معلوم أنه ومنذ ظهور القانون في الحضارات الإنسانية القديمة في عهد البابليين والآشوريين والفراعنة مرورا بالهنود والصينيين القدامى والإغريق ثم الرومان، وكذا الحضارات الدينية التوحيدية الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلامية، وانتهاء بالحضارة الإنسانية الحديثة والمعاصرة، والقانون يسعى إلى ضبط سلوك الأفراد وتنظيم المجتمعات وذلك من خلال اعتماد عدة مسالك منها: - حفظ وحماية الحقوق في المجتمع وصيانتها من التعدي والتجاوز مع ضمان أداء الواجبات المترتبة عن تلك الحقوق المُصانة؛ ولبلوغ هذه الغاية فإن الدول بمختلف مؤسساتها تضع ترسانة قانونية مهمة، وتعمل على إشاعتها والتعريف بها لدى المعنيين بها بشكل خاص، وفي المجتمع بشكل عام. - إنصاف من تُهدر حقوقهم في المجتمع أو تتعرض لأي نوع من أنواع الاعتداء أو السلب، وإشعارهم بأن ثمة أمْنً قانوني في المجتمع يحمي الأرواح ويصون الممتلكات؛ ولهذه الغاية فإن الدول توفر أجهزة أمنية مهمتها حفظ الأمن وإنفاذ القوانين. - الانتصاف من المعتدين أو الجائرين على حقوق الغير، أو من المُقَصّرين في أداء واجباتهم تجاه المجتمع والقانون؛ ولهذه الغاية فإن الدول تُنَصّب جهازا للقضاء للفصل في الخصومات التي تقع بين أفراد المجتمع أو جماعاته، وذلك باعتماد عدد من المساطر الإجرائية والآليات القانونية التي تُنْصف المظلوم وتقتص من الظالم. إلا أنه وقبل تشريع أي قوانين جديدة وإخراجها لحيز التنفيذ، فإنها تكون مسبوقة في البلدان الديمقراطية بنقاش مجتمعي مستفيض -وحادٍّ أحيانا ولكنه شفّاف وديمقراطي- يتعرض لكل جوانبها التشريعية والإجرائية والتقنية، وكذا آثارها الاجتماعية والنفسية على المواطن وانعكاساتها الإيجابية والسلبية على الرفاه العام للمجتمع وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية؛ ويتم ذلك من طرف خبراء ومتخصصين في مختلف جوانب المعرفة الإنسانية، وأيضا من طرف سياسيين محنكين ومتمرسين في تدبير قضايا الشأن العام، كما يتم إشراك هيئات المجتمع المدني -في نفس السياق- للإدلاء بآرائها واقتراحاتها في مجالات اشتغالها؛ الشيء الذي يجعل تلك القوانين، بعد المصادقة عليها وإقرارها من طرف المؤسسات التشريعية، مُسْتساغة ومقبولة من طرف غالبية أطياف المجتمع، وبالتالي فإنها تكون سلسلة في تطبيقها وناجعة في واقعها الاجتماعي والسياسي. إلا أن هذه المنهجية الديمقراطية والشفافة في سنّ القوانين تَضْمُر أحيانا أو تغيب كليّا في بلادنا -وفي بلدان أخرى مشابهة-، حيث يتم إقرار قوانين كثيرة وتنزيلها في الحياة العامة للمواطنين بسرعة البرق! وتنزل كالصاعقة على المواطنين ودونما إنذار ولا إعذار ولا إعداد نفسي أو اجتماعي مُسبّق؛ مما يُولّد لدى المواطن شعورا بالصدمة وإحساسا بالقلق تجاهها، وتوترا عند تطبيقها، وكُرْها مبطنا أو صريحا لكل شيء يحمل صبغة قانونية، لأنه غير عارف بمضامينها، ولا مُدْرِك لما يمكن أن يكون لها من آثار على حياته الشخصية والعامة، لا حاضرا ولا مستقبلا، وفوق هذا وذاك فهو غير مُؤهّل لا نفسيا ولا اجتماعيا لاستقبالها، فينصاع إليها مكرها ومجبرا و"حزينا" مُتمثّلا بالمثل السائر: "مُجْبرٌ أخاك لا بطل"!! وإن كان البعض، وكشكل من أشكال الممانعة تجاه تلك القوانين، يحاول أن يفكر منذ البداية في أي أسلوب احتيالي للتهرب منها أو خرقها قبل أن يفكر في تنفيذها!! وبالموازاة مع هذه المنهجية التي تبدو "إقصائية" و"استعلائية" في الممارسة التشريعية، تُحلّقُ عاليا، في مجال التطبيق، قواعد أخرى تزيد من معاناة المواطن البسيط مع "القانون"؛ فحينما يضيع حقه بسبب نصب أو احتيال أو أي شكل من أشكال الاستغلال... فإنه يتعرض للاستهزاء والسخرية وتحميله كامل المسؤولية فيما وقع له ويواجه بقاعدة "القانون لا يحمي المغفلين"!! وحينما يرتكب فعلا "جرميا أو شبه جرمي" أو يقع في ورطة مالية أو يشارك في ذلك بكيفية من الكيفيات... ثم يتعلّل بأنه لم يكن يعلم أن القانون يعاقب على ذلك، فإنه يُشهر في وجهه قاعدة "لا يعذر أحد بجهله القانون"!! وهكذا، فالمواطن البسيط في كلتا الحالتين هو من يتحمل كامل المسؤولية في ما يقع له سواء ب"التقصير" أو ب"الجهل"!! والواقع أن هذا المواطن "المسكين" الذي تَسْهل إدانته بهذه الكيفيات، أمام القضاء وباسم القانون، شارد وذاهل عن كل التشريعات التي تعنيه من قريب أو بعيد؛ لأنه لا يتم إشراكه ابتداء في وضعها، كما لا يتم إعلامه انتهاء أثناء تنزيلها، مما يجعله -باستمرار أو في غالب الأحوال- لا يشعر مع هذا الزخم من التشريعات بالأمن القانوني والطمأنينة النفسية والاجتماعية التي يفترض أن تكون مصحوبة بها!!