يسدل الليل ستاره الأسود المرصع بتدابير السماء ويطل الهلال قيثارة ساهرة تعزف أغنيات عن زواج الحمام وكأس مدامة عمر الخيام وتصوف الحلاج. وحينما يتجه الناس إلى أحلامهم المؤجلة، يتسلل من بين ثنايا الذاكرة طيفك. تمشي على مهل، متجولا بين الذكريات المنسية، تتسلق خيالات الأشياء الخادعة، تبتسم لذكريات القبل المسروقة ووعود الحب الأبدي، تتجنب إيقاظ قصص الحب النازفة. تقف قليلا أمام جدران الذاكرة لتقرأ رسالة حب معلقة بخيط كبرياء ولتتأمل صورة تؤرخ لفرح عابر عم قلوب أفراد العائلة قبل أن تشرد ابتساماتهم خيانات القدر. تتجول نظرتك التائهة بين ركام الذاكرة، تبحث عن عينان تحتضنان تيهها. فتتعانق النظرات بين حقيقة الحلم وزيف الواقع هناك في اللامكان، حيث تلاحقنا أطياف الأحبة الذين غادروا دون أن يودعونا ودون أن نودعهم. رحلوا قبل أن يعبروا لنا عن حبهم، قبل أن نصف لهم وحشة العالم من دونهم ونتذمر كم القهوة باردة دون دفء أحاديثهم. غادروا دون إنذار، دون عناق أخير، دون كلمة أخيرة وتركونا مع لعنة "اللو". يخذلني النوم كل ليلة ليتحالف مع ذكراك ضدي. وجه طفولي، سحنة سمراء، عينان حالمتان تشعان وهجا يبدد عتمة الليل الخانقة. رغم مرور عشر سنوات على رحيلك لازلت تعبر متاهات الذاكرة كل يوم وأنت ابن العاشرة لم تكبر يوما واحدا، فلم تمسك ألاعيب الزمان ولم يشخ قلبك يئسا على الأحلام المنكوبة. رغم حبك للحياة إلا أنها لم تحبك ورمتك لمخالب الموت قبل أن تكمل ربيعك العاشر. وربما أحبتك كثيرا لذلك سلمتك لأحضان الموت ليحميك من شقائها ومن سواد قلبها. فهي كلما رأتنا سعداء أغارت علينا بمصائبها حتى أصبحنا نخاف حسدها فنكتم فرحنا ونتعوذ بالله من انقلاب الضحكة إلى دمعة. ربما رحلت باكرا يا صديقي لأنه لا يمكن أن تكون إلا طفلا يغني قلبه فرحا برؤية الدوري، لأن نقاء قلبك لن يحتمل سواد حياة الكبار. فهل أحضان الموت أرحم من مخالب الحياة عليك؟ لا أدري. كل ما أعرف هو أني كبرت كثيرا دون ضحكتك وانطفأ فرح قلبي في ظلمة الحياة دون حنان عينيك. لو كنت أعرف أنك ستغادر هذا العالم باكرا لأطلت النظر في انعكاس أشعة الشمس على بحر عينيك ولتأملت ابتسامتك الخجولة عند الثناء واختباء يدك المرتبكة في جيب سترتك ولوقفت طويلا أمام هدوء مشيتك بين جنون العالم. لو كنت أعرف، لتذكرت تفاصيل كل القصص التي كنت ترويها عن شجرة التين أمام بيت جدك وزهر اللوز والليمون وأطوار القمر وكل العصافير التي كنت تراقبها بشغف طفل. فما كنت تتخلى عن هدوئك إلا وأنت تسرد صفاتها وتعدد ألوان ريشها، تتوقف برهة لتتذكر تفاصيل أوزانها ومواطنها لتستأنف حديثك من جديد بحماس أكبر. كنت تقفز فرحا كلما رأيت طائرا دوريا يحلق في السماء. وإن صادفت دوريا تائها عن سربه أو يبحث عن قوته بين أوراق الأشجار تحمله بحنان أم بين يديك وتمرر أناملك على ريشه الكستنائي فلم يخَفك الدوري يوما بل كان يجعل من كفيك عشه ويرى في دفء يدك شمسه، يغرد طربا كلما شعر بأشعة لمستها على جناحيه. كان الدوري يحبك كما كنت أحبك يا دوري القلب. لعل لعنة الذاكرة لا تزال إلا برسالة وداع مخطوطة بحبر المشاعر الصادقة التي خبأها كبرياء القلب أو خجله أو هما معا، فها أنا ذا أكتب لك اليوم يا صديقي رسالة وداع أخيرة عساها تحررني من طيفك. لعلك اليوم نجمة في السماء أو شجرة تين عجوز أو ربما أنت اليوم هو عصفور الدوري الذي ينام كل ليلة في نافذة غرفتي ويحرص نومي كل صباح بعينيه الصغيرتين ويقرأ ما أكتب الآن محركا ريش جناحيه، يفتح منقاره ليغرد نغمة قصيرة لا أفهم تأويلها. هل يعني هذا أنك سامحتني يا صديقي؟ أحبك أينما كنت يا دوري القلب.