراث النقدي العربي ، وإمكانية استثمار أفكار "لسانيات التراث" لإغناء لسانيات النص العربية الجديدة .وقد اعتبره بعض الباحثين " أول ناقد عربي قدم تصورا كاملا للنص الشعري القديم " ويعتبر مؤلفه المنهاج ، مساهمة لإثراء المشهد النقدي العربي عموما . و تزخر "لسانيات التراث"بمفهوم مصطفى غلفان، بأفكار ونظريات لغوية صالحة لأن تستثمر كآليات لتحليل، قضايا الجملة، وقضايا النص /الخطاب؛ فمن إعجاز القرآن مع الباقلاني (ت 403ه)، إلى نظرية النظم مع الجرجاني (ت 471ه)، إلى التماسك النصي مع حازم القرطاجني ( ت 684ه)، الشيء الذي يدل على غنى التراث اللغوي بأفكار صالحة لأن تكون أصولا للسانيات الخطاب. المراجع المعتمدة : الكتب والمؤلفات : - حازم القرطاجني ،منهاج البلغاء وسراج الأدباء ،تحقيق محمد الحبيب بلخوجة ،دار الغرب الإسلامي ، الطبعة الثالثة 1986 . - محمد خطابي ، لسانيات النص مدخل لانسجام الخطاب ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الثانية 2006 - ابراهيم خليل ، نظرية النص والأسلوبية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1997 - الأزهر الزناد ،نسيج النص بحث في ما يكون به الملفوظ نصا ، المركز الثقافي العربي ط 1 ، 1993 - إلهام أبو غزالة وعلي خليل حمد ، مدخل إلى علم لغة النص ،تطبيقات لنظرية روبرت ديبوجراند وولفغانغ دريسلر الطبعة الثانية الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999 - مصطفى غلفان ، اللسانيات العربية الحديثة دراسة نقدية في المصادر و الأسس النظرية والمنهجية ، عين الشق منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية الدارالبيضاء - ديوان المتنبي ، منشورات دار الجيل بيروت . المجلات : - علي الغزيوي ، التناسب بين الغرض والوزن في نظرية حازم القرطاجني ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر أكادير 1991