توطئة: بعد مفهوم الشخصية فى كتاب " الشخصية فى المسرح المغربي بنيات و تجليات ٭٭ " يستوقفنا الأستاذ - عزالدين بونيت٭٭٭ - في إصداره الثاني " مقدمات في الأدب النقد " عند مفهومي الأدب و النقد و ذلك انطلاقا من الاستفتسار عنهما بأسئلة غير بريئة . أسئلة تدفع بالقارئ إلى التفكير في أضعاف ما يماثلها دونما انتظار جواب جاهز يحجب ما تقوضه وتبنيه في الآن نفسه. وقد مفصل المؤلف كتابه قيد القراءة الى مقدمة و أربعة مباحث فضلا عن خاتمة تقويمية. و الكتاب بظاهر عنوانه يُشعر بأ ننا إزاء كتاب موجه للمتأ دّب المتعلم، والحال أنه بما تضمه دفتاه من أسئلة كبرى ، كتاب مشاكس واستفزازي يسعى إلى خلخلة الثابت عبر التمحيص الصارم لما نعتبره إلى الآن بديهيا و مسلّما به خطابنا الأدبي . و عليه ، نرى أن الكتاب بصنيعه هذا، يفتح أفقا نقديا جديدا و مخالفا يحفز على التفكير في سُبل تجاوز التشويش الذي انتاب معرفتنا الأدبية في الآونة الأخيرة ، مما يعني أن صدور هذا الكتاب جاء في وقت يحول دون التعامل معه كما لو كان إصدارا عابرا. كما أن هذا الكتاب بما يحفل به من أسئلة جذرية تهم أهم مفاهيمنا الأدبية تداولا ، يندرج في ما نرى ضمن مشروع طموح يرمي إلى تشييد الموضوع الأدبي العربي على قاعدة صلبة . وأمام عمق مادة الكتاب و ثرائها ثم حاجة تدقيق النظر فيها لمساحة زمنية أطول من هذه المتاحة لنا الآن ، نرى أهمية استعراض و مناقشة ما يبدو لنا هاما ، تاركين للقارئ فرصة الاستمتاع بمضامين الكتاب حين العودة إلى مضانه . ومهما يكن الأمر ، فثمة أسئلة ملحّة ستفرض نفسها على قارئ هذا الكتاب ، ومما سيدق منها بقوة على باب ذاكرته تلمسا لأجوبة شافية نجد : ما الدواعي التي حفزت باحثا ألمعيا في مجال الفن المسرحي إلى العودة بتفكيره إلى أسس قضايا الأدب والنقد في الثقافتين العربية الغربية؟ ما الشروط المعرفية والمنهجية التي تغيرت ففرضت على المؤلف اقتراح أفق جديد للتعامل مع الأدب والنقد في الثقافتين العربية والغربية؟ هل يكفي التركيز على المعنى الاصطلاحي لمفهوم النقد ، وكذا ضرورة إعادة التأريخ له بمنأى عن منهجية نقد عصر النهضة العربية ومُنجزالدرس الاستشراقي اللذين لم يركزا على قطائع التعاطي النقدي الأدبي العربي ، لنقول إ ن فهمنا للأدب والنقد سيغدو فهما لائقا وسليما ؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها ، تستلزم منا التوسل بقراءة تؤطرها عناوين إجرائية جامعة ، هي بمثابة مداخل تسعف في الإمساك بأهم مفاصيل القضايا الأدبية والنقدية التي يطرحها الكتاب طي القراءة . 1 . مفهوم النقد والأدب في الثقافة العربية القديمة . بعد تحديد أهداف و مقاصد دراسته يقرّ الأستاذ بونيت في المبحث الأول من الكتاب بوجود التباس في مفهوم النقد في الثقافة العربية القديمة ، على أساس أن الحديث عن هذا المفهوم يستلزم تبيّن حدود ما هو نقدي عما ليس نقدا ، هذا إلى جانب أهمية رصد و تأ مل أوليات الفعل النقدي العربي القديم قصد الوقوف عند طبيعة الشروط المؤسسة له و كذا أشكال استعماله و تداوله . لذا عمد المؤلف الى فحص - أركيولوجي - لمفهوم النقد و ذلك استنادا الى المدونة المعجمية العربية القديمة ، بحثا عن التأ ويلات و المقاصد الكامنة فيما بين الاستعمال الساذج لمفهوم النقد و ا ستعماله الثقافي العالِم. ويأتي اعتماد المؤلف للمدونة المعجمية ليكرس منهجية ثابتة لديه ، و فيها يبحث في الأصول اللغوية للمفاهيم المدروسة ، رغبة في تبيان تاريخيّتها و الوقوف على بعض تمظهراتها الدلالية . فبعد مفهوم - الشخصية - في الإصدار الأول أتى دور مفهوم النقد الذي أضاءه المؤلف بناء على البحث في دلالاته المعجمية ، مستخلصا أن تسميته الأولى في المعجم تحيل على دلالات فضح الزيف و الضرب الخفيف ، و هي دلالات مستوحاة من مرجعيات متباينة لا تمت لما هو ثقافي بصلة . مستخلصا قصور المدونة المعجمية العربية التي تشكو من الحشو مع تكرار مادة لغوية مغلقة جعلت المعاجم اللاحقة عالة على سابقها. هذا بالإضافة إلى تركيز الصناعة المعجمية العربية على القيمة اللغوية للكلمات دونما اهتمام بقيمتها الاستعمالية. و عن هذا يقول المؤلف " إن المعاجم العربية القديمة تخلو تماما من أية إشارة الى علاقة كلمة "النقد" بحقل الشعر أو الأدب و هو ما يعني خلوها من الإشارة ولو ها مشيا إلى الاستعمال الذي يمكن نعته بأنه اصطلاحي ، ولم يقتصر الأمر في ذلك على المعاجم القديمة بل إننا نقف بدهشة أمام استمرار هذا الغياب حتى في المعاجم الحديثة " (ص910) . و نعتقد أن مطالبة المؤلف المعجميين العرب القدامى بمفهوم اصطلاحي للنقد قد يكون أكبر من الحوافز التي دفعتهم الى التأ ليف المعجمي ، كما أن غياب مفهوم النقد بمعناه الفني لديهم ناتج فيما نزعم عن دقة سؤالهم بالإضافة إلى تخصّصهم و اقتناعهم بقيمة الطبيعة المرجعية للمفاهيم . هذا و يبقى السؤال المطروح في نظرنا متعلقا بدواعي و خلفيات إيراد المعجميين القدامى للدلة الاصطلاحية لمفاهيم دون أخرى . أيعود ذلك إلى استراتيجية معينة في التأ ليف المعجمي أم الى شواغل و نوايا ذهنية غابت عنا الآن بينما استغرقت تفكير قدمائنا المعجميين ؟ والأمر الآخر الذي نراه أكثر تشويقا في الكتاب هو جرأة المؤلف في تأمل و مساءلة المتن الشفوي الإخباري الذي تم اعتماده بعد عصر التدوين من قِبل المؤلفات التي أرّخت للنقد العربي القديم . وتبقى ملاحظات المؤلف بهذا الخصوص دالة من حيث رغبتها في إبراز هشاشة ما هو متداول بخصوص تاريخ النقد العربي القديم . خاصة أن هذا المتن استند إلى رواية غير تلك المعتمدة في المتون المقدسة ، هذا بالإضافة الى إغفال مؤرخي النقدالعربي القديم لحساسية مرحلة عصر التدوين التي مرّرت ذلك المتن وفق نوايا إديولوجية غير معلنة ، وعن هذا يقول المؤلف : " فعصر التدوين هو في الوقت نفسه عصر غليان كبير و تحولات عميقة في بنيات المجتمع العربي في كنف الدولة الجديدة و مشروعها ، كان عصر البحث عن أفق جديد"(ص15) . و على هذا الأساس سيوهم ظاهر تلك المتون الإخبارية بأ ن مدار كلامها هو الشعر والشعراء فيما مسكوتها يلخص غليان الواقع و ما يعتمل داخله من صراعات تبحث لنفسها عن موطئ قدم في الأ فق الثقافي و السياسي القادم . يقول المؤلف : "و نحن نميل إلى القول إن جزءا مهما من تلك الأخبار كان يعكس أغراض من نسب إليهم و أن الشبكة أو الوسط الذي خلقته رواية تلك الأخبار و تواتر نقلها هي في الواقع صورة عن الوسط الثقافي في البصرة أو الكوفة زمن التدوين"(ص18) . و لاشك أن القارئ سيسجل الحاجة إلى نماذج من ذلك المتن الإخباري قصد تبيان ما كمن فيه من نوايا ، بغض النظر عن القيمة النقدية التي سيشوش عليها الانفعال و الارتجال اللذان لا يساعدان على التمحيص و التأ مل الرصينين . هذا مع وجوب استبعاد همومنا المعاصرة المغرضة عن تلك الأخبار حتى يتسنى لها أن تعبر عن نفسها بنفسها ، قصد الانفلات في الوقت ذاته من الرؤية التي لا تستشهد بها إلا للبرهنة على أن النقد قديم في الثقافة العربية. خاصة أن رؤية مثل هذه ،لا تعبّر في نظرنا سوى عن إديولوجية انكشفت حقيقتها بعد أن أفل نجمها و آن أن تصنف ضمن مخلفات الماضي . و انتقادا لمنهج مؤرخي النقد العربي القديم المنشغلين برصد خطية مسا ر هذا النقد أكثر من قطائعه ، يقف المؤلف عند المشروع النقدي - لقدامة بن جعفر - الذي أفرزته شروط تغيّر ماهية الشعر و وظيفته داخل المجتمع إلى جانب كونه " مؤشرا على نهاية عصر من الشعر و من طرق التعامل معه ...و كان لمقترحاته تأثير في الذين جاءوا من بعده ، غير أن أيا منهم لم يطور هذا المشروع ، بل اتجهوا الى تأسيس مشاريع أخرى .وذهبوا في باب النقد مذاهب ذات مقاصد تختلف عن مقاصد قدامة ..."(ص19) . ورغم ما لهذا المشروع النقدي من قيمة ، فإ ن القطيعة التي يراها المؤلف فيه ، تشترط في نظرنا تبيان الجانب الاستمراري في هذا المشروع . خاصة أن هاجس البحث عن علم يُعنى بالشعر ، كان مطروحا قبل عصر - قدامة - و ما بعده بقليل . و من هنا لا يمكن أن نسجل لمشروع - قدامة - إلا فضل الوعي المنهجي و جرأة الإقرار بأ سبقية الخوض في شيء اسمه النقد . و إلا في ما ذا سندرج مُنجز - محمد بن سلام الجمحي - و كذا منجز- الجاحظ - ثم منجز- ابن قتيبة - الذي لم يخف حاجة الشعر في زمنه إلى علم يُعنى به ، إضافة الى ما نلمسه لديه من وعي بموضوع اهتمامه الذي يفصح عنه عنوان كتابه " الشعر و الشعراء ". وعليه ، نرى ضرورة تمحيص الأسبقية النقدية التي يدعيها - قدامة - في كتابه - نقد الشعر٭٭٭٭- بقوله: " و لم أجد أحدا و ضع في نقد الشعر و تخليص جيده من رديئه كتابا "(ص61) ، خاصة أن فحوى هذا الكلام الذي سايره المؤلف يقصي جملة من المؤلفات النقدية من دائرة التأليف النقدي بدءا ب "فحولة الشعراء " - للأصمعي- و "قواعد الشعر " - لثعلب - و انتهاء بما أسلفنا الإشارة اليه أعلاه. كما سيؤدي بالمؤلف ، ربط - قدامة - النقد بالشعر دون غيره من أصناف القول ، الى مناقشة فاحصة لثنائية شعر/ نثر ، التي مازالت لقدمها و كثرة الاهتمام بها من بداهات ثقافتنا . إلا أنّ ما يبقى مخالفا لدى المؤلف ، هو إ قراره بالحداثة النسبية للثنائية المذكورة . إذ يشير خلافا لغيره من الباحثين المهتمين بقضايا الشعرية العربية القديمة و أنواعيّتها إلى " أن ثنائية الشعر / النثر القائمة على التعارض و التقابل و التي على أساسها يقوم التصور الأ دبي في نظرية الأدب العربية ، ثنائية حديثة بالقياس الى التاريخ المفترض لبداية الشعر و النشاط الموازي له المسمى نقدا . فهي لا تعود الى أكثر من عصر التدوين حين بدأ النثر كنمط قابل للفرز بواسطة الكتابة"(ص21) .و سيسوق هذا النقاش المؤلف إلى استحضار المعايير الثقافية الفاعلة في إضفاء صبغة - النصيّة - على القول العربي القديم . لا سيما اعتماد الوزن والقافية و التنقيح أو الاستناد الى قيمة مصدر القول ،.بيد أن المعايير المشار إليها ههنا تبقى مستقاة مما هو شعري دون غيره من أنماط القول . إلا أن مجرد الإشارة إليها ، من شأ نه أن يدفع بالقارئ الى التفكير جديا في تحققات هذه النصية التي ترتبط ببنية القول من جهة و ظروف صاحبه و متلقيه من جهة ثانية. ومن النصية وشروطها سينتقل بنا المؤلف الى نقاش شائك حاول من خلاله رصد علاقة القرآن بالشعر و التي عالجها في إطار الشرط الثقافي الذي أفرزها ، هذا مع تجاوزه للطرح الذي يحصر الصراع بين القرآن و الشعر في الشكل اللغوي أو المضمون . فمقابل هذا أكد المؤلف على أن نزاع الطرفين وجهته الرغبة في حيازة موقع ما داخل النسق الثقافي السائد. وعن هذا يقول :" ضمن هذا النسق الثقافي كانت المواجهة الأولى بين القرآن و الشعر ، إذ لم يكن النزاع بينهما حول الشكل اللغوي كما ذهب الى ذلك كثير من متأخري المفسرين ومجمل الدارسين المحدثين ، بل كان نزاعا حول الوضع الاعتباري للنص في النسق الثقافي ...."(ص27) . و بغض النظر عن هذه الفكرة - بما لها من وجاهة – ، نرى أنه من الصعوبة على القارئ إغفال نزاع القرآن والشعر حول - سلطة القداسة - التي يدعيها كلا الطرفين ، خاصة أن شعراء كبارا ظلوا حتى بعد عصر التدوين متشبثين بالطابع القدسي لخطابهم. و لنا في هذا أمثلة عديدة نشير منها الى سجدة الفرزدق لبيت شعر سمعه من معلقة - لبيد - مشيرا إلى أنه أعرف بمواضع السجدة في الشعر .إضافة إلى جهر أبي تمام بالتعبد باللات و العزى من دون الله ، قاصدا ديواني - مسلم بن الوليد - . 2 مفهوما الأدب و النقد في الثقافتين العربية و الغربية الحديثتين . خصص الأستاذ بونيت المبحث الثاني من كتابه لمناقشة التحديد الاصطلاحي لمفهوم النقد في الثقافة العربية الحديثة ، والذي تحقق بفضل الترجمة و بعض المتون المعجمية العربية الحديثة المنفتحة بوعي أو بدون وعي على بعض الأنساق الثقافية الوافدة من الغرب. ومن فحصه لجملة من التحديدات الاصطلاحية لمفهوم النقد في ثلة من المعاجم العربية الحديثة ، يوقفنا المؤلف على ما في تلك التحديدات من تداخل و انتقائية ، بل وافتقاد رؤية تاريخية واضحة بخصوص التراث النقدي العربي الذي تمت موازاته تعسفا بالنقد الأدبي الغربي. الشئ الذي سيسوّغ لدراسات نقدية عربية حديثة القول بضعف تاريخ التجربة النقدية العربية . و عليه ، يدعو المؤلف إلى ضرورة إقامة تصور واضح بخصوص بنيات هذا التاريخ قصد الوقوف على أهم قطائعه على مستوى الأفكار و الأبنية و الأسس النظرية . و انطلاقا من دعوته تلك ، سيحدد المؤلف أهم تلك القطائع و فق خمسة مستويات هي : أ - على صعيد المعجم : انتقال مفهوم النقد من معنى معجمي لغوي الى مستوى أوسع له صلة بثقافة الآخر ، مما استتبع عزل مفهوم النقد العربي عن تاريخه القديم . ب- على صعيد الممارسة النقدية : انزياح التعاطي النقدي العربي الحديث بفعل المثاقفة عن القاعدة الفكرية التي استند إليها التراث الفكري العربي وخاصة في علمي النحو والأصول . ج على صعيد موضوع النقد الأدبي : اضطلاع الممارسة النقدية بوظائف غير تمييز جيد الأدب عن رديئه وكذا صحيحه من فاسده نتيجة المستجدات التي عرفها الموضوع الأدبي العربي الحديث. د - على صعيد طبيعة الممارسة النقدية عموما : تميّز الممارسة النقدية العربية الحديثة بالوعي الشمولي ، مقارنة مع مثيلتها القديمة المسكونة بهاجس وأسئلة مستقبلها أكثر من حاضرها لقد انتهى الأستاذ بونيت من هذا التظهير إلى تجريد أشهر المصادر الأدبية العربية القديمة من الرؤية التاريخية ، لاعتبارات منها بقاء النشاط الأدبي العربي القديم بعيدا عن اهتمام المؤرخين المنشغلين بما هو ديني و سياسي ، فضلا عن عدم وضوح الموضوع الأدبي العربي القديم وتراوح مجاله بين حقول معرفية شتى . الأمر الذي يسّر مهمة الدرس الاستشراقي لاحقا لإعادة بنائه و فق رؤية مغرضة خاصة . يقول المؤلف: " إن التناول الاستشراقي هو الذي شكل - الأدب - كموضوع مغلق نستطيع تأمله من خارجه ، و بالتالي إنشاء خطاب حوله ، خطاب مفارق يبوبه و يسائله ويستخلص قوانينه العامة ، خطاب قادر على أن يتحول الى نظرية . لقد تحول الأدب عبر هذه القناة - في خطوة أولى من فضاء مفتوح لكل التجارب و الإنتاجات و الإبداعات الثقافية المختلفة ، إلى فضاء مغلق ينتمي الى الماضي"(ص56). إلا أن المؤلف سيتدارك عمومية كلامه ، داعيا الى ضرورة نقد الاستشراق التقليدي و مسلماته التي أدت الى بروز ثلاث رؤى ذات نزعة مقارنية لا ترى في الأدب العربي إلا صدى و محيطا ، فيما نظيره الغربي صوت و مركز . وهذا ما دفع المؤلف الى بث استفسارات تتعلق بالاستمرارية و التعدد والاختلاف و الائتلاف في الأدب العربي ، وذلك قصد الوقوف على المشترك و الجوهري في علاقة هذا الأدب بقرينه الغربي . و سيضع المؤلف استفساراته في المحك بفحصه لوقائع أدبية في كل من المشرق والمغرب العربيين . ليستخلص خلافا لما ذهب إليه أمثال - لويس عوض – صعوبة وجود كتابة أدبية خصبة لدى الخاصة و العامة قبيل الاحتكاك بالغرب . و في محاولة لإبراز خصوصية التعدد و الاختلاف في لأدب العربي ، سجل المؤلف أسبقية التجربة الأدبية المغربية إلى الاحتكاك بالغرب و من ثم الانشغال بإ شكالية الأنا و الآخر قبل انشغال الأدب المشرقي بها . ليخلص الأستاذ بونيت مما سبق إلى أن إلحاق الأدب العربي المغربي بنظيره المشرقي ، إجراء طارئ استتبع إفقار هذا الأدب مع التشويش على القضايا الخاصة به . يقول المؤلف متحدثا عن الأدب العربي المغربي " إن ربطه بماض مشترك مفترض و إعادة بناء تاريخه في نسق و احد ، يعد إفقارا لغناه و تنوعه و تجربته ، ويؤدي في أحسن الأحوال ، إلى إثارة قضايا مفتعلة بين الأدب المغربي و الأدب المشرقي شبيهة بالقضايا التي طرحها الاستشراق في النموذج الغربي و النموذج العربي للأدب ..." (ص67) . و يختم المؤلف هذا المبحث بالحديث عن إشكالية الأصالة و المعاصرة في الفكر العربي المعاصر ، مسجلا أن ظهورها ساعدت عليه حيثيات و ملابسات تشكل التراث العربي عامة ، مستحضرا بهذا الخصوص خلاصات الدكتور - عبد الله العروي - الذي لا يرى في الأدب العربي سوى ثقافة معبّرة عن الانتقائية و الاستهلاك إلى جانب الموت والانشطار الداخلي . و في إطار نفس الانشغال بضبط المفاهيم ، سعى المؤلف في المبحث الأخير من الكتاب إلى كشف حقيقة فكرة السبق الزمني بين الأدب العربي و الأدب الغربي ، مستخلصا حداثة ما نسميه اليوم بالأدب الغربي الحديث الذي لا يتجاوز تاريخ تشكله نهاية القر ن 18 الميلادي و بداية القرن 19 الميلادي . و طيلة تشكله يرى المؤلف أن مفهوم الأدب مرّ بجملة إبدالات طالت مستواه الإنتاجي و الاستهلاكي ، بيد أن الثابت طيلة هذه التحولات هو الطابع اللغوي و الكتابي للظاهرة الأدبيةالغربية . يقول المؤلف : " خلال هذا البحث بدا لنا أن الأدب لم يستقر في معناه الحديث و لم يتحدد كموضوع معرفي و موضوع للتأ مل النظري إلا في نهاية القرن 18 ، أما قبل ذلك فإن الأعمال التي ندرجها اليوم ضمن الأدب ونتداولها في خطابنا التاريخي عن الأدب باعتباره أعمالا أدبية (الكلاسيات الكبيرة على الخصوص ) كانت تنتظم في مقولة فرعية هي مقولة " الأنواع " التي ستشكل فيما بعد مبحثا رئيسا من مباحث نظرية الأدب الجامعية "(ص68). و رغم الانشغال بالأدب في الغرب منذ وقت مبكر،يسجل المؤلف غياب نظرية أدبية فيما قبل القرن 19 الميلادي و ذلك بسبب غموض الموضوع الأدبي و تداخل مكوناته ، فضلا عن السلطة التي كرسها كتاب - فن الشعر - لأرسطو الذي ركز على مفهوم المحاكاة ،التي أجلت فرصة التفكير في الموضوع الأدبي الغربي بوصفه كيانا لغويا و جماليا قائما بذاته إلى حين بروز إ سهامات الرومانسية التي يرجع لها جزء من فضل تبلور الشعرية الحديثة فيما بعد . هذا بالرغم من احتفاظ الخطاب الرومانسي الغربي في ثناياه ببعض رواسب الفكر الكنسي بوصفه نسقا إديولوجيا استطاع أن يُخضع فيما قبل التراث الروماني واليوناني المعتمد في النهضة الغربية لنواياه الخاصة. مما جعل مفهوم النهضة في نظر المؤلف مفهوما مشكوكا فيه و لايعدو من جهته تسمية إديولوجية خادعة ،و عن هذا يقول : " إن فكرة القطيعة بين عصر النهضة و ما قبله ليست صحيحة تماما ، ومن جهة أخرى خضع التراث اليوناني و الروماني إلى عمل مزدج : 1: التنقيب و الترميم و التحقيق ، 2: الشرح و التأمل مما ينتهي بنا الى القول إن تراث اليونان و الرومان لم يشتغل في بنية الثقافة الغربية الحديثة في صيغته الخام الخالصة بل من خلال مصفاة مثّلها المنظور الكنسي الأخير من جانب و الإديولوجية الإنسية من جانب آخر ..." (ص86) . وقبل أن يضع المؤلف خاتمة لكتابه ، ارتأى - على خلاف العادة - إيراد ثلاثة تراكيب مركزة ، حاول من خلالها إضاءة علاقة الموضوع الأدبي الغربي الذي تمت بلورته في القرنين 18 و19 الميلاديين ، بنظريته و سياقاته الخارجية ثم خطابه الواصف . ليبرز بعد ذلك في الخاتمة مدى زيف فكرة السبق التاريخي للأدب الغربي على الأدب العربي ، تأسيسا على ما أفصحت عنه الشروط و السياقات التاريخية الغربية نفسها . كما أن فكرة الموقع المحيطي للأدب العربي الحديث التي رسخها الدرس الاستشراقي ، لم تجعل الخطاب النقدي العربي الحديث إلا خطابا تبكيتيا مأزوما ينتج ويجتر في عمقه أزمات الأدب الغربي الحديث أكثر من أزماته هو . و عن هذا يقول " و قد اضطلع النقد الجامعي العربي منذ وقت مبكر من بدايات القرن الحالي بمهمة الإشراف على استيراد المناهج و الرؤى و المقاربات بانتظام من أوربا . ووجد نفسه ، بدون وعي أسير الأزمات التي كانت تعصف بالنقد الجامعي في أوربا نفسها ..." (ص100) . خاتمة: بعد تتبع دلالات مفهوم النقد في المدونة المعجمية العربية القديمة و الحديثة و رصد توظيفه الاصطلاحي لدى بعض القدماء و المحدثين ثم منا قشة الشروط و السياقات التاريخية المتحكمة في تغير معاني و حدود مفهومي الأدب و النقد في الثقافتين العربية و الغربية ، نكون قد تبينا مع كتاب - مقدمات في الأدب و النقد – حاجتنا الى مزيد من الكشف عن حقيقة ما اعتدنا تسميته أدبا أو نقدا في الثقافتين العربية و الغربية . و من ثم يبقى هذا الكتاب بما قدم فيه صاحبه من استنتاجات ، نقلة نوعية و متميزة تعطي الدليل على حاجة الكثير من أفكارنا عن الأدب و نقده إلى قراءة يمكن المراهنة عليها لرصد حدود الوهمي و المزيّف في درسنا الأدبي و النقدي. و مما زاد طرح هذا الكتاب خصوبة ، جرأة صاحبه في عرض الأفكار وفق تحليل عميق و دقة في الاستنتاجات المشفوعة بسعة في المعلومات . هذا بالإضافة إلى القدرة على التساؤل بشكل رصين قصد إثارة القارئ و تغيير ما قد ترسب لديه من قناعات بخصوص موضوعي الأدب و النقد . و ما بين الأسئلة و أجوبتها ، يبقى كتاب الأستاذ بونيت ككل ، إضافة نقدية ترمي الى تمهيرالفكر الأدبي العربي على إعادة التأريخ لأدبه و نقده بعيدا عن سلطة و رقابة المسلّم به ، فضلا عن الرغبة في إعادة الاعتبار لما أهملته الدراسات الأدبية حين مسايرتها لما هو سائد من الرؤى و التصنيفات بعيدا عن المساءلة أو التنسيب الجادين .