في ظل الوضع الصحي غير المسبوق الذي يعيشه العالم منذ بداية العام الجاري جراء تفشي فيروس كورونا المستجد في أرجاء المعمورة، والذي أسفر حتى الآن عن أكثر من مليون إصابة وما يزيد عن مئة ألف من الوفيات، هناك تساؤل يطرح نفسه وهو: إلى أي حد يشكل تفشي هذا الوباء تهديداً للسلم والأمن الدوليين؟ تستدعي الإجابة على هذا التساؤل بدايةً طرح سؤال آخر وهو: من يقرر بأن هناك تهديداً للسلم والأمن الدوليين؟ في ظل النظام الدولي الحالي يعد مجلس الأمن الجهاز المنوط به حفظ السلم والأمن الدوليين، إذ تنص المادة 24 من ميثاق هيئة الأممالمتحدة على أنه: "يعهد أعضاء تلك الهيئة إلى مجلس الأمن بالتبعات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدولي ويوافقون على أن يعمل هذا المجلس نائباً عنهم في قيامه بواجباته التي تفرضها عليه هذه التبعات..."، كما تنص المادة 39 من الميثاق على أنه: "يقرر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان..."، ومن هنا فإن مجلس الأمن هو الجهاز الدولي الذي يقرر فيما إذا كان هناك تهديد للسلم والأمن الدوليين أم لا. وفيما يتعلق بموضوع كورونا فإن أول اجتماع عقده مجلس الأمن لمناقشة هذا الموضوع كان بتاريخ 9 أبريل 2020، أي جاء بعد أكثر من ثلاثة أشهر من ظهور الوباء في الصين، وبعد نحو شهرين من إعلان منظمة الصحة العالمية أن مرض كوفيد -19 الناجم عن فيروس كورونا يصنف على أنه جائحة عالمية (وذلك بتاريخ 11 مارس 2020). ولم يسفر اجتماع المجلس، الذي عقد عبر تقنية الاتصال المرئي ووصف بأنه اجتماع "علاج جماعي"، عن اتخاذ أي قرار وذلك بسبب الانقسام بين أعضائه، ولاسيما بين العضوين الدائمين: الولاياتالمتحدةالأمريكية وجمهورية الصين الشعبية، حيث كانت نقطة الخلاف الجوهرية بينهما هي إصرار الولاياتالمتحدة على تضمين مشروع القرار فقرة تشير إلى أن مصدر الوباء هو الصين، وهو الأمر الذي ترفضه الصين بشدة. علماً بأنه كان هناك مشروعي قرارين معروضين على أنظار مجلس الأمن في هذا الشأن مقدمان من كل من فرنسا وتونس. واكتفى المجلس بإصدار بيان قصير بتوافق الآراء يدعم فيه جهود الأمين العام للأمم المتحدة فيما يتعلق "بالتأثير المحتمل لوباء "كوفيد - 19" على البلدان المتأثرة بالصراعات. ومعلوم أن الانقسام بين الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن دائماً ما يؤدي إلى فشل المجلس وشل قدرته على إيجاد حل لأي بند معروض على جدول أعماله، إذ غالباً ما يلجأ أحد الأعضاء الدائمين أو أكثر إلى استخدام حق النقض "الفيتو"، ما يمنع تمرير القرار، وتشهد على ذلك على سبيل المثال حالات استخدام الفيتو ضد العديد من القرارت المتعلقة بالقضية الفلسطينية، والأزمة السورية. ولذلك كان فشل المجلس متوقعاً في اتخاذ أي قرار بشأن جائحة كورونا خلال الاجتماع المشار إليه أعلاه، مما يعيد طرح التساؤل مجددا حول أهمية إصلاح مجلس الأمن وتوسيع عضويته إضافة إلى تقييد استخدام حق الفيتو في حالات معينة، وكل ذلك يقود إلى الحديث عن ضرورة إصلاح منظومة الأممالمتحدة برمتها، وقد تسرع أزمة كورونا بهذه العملية الإصلاحية المنشودة. وكان لافتاً ما نشر في وسائل الإعلام بأن جنوب إفريقيا – العضو غير الدائم في مجلس الأمن- رأت أن وباء كوفيد-19 يمثل في الوقت الراهن أزمة صحية واقتصادية في حين أن مهمة مجلس الأمن هي حفظ السلم والأمن الدوليين وبالتالي فإن التطرق لهذا الوباء ليس من شأن المجلس في الوقت الراهن. غير أن الأمين العام للأمم المتحدة قد أوضح في كلمته أمام هذا الاجتماع أن "الوباء يشكل تهديداً كبيراً لصون السلام والأمن الدوليين، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة الاضطرابات الاجتماعية والعنف مما قد يقوض إلى حد بعيد قدرتنا على مكافحة المرض" مشيراً إلى أن "مشاركة مجلس الأمن ستكون حاسمة لتخفيف آثار جائحة "كوفيد - 19" على السلم والأمن، قائلاَ: "هذه معركة جيل... وسبب وجود الأممالمتحدة نفسها". ومما يؤكد أيضا على أن وباء كورونا يعد تهديداً واضحاً للسلم والأمن الدوليين التقارير والمؤشرات الصادرة عن منظمات دولية متخصصة حول التداعيات الخطيرة لهذا الوباء، ومن ذلك مثلا أن صندوق النقد الدولي حذر في تقريره حول آفاق الاقتصاد العالمي (عدد أبريل2020) من أنه من المرجح جدا أن يمر الاقتصاد العالمي هذا العام بأسوأ ركود تَعَرَّض له منذ سنوات "الكساد الكبير"(عام 1929)، وأنه من المتوقع أن يشهد الاقتصاد العالمي انكماشا حادا بواقع -3% في عام 2020. ويشير التقرير إلى أن كثيرا من البلدان تواجه أزمة متعددة الأبعاد تتألف من صدمة صحية، واضطرابات اقتصادية محلية، وهبوط حاد في الطلب الخارجي، وتحولات في وجهة تدفقات رؤوس الأموال، وانهيار في أسعار السلع الأولية. كما أن مؤشرات منظمة العمل الدولية دقت ناقوس الخطر حول تفشي البطالة بسبب كورونا، فوفقاً لآخر إصدار لمرصد المنظمة بشأن كوفيد 19 وعالم العمل، (صدر بتاريخ 7 أبريل 2020) هناك نحو 2.5 بليون عامل تأثروا من تدابير الإغلاق الكلي أو الجزئي، يمثلون حوالي 81% من قوة العمل في العالم، وتتوقع المنظمة أن 1.25 بليون عامل، أي 38 % من قوة العمل العالمية، معرضون لخطر التسريح من القطاعات التي يعملون فيها والتي تتمثل أساسا في قطاعات الصناعة والتجارة والخدمات. مما تقدم لا أحد يستطيع أن يتوقع حجم ومدى الانعكاسات السياسية والأمنية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن كورونا على استقرار بلدان كثيرة، ولذلك يمكن القول أن هذا الوباء يعتبر تهديداً غير تقليدي للسلم والأمن الدوليين، ليس فقط لأنه عدو غير مرئي يستهدف قطاع الصحة الذي له ارتباط وثيق بمختلف القطاعات الأخرى الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وإنما أيضا لكونه خطراً عالمياً شاملاً ضرب بقوة حتى في الدول العظمى لاسيما الصين وأمريكا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا. على عكس ما سبقه من أوبئة مثل سارس وإيبولا التي أصابت في الغالب دولاً نامية. تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد أصدرت بتاريخ 27 مارس 2020 القرار رقم A/74/L.52 تحت عنوان "التضامن العالمي لمكافحة مرض فيروس كورونا لعام 2019(كوفيد-19)" أكدت فيه التزامها بالتعاون الدولي وتعددية الأطراف ودعمها القوي للدور المحوري الذي تضطلع به منظومة الأممالمتحدة في التصدي لجائحة مرض فيروس كورونا على الصعيد العالمي، ودعت الى تكثيف التعاون الدولي لاحتواء الجائحة والتخفيف منها ودحرها، بما في ذلك عن طريق تبادل المعلومات والمعارف العلمية وأفضل الممارسات وتطبيق المبادئ التوجيهية ذات الصلة التي توصي بها منظمة الصحة العالمية، معربةً عن تفاؤلها بأن الأزمة غير المسبوقة التي سببتها جائحة كوفيد-19 يمكن التخفيف منها وعكس مسارها بنجاح من خلال القيادة الحكيمة واستمرار التعاون والتضامن العالميين. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة لا تعدو أن تكون توصيات غير ملزمة للدول الأعضاء، على عكس قرارات مجلس الأمن التي هي قرارات ملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأممالمتحدة، وفقا للمادة 25 من الميثاق، وللمجلس أن يتخذ التدابير اللازمة لتنفيذ قرارته سواء بالطرق الدبلوماسية، أو عن طريق فرض العقوبات الاقتصادية وتدابير القوة العسكرية إذا ما ارتأى ذلك، تحت الفصل السابع من الميثاق. ولئن كانت منظمة الصحة العالمية هي المنظمة الدولية المعنية بالشأن الصحي العالمي، والتي أنيط بها التعاطي مع ما قد يواجه العالم من أزمات صحية وأوبئة، والعمل على تنسيق السياسات الدولية الرامية بغية الحفاظ على الأمن الصحي العالمي، فإن ذلك لا ينفي اضطلاع مجلس الأمن أيضاً بمسؤوليته في هذا الشأن، وذلك بحكم الارتباط القائم بين قطاع الصحة والقطاعات الأخرى، وما ينجم عن ذلك من تداعيات على الأمن والسلام الدوليين. كما تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن هناك سوابق انبرى فيها مجلس الأمن لأزمات صحية عالمية، حيث سبق أن اتخذ المجلس على سبيل المثال القرار رقم 2177 (2014) تحت عنوان "السلم والأمن في إفريقيا" والذي قرر فيه بأن "تفشي فيروس إيبولا على نطاق غير مسبوق في إفريقيا يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين". والعالم إذ يعاني اليوم من تمدد جائحة كورونا عبر مختلف القارات فإنه يواجه تهديداً بيولوجياً غير مسبوق لأمن البشرية، ومن شأن هذا التهديد أن يهز أسس النظام الدولي الحالي، ويزعزع الثقة أكثر في أجهزة الأممالمتحدة، (نشير في هذا الإطار إلى إعلان الولاياتالمتحدة مؤخرا عن التوقف عن سداد حصتها في تمويل ميزانية منظمة الصحة العالمية احتجاجاً أو "عقاباً" للمنظمة على أسلوب تعاملها مع هذا الوباء). ومن هنا يمكن القول أن وباء كورونا يعتبر تهديداً غير تقليدي للسلام والأمن الدوليين، ما يستلزم أسلوب عمل جماعي وغير تقليدي للتصدي له من طرف مختلف الأجهزة المعنية، وفي مقدمتها مجلس الأمن الذي وإن فشل في اتخاذ قرار في أول اجتماع له حول هذا الموضوع إلا أنه على الأرجح سوف يجد نفسه مضطرا للتعاطي مستقبلاً مع تداعيات هذا الوباء على السلام والأمن الدوليين، وسيصبح الأمن الصحي الدولي بعد هذه الأزمة أحد البنود ذات الأولوية على جدول الأعمال العالمي. *باحث في القانون الدولي