لا مراء في أن الهزات الاجتماعية و السياسية الكبرى التي تعرو مجتمعا ما، تترك أخاديد عميقة في وجدانه وذاكرته وفي شعوره ولا شعوره الجمعيين وتبصم بطوابعها ووشومها، الظواهر الفنية والادبية والثقافية التي تواكبها او تليها، كما تشكل مهمازا لظواهر واشكال جديدة، متصادية مع النوابض الجديدة. وقد كانت انتفاضة 23 مارس 1965، بكل المقاييس، هزة ورجة اجتماعية وسياسية تراجيدية، تركت ندوبا غائرة في الجسم المغربي والوجدان المغربي، لكنها ايضا، ايقظت الوعي المغربي من سبات وضخت في الادب المغربي الذي تلاها مباشرة، دماء جديدة، و حارة، كتلك الدماء الحارة الفتية التي سالت على ارصفة وشوارع البيضاء،في ذلك اليوم المشهود المحشود، يوم 23 مارس من سنة 1965 رجة تراجيدية التحم فيها الطلاب مع جماهير المواطنين، بعد ان طفح الكيل وبلغ السيل الزبى. لقد اعقبت الانتفاضة بسنوات قلائل، انتفاضة نضالية وسياسية جريئة، تمثلت في اليسار الجديد (23 مارس والى ا لامام) كما اعقبت ا لانتفاضة ايضا، وبسنوات قلائل، انتفاضات ابداعية وثقافية جديدة ومتنوعة، طالت ومست حقولا مختلفة، كالادب و النقد والموسيقى والغناء والمسرح والسينما والتشكيل. ويهمني هنا، ان اتوقف قليلا عند الادب والنقد، اللذين شهدا بعد هذه الانتفاضة مباشرة، و بالتدرج الصاعد مع الايام، انتفاضة حداثية - والتزامية عميقة، مست المضامين كما مست الاشكال. وكانت السبعينات الفارطة، هي الفترة المواتية والكافية لاختمار ونضج وعود ورعود انتفاضة 23 مارس. والادب ينضج دائما، على نار هادئة، والذين ساهموافي هذا الحراك الادبي والنقدي اواخر الستينات وطلائع السبعينات، كانوا شبابا يافعين، شهودا على انتفاضة 23 مارس مكتوين بلظاها ومشحونين برسالتها ومغزاها. بعد الانتفاضة مباشرة، صار مبدأ الالتزام، في الادب والنقد شرطا لازبا وفرض عين على كل حامل قلم. كما صرت الواقعية في الادب والنقد، هي البوصلة، التي يهتدي بها كل كاتب. وبالطبع، فقد ساهمت احداث وانتفاضات عالمية تالية، في شحذ وشحن هذه الرؤية الجديدة للعالم، كانتفاضة ماي 1968 في فرنسا، وهزيمة 5 يونيو 1967، العربية، وانتشار الفكر الماركسي والحركات الماركسية في انحاء كثيرة من المعمور. لقد بدا، وكأنا لمشهد الادبي في المغرب في حالة تأهب و استنفار، يقوم بتأثيث بيته الجديد وينحت الابجدية الاولى لحداثته ورسالته. ظهر ذلك بشكل خاص، في القصيدة الشعرية، والقصة القصيرة، والخطاب النقدي. في غضون الستينات فصعدا، شهدت القصيدة المغربية الحداثية ولالتها البهية، على أيدي روادها الأوائل محمد السرغيني، وعبد الكريم الطبال، وأحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني... ثم آتت هذه القصيدة أكلها وثمارها الدانية على امتداد السبعينيات، على أيدي الشعراء الجدد، شعراء الموجة الثانية من الحداثة. وكانت القصيدة السبعينية تقدح شررا بموضوعاتها ولغاتها.كانت ملحمة بهموم لحظتها، حالمة بالتغيير والثورة.ويكفي ان نتصفح عناوين بعض الدواوين الصادرة آنئذ، لندرك نبض المرحلة / تخطيطات حديثة في هندسة الفقر - نار تحت الجلد في انتظار موسم الرياح - رياح التي ستأتي - شيء عن الاضطهاد والفرح - وجه متوهج على امتداد الزمن - آخر أعوام العقم - حين يتحول الحزن جمرا.وعلى مقربة من القصيدة الشعرية، كانت القصة القصيرة منغرسة في حمأة واقعها من جهة، ونازعة الى تجديد إهابها وشكلها من جهة ثانية. وحسبنا أيضا، ان نتصفح بعض عناوين المجاميع القصصية الصادرة في المرحلة، لندرك طبيعة الإناء الذي تنضح به. - مات قرير العين - العض على الحديد - نداء عزرائيل - الفجر الكاذب - ليسقط الصمت - الممكن من المستحيل - حزن في الرأس وفي القلب - العنف في الدماغ - دم ودخان - أوصال الشجر المقطوعة - ريح السموم - طارق الذي لم يفتح الاندلس - أنياب طويلة في وجه المدينة... والذي يهمني اساسا في هذه الورقة، أن أتوقف قليلا عند «الانتفاضة» النقدية في السبعينيات، باعتباري أحد شهودها. لقد كانت مرحلة السبعينيات كما لا يخفى عن الذاكرة المغربية، كسابقتها مرحلة الستينيات او أكثر، مرحلة غليان وجيشان على كافة الصعد والانحاء، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. كان اليسار واليسار الجديد يخوضان معركة الصراع الطبقي - والسياسي في رهان قاس مع حلم التغيير والتثوير. وكانت الجامعة المغربية ورشا نضاليا وإديولوجيا وابداعيا مشرعا على الشارع المغربي، وملتحما بالطبقات المسحوقة من المجتمع المغربي، وكانت السجون والمعتقلات السرية والعلنية بالمرصاد تنزل بالعصا على رأس كل من عصا. هذا تاريخ مغرق في «واقعيته» ولا يمكن إخفاء شمسه الحارقة بغربال. وهو تاريخ يشكل بحق، الرحم التي أنجبت وأفرخت الادب المغربي الحديث، شعرا وقصة ورواية ونقدا، في حلة «حداثية» جديدة وطموحة. وكان وراء هذا المخاض الادبي، فتية شباب مسكونين بأشواق زمانهم وعصرهم. وفي اللحظات العصيبة دائما، يتولد جديد ما، من هنا يمكن القول، بلا مجازفة في القول، بأن الحداثة الادبية والنقدية المغربية، قد شرعت في الانطلاق والانعتاق، بدءا من طلائع السبعينيات من القرن الفارط. ومادمت قد آثرت الحديث هنا عن النقد المغربي الجديد في نسخته السبعينية، فلا بد لي من الإثارة، للأمانة الادبية والتاريخية، الى بعض الاساتذة الرواد الذين تعهدوا نبت الادب المغربي من داخل الجامعة، وكانوا منشئين ومؤسسين للاجيال اللاحقة، وأخص بالذكر منهم / محمد برادة وأحمد اليابوري ومحمد السرغيني وأحمد المجاطي وحسن المنيعي وابراهيم السولامي وعباس الجراري ومحمد الكتاني ومحمد بنشريفة.هؤلاء كانوا برقا للرعد الآتي، على هذا النحو او ذاك. وتأثير، الأساتذة دائما، يمر عبر دهاليز وقنوات سرية، غير منظورة وغير متوقعة. هذا الرعد النقدي، إذا صح التعبير، ستسيح سحائبه وتمطر على امتداد السبعينيات، من خلال المقالات والدراسات المنتظمة التي كان يواضب على نشرها بشكل «خاص»، كل من ادريس الناقوري متخفيا وراء اسم مستعار (البشير الوادنوني) وعبد القادر الشاوي متخفيا وراء أسماء مستعارة (توفيق الشاهد إرشاد حسن...). وإبراهيم الخطيب، وكاتب هذه السطور، نجيب العوفي أخص هنا هؤلاء النقاد الأربعة بالذكر، وذلك لأسباب ثلاثة. 1 الانتظام وتواتر المقالات والدراسات التي كانوا ينشرونها في منابر إعلامية وثقافية مختلفة. وفي مقدمتها جريدة (المحرر) ومجلة (أقلام) ومجلة (أنفاس). وهذا يعني أن ثمة هاجسا أو مشروعا نقديا يسكنهم. 2 لأن هؤلاء توحدهم بوصلة نظرية «واقعية» مشتركة في دراسة ونقد النصوص الأدبية، وإن تفرقت بينهم السبل والمناهج واللغات والحساسيات. 3 لأن أولى الكتب النقدية المغربية الحديثة المطبوعة لجيل السبعينات، تعود الى ثلاثة من هؤلاء النقاد. هذه الكتب هي على التوالي: 1 (المصطلح المشترك)، دراسات في الأدب المغربي المعاصر / لإدريس الناقوري، صادر في طبعته الأولى سنة 1977 عن دار النشر المغربية بالدار البيضاء. عدد صفحاته 320. 2 درجة الوعي في الكتابة، دراسات نقدية / لنجيب العوفي، صادر في طبعته الأولى سنة 1980 عن دار النشر المغربية بالدار البيضاء. وذيلت مقدمته ب/ 1979. عدد صفحاته 431. 3 سلطة الواقعية، دراسة / لعبد القادر الشاوي. صادر في طبعته الأولى سنة 1981، عن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق. عدد صفحاته، 270. ولم يشأ إبراهيم الخطيب أن يحذو حذو الثلاثة فولى مقالاته ودراسته النقدية ظهريا. ولم يطبع وينشر سوى الاعمال التي تفرغ لترجمتها. وجدير بالذكر هنا، أن ادريس الناقوري اتخذ لنفسه لاحقا، «شِرعة» أدبية ودينية تقطع مع «المصطلح المشترك». وعبد القادر الشاوي، الخارج من تجربة الحلم والغبار، تفرغ للإبداع السردي الأوطوبيوغرافي وأبلى فيه البلاء الحسن، واتخذ لنفسه أيضا، «شرعة» أخرى. وإبراهيم الخطيب، تفرغ بدوره للترجمة وأبلى فيها البلاء الحسن، واتخذ لنفسه أيضا «شرعة» أخرى. ولم يبق في الميدان، إلا حميدان!! ماهو المؤتلف والمختلف بين الكتب النقدية الثلاثة الآنفة؟! يهمنا أن نُرهف السمع قليلا لبعض المنطلقات النظرية التي نزعت وصدرت عنها هذه الكتب الثلاثة، سيما أنها سوية مصورة بمداخل ومقدمات نظرية تجلو رؤية الكاتب وتحدد مفاتيح الكتاب. ففي (المصطلح المشترك) مقدمة تستغرق 15 صفحة. وفي (درجة الوعي في الكتابة) توطئة تستغرق 30 صفحة. وفي (سلطة الواقعية) تدخل نظري يستغرق 34 صفحة. وسنلاحظ بدءا بأن (الواقع) و(الواقعية) ووضع النص الأدبي على محك الواقع والواقعية. واستجلاء مدى تمثل وتمثيل الأدب لواقعه والسيطرة عليه، شكلا ومضمونا فكرا ووجدانا، هو ما يشكل الشفرة المشتركة بين هذه المنطلقات النظرية، مع اختلاف في اللغات والحساسيات، كما اسلفت. ولنبدأ ب (المصطلح المشترك). نقرأ في صفحة 5 - على أن هذا مشروع طويل النفس وشاق، يحتاج أول ما يحتاج إلى توافر عنصر الوعي كأداة لتحقيق التحول المرتقب، على اعتبار أن «وعي الإنسان لا يعكس فحسب العالم الموضوعي وإنما يخلقه»، ومادام الوعي لا يأتي من داخل القوة الطبقية المؤهلة تاريخيا وموضوعيا لإحداث التغيير، وإنما يسري إليها من الخارج عبر النشاط الانتاجي الاجتماعي بواسطة عناصر اللغة والفكر والأفراد الملتزمين فلا أقل والحالة هذه من القيام بعمل من شأنه - مهما صغر - أن يسهم في إشاعة الوعي الصحيح وخدمة الضرورة ا لتاريخية ويقودهما في الاتجاه السليم. هذا هو دور الكاتب والأديب والمثقف الملتزم الواعي بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه، وهو أيضا وظيفة النقد الأولى والأخيرة). ص.5 هذا هو المعجم النقدي السائد في الخطاب السبعيني، والمعبر عن قناعاته ومنطلقاته وكل معجم ناضح من مرحلته ونازع عن قوسها. - الوعي كأداة لتحقيق التحول المرتقب - لا يعكس الوعي العالم الموضوعي فحسب إنما يخلقه. - ا لقوة الطبقية المؤهلة تاريخيا لإحداث التغيير - الفكر الملتزم - الوعي الصحيح - الضرورة التاريخية. - دور الكاتب والأديب. - وظيفة النقد الأولى والأخيرة. وغير خاف، أنه معجم يمتح من النظرية الجمالية و الأدبية لماركسية - اللينينة التي كانت سيدة الموقف في الأوساط الثقافية إبان هذه المرحلة. وقريب من هذا المعجم، خطاب النقد والمنهج في كتاب (درجة الوعي في الكتابة) لنجيب العوفي نقرأ في صفحة 25 من التوطئة. - إن ما أبحث عنه، إذن، في هذه الدراسات ومن مواقع فهم وتحليل متفاوتة في الاقتراب والابتعاد في الخطأ والصواب، هو مستوى الوعي في الكتابة، أو درجة الوعي في الكتابة، كما آثرت أن أعنون هذه الصحائف. وأقصد بمستوى أو درجة الوعي هنا، كما هو واضح، مدى القدرة على فهم واستيعاب اشكالية التاريخ واشكالية الكتابة معا. مدى السيطرة الفكرية على الإشكالية الأولى، ومدى السيطرة الإجرائية على الإشكالية الثانية، احتكاما إلى قوانين التاريخ ذاته والى قوانين الكتابة ذاتها، وانطلاقا من تاريخية التاريخ وتاريخية الكتابة في آن. أي انشدادا الى مرحلة تاريخية - أدبية متميزة ومحددة، تنشد بدورها إلى تناقض رئيس، متميز ومحدد، يشد بدوره وتائر التناقضات الأخرى ويهيمن عليها. ص 25. ويركز عبد القادر الشاوي أساسا، كما يتبدى ذلك من عنوان كتابه (سلطة الواقعية، على مفهوم الواقع والواقعية، في سياقهما المادي والتاريخي، كسلطة نظرية ونقدية متجاوِزَة لأنماط الواقعية التبسيطية، وقادرة على سبر أعمق للواقع، سواء أتعلق الأمر بالإبداع أم بالنقد. والواقعية بذلك، مفهوم مركزي في الكتاب ناظم وناسج لجماع خيوطه وفصوله. والشاوي يعتبر الواقعية سمة غالبة على الأدب المغربي الحديث، وبخاصة الإبداع السردي منه، منذ مواجهة الاحتلال الى مواجهة الاستغلال. يقول الشاوي في صفحة 11 من مدخله النظري: [ولذلك كانت الواقعية هنا هي الاختيار الأدبي، وكانت الإصلاحية في الجانب الأول هي المَنْزع السياسي، الأمر الذي يدفعنا إلى القول بتركيز شديد: بأن الواقعية في القصة وفي الأدب المغربي الحديث عموماً، تحددت في الممارسة الأدبية الإصلاحية كممارسة سياسية]. ص 11 لكن الواقعية الحق والموضوعية عند الشاوي، تنحو منحى آخر. يقول في صفحة 18. [ولهذا وَجَب أن نقول: الواقعية في هذا الطرح تكتسي أبعادها الاجتماعية من نزولها بالأدب الى ميدان الصراع، ومن إعطائها للأدب بُعْدَه السياسي، ومن وقوفها في وَجْه التبشير المثالي الذاتي لمنازع أدبية وفنية أخرى غالباً ما كانت من حاصل توجهات لا علاقة لها بظروف المجتمع وواقع البلاد]. ص 18. هكذا يتحرك الخطاب النظري والنقدي السبعيني واثق الخطو والرؤية، منغرساً بكليته في حمأة الواقع، وحلم تغيير الواقع. ولعل مثل هذا الخطاب المفرط في الأدلجة والتسييس، هو الذي كشَّر من ناب الواقعية وأفقدها بعض مائها ورونقها، وهو الذي ألصق بعدئذ صفة أو تهمة «النقد الإيديولوجي» على النقد السبعيني وهو ما لا ينسحب بالضرورة، على كل المشهد النقدي السبعيني، وهو ما فنَّد أيضاً بالحجة والقرينة في كتابي (درجة الوعي في الكتابة). + + + هذه شواظ من النار النقدية في السبعينيات التي جاءت إثر شرارة 23 مارس من العام 1965 تُرى أين نحن الآن من شواظ هذا النقد اللافحة. هل انطفأ الجمر تُرى أم ثمة خلل الرماد وميض نار؟!