لعل من حسنات جائحة كوفيد-19 المستجد أنه أيقظ الضمير الإنساني العالمي من سباته العميق، حيث بدأنا نرى المشاعر الإنسانية الدولية النبيلة تتفوق على الحسابات المصلحية الدولية البئيسة. لقد نجحت هذه الجائحة العالمية التي لا تعترف بالحدود، في تغيير مفاهيم الدولة والحدود والتكتلات وبعض النظريات. بل وبعض الأنظمة التي لطالما كانت مثار جدالات قانونية وسياسية واسعة، وهو نظام العقوبات الدولية. لقد نجحت باختزالها لمشاكل العالم أجمع في الأمن الصحي العالمي، في توحيده في دولة عالمية واحدة تتضامن وتتكافل لمواجهة الخطر الداهم، بجحافل من جنود الرسالة الإنسانية النبيلة، سلاحهم العلم والطب. ونجحت أيضا في ما أخفق فيه المجتمع الدولي بمختلف مؤتمراته الدبلوماسية وقممه السياسية، في الارتقاء بنظام العقوبات الدولية الاقتصادية إلى مستوى "الحكامة الإنسانية" في تطبيقها. أي نحو أنسنتها من خلال تجاوز المفهوم الكلاسيكي للعقوبات، لتبني المفهوم الإنساني الذي يراد به تحويلها من عقوبات ميكانيكية نمطية، إلى عقوبات إنسانية ذكية. إذ من بين ما تدمره بالأساس الصحة العامة والأمن الغذائي؛ وهما القطاعان الحيويان اللذان يجب رفع العقوبات عنهما على الأقل في هذا الظرف بالتحديد. إن الناظر إلى واقع نظام العقوبات الدولية في عمومها، لاسيما منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وانفراد الولاياتالمتحدةالأمريكية بتطبيقه منذ بداية التسعينيات؛ لن يستنكف عن طرح بعض التساؤلات العميقة والمشروعة، التي من ضمنها ما يصب تحديدا في تشخيص واقع حقوق الإنسان الدولية في عمومها في ظل تطبيق هذه العقوبات. حيث تظل الإشكالات العميقة التي يطرحها تطبيقها، في حال تم فرضها في احترام لضوابط الشرعية والمشروعية الواردة في ميثاق الأممالمتحدة، أي من طرف مجلس الأمن الدولي وفي تقيد تام بالشروط الإجرائية والموضوعية لإصدارها؛ أو حتى في حال كونها انفرادية أي مفروضة من جانب واحد خارج هذه الضوابط، كما هو الحال في العقوبات التي تفرضها الولاياتالمتحدةالأمريكية؛ هو ما مدى تناقض هذه العقوبات مع مواثيق عالمية أخرى تنظم القانون الدولي الإنساني، صادرة بدورها عن منظمات دولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهدين الدوليين الخاصين بالحقوق المدنية والسياسية وبالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقيات جنيف ولاهاي، واتفاقية حقوق الطفل والعديد من الاتفاقيات التي من بين ما تنص عليه في مجملها، ضرورة ضمان حماية كل من الصحة العامة والأمن الغذائي العام؟ فالمتتبع لسيرورة وصيرورة هذه العقوبات، لا يملك إلا أن يخرج بنظرة تشاؤمية عن واقع هذه الظواهر في الحياة الدولية، وبنظرة سلبية تجاه الأفكار التي صاحبت تطبيقها منذ نشأتها البعيدة في التاريخ حتى اليوم. فواقع تطبيقات العقوبات الدولية بانحرافاتها اللاإنسانية، يشهد على أنها لطالما زاغت عن منظومة العقوبات "بإيجابياتها"، التي يقننها كل من القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. إذ لا يكفي تكديس الترسانة القانونية للعقوبات بالعديد من القرارات النمطية يمينا ويسارا؛ بل تجدر مشاهدتها تؤدي دورها عمليا بشكل سليم في إعادة الأمور إلى نصابها في المجتمع الدولي، لتفي بالغرض المطلوب منها بشكل شرعي ومشروع لا غير. هذه النظرة التقييمية لا تنبع صراحة سوى من باعث أساسي يستند إلى إيلاء كل الاعتبار للغاية أو النتيجة، دونما إعطاء أية أهمية للوسيلة ولواقعية المحيط الذي تستخدم فيه. لذلك نجد أن أغلب الدراسات المختلفة، التي تتناول العقوبات الدولية بالتحليل والتمحيص، سرعان ما تخلص إلى فشل هاته العقوبات وضعفها الكبير في التأثير على استقرار السلم والأمن الدوليين. لكن، فرغم فظاعتها لما لها من انعكاسات خطيرة ومدمرة على المجتمعات البشرية، والمنشآت المدنية ومستويات النمو والتقدم بالأساس؛ تظل الحاجة إلى هذه العقوبات ضرورة لا مندوحة عنها كوسيلة لضبط السلوك الاجتماعي الدولي، في ظل الفوضى العارمة التي تسعى بعض الدول إلى نشرها، من خلال خرقها أو مخالفتها للمقتضيات والشرائع الدولية المتفق عليها لتنظيم العلاقات الدولية، مما يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين. غير أن الارتقاء بها إلى مراتب الإنسانية العليا والذكية بالمقابل، يظل أيضا ضرورة قصوى لا مندوحة عنها. ألم يحن الوقت بعد ما يقارب أربعة قرون من التنظيم الدولي، أي منذ معاهدة ويستفاليا لسنة 1648 التي تعتبر أول لبنة في بناء صرح التنظيم الدولي التقليدي، لترتقي الأمم في تطبيقها للعقوبات فيما بينها إلى مستوى الإنسانية، ليصبح الهدف هو التصحيح وليس الانتقام؟ أي أن تطبقها في أضيق معانيها الاصطلاحية واللغوية والمادية والمعنوية والسيكولوجية. ولعل ذلك ما سبق أن دعا له رئيس مجلس الأمن الدولي في أحد تقاريره الصادر سنة 1995، بشأن الهدف من التدابير والعقوبات التي يقوم بفرضها المجلس؛ الذي أوضح أن الهدف منها ليس هو معاقبة الدول في حد ذاته، بل هو دفع حكوماتها لتغيير سياساتها وتصرفاتها التي تؤدي إلى المس بالسلم والأمن الدوليين. فما هي إذن مبررات الدعوة إلى أنسنة العقوبات الدولية؟ وأية جهود دولية لتبني مفهوم "الحكامة الإنسانية" في تطبيقها؟ وما هي مقترحات تنزيلها؟ مبررات الدعوة إلى أنسنة العقوبات الدولية إن مقياس نجاح العقوبات الدولية وفعاليتها لم يعد يقتصر على مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المنشودة منها فقط، بتحقيق التدمير والهلاك للأمم لاسيما اقتصاديا؛ بقدر ما بات مرتبطا بمدى صوابيتها وأحقّيتها وشرعيتها من ناحية؛ ومدى إنسانيتها وحرصها على تجنيب المدنيين الأبرياء آثارها المأساوية من ناحية أخرى، لاسيما في الفترات الإنسانية الحالكة مثل جائحة كورونا. إذ من غير المقبول أن يتم فرض العقوبات بهدف فرض احترام مبادئ وقواعد القانون الدولي الواردة في الميثاق، وفي غيره من المواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية؛ ويتم بمقتضى نفس العقوبات خرق قواعد ومبادئ أخرى واردة بدورها في الميثاق، وفي غيره من المواثيق والأعراف والاتفاقيات الدولية كما أشرنا؛ فذلك ما يعد من التناقضات التي لا مبرر لها. وفق ذلك، إذا كانت بعض قرارات العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن قد أوردت قيودا على العقوبات التي فرضها، من خلال إدراج استثناءات لدواعي إنسانية خاصة بالمواد الطبية والغذائية، من قبيل القرارين رقمي 232 و253 الصادرين ضد روديسيا سابقا سنة 1966، والقرار رقم 757 الصادر سنة 1992 ضد يوغوسلافيا سابقا، وهايتي بموجب القرارات أرقام 841 و873 و917 لسنة 1993، والقرار رقم 670 بتاريخ 25 شتنبر 1990 المتعلق بفرض الحظر الجوي على العراق، الذي دعا من خلاله بألا يُسمح لأية طائرة تحمل أية شحنة إلى العراق أو الكويت بأن تقلع من إقليمها، ماعدا التي تحمل الأغذية في الظروف الإنسانية أو الإمدادات التي ستستخدم تحديدا في الأغراض الطبية؛ فإن الإشكال الذي يبقى مطروحا يكمن في القرارات التي قد تعتري الرغبة في التخفيف من عقوباتها بعض المساومات، مثل ما حدث في القرار رقم 986 الصادر ضد العراق بتاريخ 14 أبريل 1995 المعروف ب "البرنامج الإنساني" للأمم المتحدة "النفط مقابل الغذاء". حيث فرضت الولاياتالمتحدة شروطا مجحفة من أجل قبول الاستثناءات الإنسانية، المتمثلة في إنقاذ الشعب العراقي من المعاناة الإنسانية التي عاشها بسبب العقوبات العسكرية والاقتصادية التي فرضتها عليه آنذاك. إذ ما الذي يضمن ألا تسعى هي أو غيرها إلى ذلك مجددا مقابل التخفيف من العقوبات لاسيما المفروضة بشكل انفرادي. فلطالما أبانت الولاياتالمتحدةالأمريكية من خلال عقوباتها الانفرادية، أنها تميل إلى تغليب مصالحها الذاتية على المصلحة الدولية. على عكس ما سعت البشرية إلى التخلص منه، من خلال العمل على إحداث القطيعة مع الأزمنة التي كانت فيها طبائع الفردانية طاغية على السلوك الدولي. لأنه السبيل الوحيد نحو بلوغ مصلحة الدولة العالمية، التي تنخرط في التنظيم الدولي الذي يروم المصلحة الدولية العامة. فحتى حضارات أقصى الشرق القديم اشتملت على بعض النظم القانونية والمبادئ المهمة، عبرت من خلالها عن فترة من النضج التي كان فيها للفلاسفة والمفكرين باع طويل من التنظير الراقي في تطبيق العقوبات، لجعلها أكثر ما تكون أقرب إلى الإنسانية والتنظيم والسلام، وأبعد ما تكون عن اللاإنسانية. منها ''قوانين مانو- Lois de MANU'' التي تم وضعها حوالي 1000 سنة ق.م، التي تضمنت عددا من الالتزامات والأحكام التي تتعلق بالمبادئ الإنسانية التي تطبق في زمن السلم والحرب. على عكس الولاياتالمتحدةالأمريكية التي استلهمت نهج الإمبراطورية الرومانية القديمة، التي قامت في إطار علاقاتها بغيرها من الدول على فلسفة الاستعلاء ونزعة التفوق على الآخر. وكان المبدأ الراسخ لديهم يتلخص في تفوق الرومان على الشعوب الأخرى وحقهم في السيطرة على العالم بقوة السيف. هذه الفلسفة كانت نتيجة للقوة المادية والفكرية التي وصلت إليها الإمبراطورية الرومانية آنذاك. والمفارقة هي أن هذا التوجه الأمريكي يعتبر مناقضا للحكمة الأمريكية التي تقول: "إن القوة دائما على حق"might is always right" عندما تكون مسنودة بشرعية دولية أو بقوة فعلية في العلاقات الدولية". فعلاوة على كون العقوبات التي يطبقها مجلس الأمن الدولي لاسيما الاقتصادية المنصوص عليها في المادة 41 من ميثاق الأممالمتحدة، ما فتئت مشوبة بعيب جوهري يتجلى في عدم عرض الأمر على محكمة العدل الدولية، التي تعد ذات اختصاص أصيل في المسائل القانونية، كما تنص على ذلك صراحة الفقرة 3 من المادة 36 من الميثاق؛ هذا دون الحديث عن العقوبات غير الشرعية وغير المشروعة التي تطبقها الولاياتالمتحدة بشكل انفرادي؛ فإن الاستمرار في تطبيقها في ظل الجائحة الراهنة ضد بعض الدول، سيدفعها لأن تلجئ - فيما يشبه الشروع في التأسيس العملي غير الرسمي للحكامة الإنسانية المنشودة- إلى خرق نظام العقوبات الدولية الذي يبدو أنه أخذ منحيين متعاكسين: من جهة تم خرقه من قبل دول غير خاضعة للعقوبات تعاطفا مع دول خاضعة لها؛ مثل ما حدث في حالة العقوبات المفروضة على إيران، حيث سارعت كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا إلى خرقها في إطار التضامن الإنساني معها في ظل هذه الجائحة. وفي الاتجاه المعاكس تم خرقه من قبل كوبا الخاضعة للحصار الاقتصادي الأمريكي، في نفس إطار التعاطف والتضامن الإنساني مع إيطاليا غير الخاضعة للعقوبات. وهي مبادرات إنسانية راقية تخلصت من عقدة الحدود الجغرافية وأنانية الإيديولوجيات القطبية وانتهازية النظريات الاقتصادية، لتعانق مشاعر الإنسانية التي لا حدود لها. لقد ساهمت هذه الجائحة في تغيير النظرة للعقوبات لدى هذه الدول – أملا في أن تنتشر عدوى هذه المبادرة الإنسانية على باقي الدول – من خلال تغليب الاعتبارات الإنسانية على غيرها من الاعتبارات. لاسيما المتعلقة أساسا باحترام بعض مقتضيات الميثاق التي تقضي باحترام تطبيق العقوبات حتى ولو كانت تربط فيما بين الدول اتفاقيات التعاون والشراكة أو الاتحاد. باعتبار سمو قواعد الميثاق على قواعد سائر هذه الاتفاقيات وفق ما تضمنته مقتضيات المادة 103 منه. وأيضا تنفيذا لتعهدهم بقبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفق ما تنص عليه المادة 25 منه. علاوة على مقتضيات الفقرة 1 من المادة 48 في نفس الصدد. في ظل هذا الوضع، كان السيناريو الثاني يفترض أن تلجأ الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى الضغط على مجلس الأمن، من أجل التدخل لضمان احترام نظام العقوبات الدولية المفروضة، لحث الدول التي قامت بخرقه على الالتزام بمقتضياته. غير أن هذا الاحتمال مستبعد لثلاث اعتبارات: الأول هو كونها أصلا عقوبات انفرادية صادرة عنها لا عن مجلس الأمن؛ والثاني هو كون الدول الثلاث الأخرى الدائمة العضوية بمجلس الأمن (الصين، بريطانيا وفرنسا) بالإضافة إلى روسيا بدرجة أقل، تعاني من نفس الجائحة؛ والثالث أنها بدورها تعاني الأمرين من هذه الجائحة؛ ما يجعلها مشغولة في هذه الظرفية بمواجهة تداعيات انتشارها التي بلغت قواتها البحرية على متن حاملة الطائرات ثيودور روزفلت في أعالي المحيطات. غير أن السيناريو الرابع المفترض هو أن يجتمع مجلس الأمن عن بعد "احتمالا واستثناءً" في هذه الظرفية عبر التقنية الرقمية "المؤتمر عبر الفيديو- visioconférence"، من أجل إقرار السماح بعبور البضائع والتجهيزات والمواد الطبية والغذائية. لأن الاستمرار في تطبيق العقوبات في ظل هذه الظروف الاستثنائية، سيحولها من عقوبات دولية إلى تدابير انتقامية، أي تنطوي على الانتقام بما له من حمولة تلخص معنى التأديب والعقاب. الجهود الدولية لتبني "الحكامة الإنسانية" في تدبير العقوبات الدولية إلى جانب المبادرات الفردية المحمودة التي سارعت إليها الدول السالف ذكرها، أظهر رؤساء بعض الأجهزة والتجمعات الدولية على أعلى مستوى، استعدادهم لخوض غمار المبادرات الدولية الإنسانية الجماعية، فيما يشبه التأسيس لمشروع عالمي "للحكامة الإنسانية" في تدبير نظام العقوبات الدولية. هكذا في اجتماع عقده الأمين العام للأمم المتحدة "أنطونيو غوتيريش" في 27 مارس الفارط مع كل من رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة "تيجاني محمد"، ورئيس مجلس الأمن السفير الصيني "جيانغ جيون"، ورئيسة المجلس الاقتصادي والاجتماعي بالأممالمتحدة "مني حؤول"، فضلا عن عدد كبير من مندوبي الدول الأعضاء بالأممالمتحدة؛ جدد الأمين العام مناشدته للولايات المتحدةالأمريكية برفع العقوبات الفردية المفروضة، التي يمكن أن تقوض قدرة بعض الدول على مكافحة هذه الجائحة. وبموازاة ذلك، دعا قادة دول مجموعة العشرين إلى رفع هاته العقوبات التي تعرقل الجهود الرامية للحد من انتشارها. وهو ما أيده مفوض الاتحاد الأوروبي للسياسة الخارجية "جوزيب بوريل" في اجتماع عقده مع وزراء الدفاع للدول الأعضاء في الاتحاد، حيث اعتبر على أن العقوبات لا يجب أن تعرقل تقديم المساعدات الإنسانية والمعدات الطبية للدول التي تخضع للعقوبات. مشددا على دعمه لدعوة الأمين العام من أجل رفع العقوبات التي تستهدف بالخصوص القطاعين الصحي والإنساني في زمن الجائحة الحالية. لقد اعتبر الأمين العام أنه يتعين على المجتمع الدولي أن يهيئ الطريق للتعافي الذي يبني اقتصادا أكثر استدامة وشمولا وإنصافا، مع الالتزام القوي باحترام كافة حقوق الإنسان وللجميع. وقد جاء ذلك استجابة لرسالة وقع عليها سفراء 8 دول أعضاء بالأممالمتحدة بتاريخ 26 مارس الفارط، وهم المندوبون الدائمون لروسياوالصين وكوريا الشمالية وإيرانوكوبا وفنزويلا ونيكاراغوا وسوريا، تدعوه لرفع العقوبات الأمريكية. غير أن المفارقة في هذه الدعوة التي وجهها الأمين العام لا تكمن في الدعوة في حد ذاتها، وإنما تكمن في الجهة الموجهة إليها. فعندما تكون العقوبات شرعية، أي صادرة عن الجهة المخولة بإصدارها وهي مجلس الأمن الدولي، وفي تقيد تام بالإجراءات الشكلية والموضوعية التي تتطلب موافقة تسع دول من أعضائه الخمسة عشر، من بينها أصوات الأعضاء الدائمين متفقة كما تنص على ذلك الفقرة 2 من المادة 27 من الميثاق؛ يمكن للأمين العام وفق الكيفيات الواردة في هذا الأخير، أن يوجه الدعوة لهذا المجلس من أجل تدارس كيفية إعادة تقييم العقوبات المفروضة، إما من أجل وقفها أو التخفيف من حدتها أو إطالة أمدها إذا لزم الأمر. فالمادة 99 من الميثاق تخوله حق تنبيه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي، التي يمكن اعتبار الاستمرار في فرض العقوبات الاقتصادية ضد بعض الدول في ظل هذه الجائحة تدخل ضمنها. أما أن يقوم بدعوة دولة معينة لوقف "العقوبات الإنفرادية" بهذه العبارة، فهذا علاوة على أنه يعني اعترافه بأنها انفرادية أي غير دولية، بمعنى لم يتم اتخاذها وفق مقتضيات المادة 27 أعلاه؛ فهو اعتراف أيضا بأنها غير صادرة عن الجهاز المختص الذي هو مجلس الأمن، واعتراف أيضا بخروج هذه الدولة عن الشرعية والمشروعية الدوليتين، مما يجعل من هذه العقوبات غير شرعية وغير مشروعة لأنها غير خاضع لأية ضوابط دولية. بل يعد أكثر من ذلك تعبيرا عن فقدانه للسيطرة على الأمور كأمين عام للمنظمة ورئيسها الإداري حسب المادة 97 من الميثاق، لأن من يملك وقفها أو التخفيف منها هي الدولة التي قامت بفرضها وليس مجلس الأمن الذي لم يفرضها. مع العلم أنها مجبرة على أخذ دعوة الأمين العام مأخذ الجد، باعتباره الموظف الإداري الأكبر في الهيئة وفق المادة 97 الآنف ذكرها، ثم لأن المادة 100 من الميثاق تنص على أن يتعهد كل عضو في الأممالمتحدة باحترام الصفة الدولية البحتة لمسؤوليات الأمين العام. والواقع أن كل عقوبة دولية تفتقد للشرعية والمشروعية الدولية فهي عقوبة لاغية وغير عادلة، وتدخل في باب الشطط في استعمال السلطة الدولية، وضربا في الصميم لمصداقية الأممالمتحدة بمختلف أجهزتها وعلى رأسها مؤسسة الأمين العام والجهاز التشريعي المتمثل في الجمعية العامة ومجلس الأمن. من زاوية أخرى أكدت مقررة الأممالمتحدة للحق في الغذاء والخبيرة المستقلة في مجال حقوق الإنسان، "هلال إلفر" على أن رفع العقوبات الاقتصادية الأحادية الجانب فورا أمر ملح من الناحيتين الإنسانية والعملية. ودعت إلى رفعها على كل من إيران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا وسوريا وزيمبابوي، لضمان وصول الإمدادات الغذائية لسكانها خلال هذه الجائحة. نفس الموقف عبرت عنه مفوضة الأممالمتحدة لحقوق الإنسان "ميشيل باشليه" عندما دعت في أواخر مارس الماضي إلى تخفيف أو تعليق تلك العقوبات المنهِكة. وشددت على تفادي انهيار النظام الطبي لأي دولة في ضوء ما سيكون لذلك من تبعات كبيرة، تؤدي إلى الموت والمعاناة وانتقال العدوى على أوسع نطاق. وقد أدت كل هاته الضغوط الدولية بالولاياتالمتحدةالأمريكية، التي تعرضت لانتقادات شديدة بسبب نهجها المتشدد فيما يتعلق بتخفيف العقوبات، بوزير خارجيتها "مايك بومبيو" بتاريخ 31 مارس الفارط إلى التصريح بأنهم بصدد التفكير في "احتمال" تخفيفها، وأن الإمدادات والمستلزمات الإنسانية والطبية معفاة من هذه العقوبات. من جهتها قلبت كوبا التي تعاني من الحصار الاقتصادي الأمريكي منذ 1962، مفاهيم التعاون شمال-جنوب وجنوب-جنوب ما بين العالمين المتقدم و"المتأخر"؛ وأعادت صياغة النظرة الاختزالية الضيقة للأشياء نحو النظرة المتكاملة والشمولية. لقد أعطت نموذجا في المبادرات ذات الطابع الإنساني الخالص وذات القيمة الاعتبارية الخاصة. لقد أرسلت 593 خبيرا صحيا إلى 14 دولة في أمريكا اللاتينية وأوروبا وإفريقيا لتقديم المساعدات الطبية اللازمة في مواجهة هذه الجائحة. مع العلم أن كوبا لا تربطها بإيطاليا أية اتفاقيات للدفاع أو التعاون المشترك أو تبادل الخبرات الطبية. كما أن كوبا ليست عضوا في الاتحاد الأوربي. هذا النوع من المساعدات الطبية يعد نتاج خطة استراتيجية استباقية اعتمدتها كوبا في أعقاب الحرب الباردة، وجعلتها من إحدى ركائز ثورتها الاشتراكية التي جعلت الصحة والتعليم على هرم اهتماماتها للنهوض بالدولة. فحسب أستاذ العلاقات الدولية الكوبي بجامعة هولي نايمز الأميركية "أرتورو لوبيز ليفي"، كوبا طورت قدرتها على التصدي لمثل هاته الأزمات البيئية منذ ذلك الوقت. وبالتالي أصبحت هذه القدرة منطقيا أداة رئيسية من أدوات سياستها الخارجية. وهو ما سبق لمنظمة الصحة العالمية أن أشادت به، بعد نجاح الأطباء الكوبيين سنة 2014 في مكافحة فيروس إيبولا بدول غرب إفريقيا. مقترحات "الحكامة الإنسانية" في تدبير العقوبات الدولية لقد أضحت الحاجة مُلحّةً إلى تطوير نظام العقوبات الدولية لتتلائم مع المستجدات الدولية غير المتوقعة كجائحة كوفيد-19، عبر اعتماد مفهوم "الحكامة الإنسانية" أثناء فرضها وتطبيقها. هذا المبدأ الذي نرى أنه أصبح من الضروري تبنيه حتى تستعيد القوانين والشرائع روحها وتكتسي طابع الإنسانية. ولعله لا يخفى بأنه في إطار تدبيره لهذا النظام ينشئ مجلس الأمن لجان عقوبات لمراقبة تنفيذ العقوبات التي قرر فرضها ضد الدول، حيث تتألف كل لجنة من بين أعضائه الخمسة عشر الذين ينتخبون رئيسا لهم لمدة عام من بين أعضاء المجلس غير الدائمين، ويساعد الرئيس طاقم سكرتارية. تتبنى كل لجنة نظام إجراءات خاصا بها، وهو نفس النظام لجميع اللجان. ويتم اتخاذ القرارات بالإجماع وفقا لقاعدة إجماع الدول الكبرى المتمتعة بحق النقض "الفيتو". ويتم ذلك في حضور جميع الأعضاء، بمعنى أن غياب أي عضو يوقف القرار. وفي هذا السياق، لعل من بين المقترحات التي نعتقد أنها ستكون بناءة وعادلة ودقيقة لتدبير هذا النظام؛ هو أن تقوم منظمة الأممالمتحدة بتفعيل مقتضيات المادة 65 من الميثاق، التي تحث مجلسها الاقتصادي والاجتماعي على أن يمد مجلس الأمن بما يلزم من المعلومات، وعليه أن يعاونه متى طلب إليه ذلك. أي أن مساعدته للمجلس إذ تعد من صميم اختصاصه حسب هذه المادة؛ فإنها تعد أيضا من واجبات مجلس الأمن في أن يطلب مساعدة هذا المجلس فيما يتعلق بالمسائل التي تدخل ضمن اختصاصاته، من خلال مده بالمعلومات التي يمكن أن تساعده في التطبيق السليم للعقوبات الاقتصادية بشكل أذكى وإنساني. لا سيما أن ما نصت عليه بدورها المادة 62 قبلها، تؤكد على أن للمجلس الاقتصادي والاجتماعي أن يقوم بدراسات ويضع تقارير عن المسائل الدولية في أمور الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتعليم والصحة... وله أن يقدم توصياته في أي مسألة من تلك المسائل إلى الجمعية العامة، وإلى أعضاء الأممالمتحدة وإلى الوكالات المتخصصة ذات الشأن. هذا علاوة على ما نصت عليه الفقرة 1 من المادة 66 منه، أن هذا المجلس يقوم في تنفيذ توصيات الجمعية العامة بالوظائف التي تدخل في اختصاصه. إن تفعيل اختصاصاته هاته سيمكنه من القيام بدراسات معمقة للوضع الاقتصادي العام للدولة التي ستخضع للعقوبات الاقتصادية القاتلة؛ من خلال تشكيل لجان تتولى دراسة وضعها الاقتصادي قبل فرض العقوبات عليها؛ وذلك لتحديد المجالات التي يمكن أن يتم تطبيقها ضدها بإنسانية وبذكاء، في إطار "العقوبات الموجهة" أو المعروفة ب"العقوبات الذكية" التي تمس أهدافا وقطاعات وأشخاصا موجهة بعناية. الشيء الذي سيسهل من مهمة مجلس الأمن، بعد إطلاعه على التقارير الدقيقة عن الوضع الاقتصادي للدولة الهدف المنجزة من قبل المجلس الاقتصادي والاجتماعي. ولا شيء يمكن أن يحد من اختصاص هذا الأخير في هذا الشأن، طالما أن الميثاق قد وسع مجالاتها من خلال الفقرة 3 من المادة 66 التي خولت له القيام بالوظائف الأخرى المبيّنة في غير هذا الموضع من الميثاق، وبالوظائف التي تعهد بها إليه الجمعية العامة. إن قرارا تتخذه هذه الأخيرة بمبادرة من عدد من الدول أعضاء الأممالمتحدة الداعمة لمثل هاته "الحكامة الإنسانية" في مثل هاته الظروف، لكافٍ لأن يدفعها لتعهد بمهمة من هذا النوع لهذا المجلس. ربما قد يمكّن ذلك الأممالمتحدة من مراعاة أزمنة الكوارث الطبيعية، التي من المفروض أن تعتبرها بمثابة الشروط الموقفة لتطبيق العقوبات إلى حين تجاوزها. أي أنها ستعمل على أنسنتها؛ بحيث بدل أن يصبح المقياس هو مدى فعالية العقوبات الاقتصادية في تقويض دعائم الدولة اقتصاديا، سيصبح هو تطبيقها بشكل يتجنب المس ببعض المجالات الحيوية بالنسبة للمواطنين، وعلى رأسها الأمن الصحي والأمن الغذائي على الأقل أثناء هذه الأزمنة. وذلك طبعا من خلال تحديد درجة أهمية المجالات الحساسة التي يعتمد عليها اقتصاد الدولة، ولا تنعكس بشكل كارثي على هذين القطاعين. ولا يخفى في هذا الصدد أن القيام بذلك سيجنب الأممالمتحدة الوقوع في التناقضات فيما بينها وبين منظماتها ووكالاتها المتخصصة؛ أي علاوة على تقويض العقوبات لأدوار المجلس الاقتصادي والاجتماعي وفق السالف بيانه؛ سيؤدي إلى تقويض أدوار منظمة الزراعة والأغذية "الفاو- FAO" في ضمان الأمن الزراعي لسائر الدول أعضاء الأممالمتحدة في مثل هذه الظرفية؛ وأدوار منظمة الصحة العالمية التي تعد السلطة التوجيهية والتنسيقية لمنظمة الأممالمتحدة في المجال الصحي والمسؤولة عن الأمن الصحي العالمي، والضامنة للمساواة بين الدول في الحصول على خدمات الرعاية الصحية الأساسية ورصد الاتجاهات الصحية وتقييمها؛ وعلى الوقوف بشكل جماعي لمواجهة الأخطار والأوبئة عبر الوطنية. من جهة أخرى نرى على أن المبادرة إلى تعديل الفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة الذي ينظم العقوبات الدولية، قد أضحى ضرورة لا مندوحة عنها لاسيما في ظل هاته اليقظة الإنسانية النبيلة، التي يجب اعتبارها فرصة ذهبية سانحة لذلك. حيث يقترح إضافة مادة تنص على إحداث لجنة دولية قانونية مشتركة تحت إسم: "لجنة أخلاقيات الميثاق" تهدف إلى تخليق تطبيق القرارات الدولية وأنسنتها. تجمع داخل عضويتها، بالإضافة إلى الأمين العام، الأعضاء العشرة غير الدائمين بمجلس الأمن ضمانا لتفادي ممارسة حق الفيتو؛ وقاضيين من محكمة العدل الدولية لمراقبة المسائل القانونية يتم انتخابهم من طرف الجمعية العامة ومجلس الأمن. غير أن ذلك يتطلب عزما ورغبة دولية متحمسة لتجاوز أول اختبار لها في هذا المضمار؛ وهو النجاح أولا في تعديل المادة 108 منه الذي سيفتح البوابة مشرعة أمام سائر التعديلات الموالية. هذا التعديل الذي يبقى رهينا بموافقة الدول الدائمة العضوية بمجلس الأمن التي لن توافق عليه، على الأقل في المديين القريب والمتوسط. حيث يكفي لتحقيق ذلك تعويض عبارة "جميع" الواردة فيها بعبارة "أغلبية" لكي تصادق "أغلبية" أعضاء المجلس الدائمين على تعديلات بدل "جميع" أعضائه. وهو التعديل الذي سيشكل انطلاقة فعلية نحو الحكامة الإنسانية ليس للعقوبات الدولية فحسب، بل للميثاق برمته. * باحث في العلاقات الدولية