داخل أحشائك لم أتذكر كم كنتِ فَرِحة بوصولي إلى رحمك الطاهر التقي النقي، لكنني أحسست بك و سولت لي نفسي أن أطل لكي أرى محياك الجميل و ابتسامتك الرائعة .لم أتذكر كم تألمتِ من تعبيراتي الخشنة و ركلاتي القوية و أنتِ مأواي الدافئ الآمن ،لكنني شعرت بامتعاضك اللطيف و وددت لو خرجت توا حتى أخلصك من تعبك و ألمك .لقد تَشَبَّثتِ بي كأنني كنزك الذي لا يفنى و حبك الذي لا يبلى خرجتُ باكيا فتلقفتني يدك الحنونة ،نسيت كل ألم كل صرخة كل عذاب و لكم سُررتِ بصرختي الأولى و لكم بدت في عينيك دمعة حب و صفاء و حنو.صليتِ كثيرا حتى أجيء و حلمتِ كثيرا لكي تحضنيني لكي تستنشقي رائحتي لا يهمك من هم حولك، عيناك لم تغب عن محياي و أنت تتملي في وجهي. كانت صرختي الأولى موسيقى جميلة لطالما انتظرتها أذنيك و لطالما كافحتِ و ناضلتِ كي تطربي بها.لم تنامي منذ التقينا معا عرفتكِ جميلة يزيدك السهر إصرارا على حبي و يزيدني ارتباطا بك .لم أغب عليك يا أمي لحظة واحدة فلقد شربتُ من حليبِك الدافئ و انضممت بكل اندفاع و محبة إلى حضنك المألوف لي و صدرك السخي بكل عطاء. لم تغيبي عني في لحظات ضعفي و احتياجي دائما كنت تتوسلين لي حتى آكل من يديك و أنا راغب عنك ليس غضبا أو جفاء بل رغبة في اقترابك مني و تشوقا مني إلى حنانك بي، لم تغيبي عني و أنا طريح الفراش متألما و أنت تتوسلين إلى الخالق أن يهب لي الحياة و تموتي أنت كم دَعوتِ بهذا الدعاء و كم أجهشتِ بالبكاء و أنت ترين ريحانتك و فلذة كبدك لا يعي من شدة الألم و الحمى .و يأبى الرحيم إلا أن يشفي روحك و يشفي بؤبؤ عينيك و يشفي عنفوان حياتك و كم كنت محظوظا عندما لم يستجب الخالق لدعائك فوهب لي الحياة و أنا أتمتع بابتسامتك الحالمة و ذلك البريق الخفي الذي يشع من عينيك. لم تبرحي مكانك حتى شُفِيتُ و لم تبرحي مكانك حتى أطعمتيني من يديك و لم تبرحي مكانك حتى دثرتيني برداء دافئ و لم تبرحي مكانك حتى غالبني النوم فسبحتُ في ملكوت من الأحلام. لماذا أنساك يا أمي ؟ لا ،إنني أصرخ بكل قوة أنني أحبك و أحبك و أحبك يا أمي إنك كل ذرة كل قطرة دم كل شعرة كل دمعة كل نسمة كل هَبَّة، إنك كل هذا يتملك روحي و جسدي . إنني أجثو تحت قدميك لأقدم فرائض الولاء و التقديس لأعظم مخلوق بعد الرسل و الأنبياء و أنفس روح بعد روح القُدُسِ و أجمل امرأة حَمَلتْ و تَحَمَّلتْ و تألَّمَتْ ، و أسمى امرأة عرفتُ في حياتي. لماذا أنساك يا أمي ؟ لا، إنني أهرب من كل تفكير و كل إحساس و كل شعور يقول بنسيانك، إنني ابتعد كثيرا و أسافر دائما و أفارق منزلك غالبا لكنني لم آكل مثل خبزك و لم أتذوق مثل قهوتك و لم استطعم مثل أطباقك و لم أشرب مثل مائك .لازلت أتذكر أحاديثك أتذكر غضباتك أتذكر حين نتجول معا و نجلس معا و نأكل معا و نتسامر معا و نضحك معا، أتذكر عندما كنت تحمليني على ظهرك و رِجْلاي تصلان قريبا من الأرض فأقول لقد كبرت يا أمي فتضحكين كثيرا و كثيرا و لا تَتَمَعّنِي في كلامي و تتابعين حملك لي . لماذا أنساك يا أمي ؟ و هل هناك من ينسى تربته و ماءه و روحه و عزته و كبرياءه و نصره و روعة وجوده ؟هل هناك يا أمي من ينسى حياته طفولته و نحيبه و قراءاته الأولى على يديك رغم أمِّيتَك يا أمي ؟لا ،و أصرخ ألف ألف ألف لا لا تفكري و لا تشعري و لا تنتبهي و لا تلتفتي و لا تتفطني إلى تلك الكلمات بأنني نسيتك أبدا أو سأنساك أبدا،أنت جوهر حياتي و مسكني الآمن و غرفتي المسكونة بك وحدك يا أمي.لن أبرح محرابك إنني أعبد إلهي بفضلك و أسجد له و أدعو لك و أفرغ من صلاتي و أنا فرح مطمئن و خجول من أكون مقصرا في حقك يا أمي، فبماذا أصفك بماذا أناديك بماذا أفاجئك؟ لماذا أنساك يا أمي؟ والدتي أنتِ و أنا ولدك لن نفترق لن نغيب عن بعضنا، سامحيني إن بالغتُ في تقصيري سامحيني إن بالغتُ في هجري سامحيني إن تركتُكِ تنتظريني على الغذاء سامحيني إن أطلت في مشاويري. والدتي، أعلم أن قلبك أنظف مكان و ألطف مخلوق و أحن علي من نفسي،اعلم انك تعشقين انتظاري تعشقين تأنيبي تعشقين احتضاني بحنان و تقبيلي على وجنتي. والدتي أعلم أنني سأبقى طفلك الذي لا يكبر طفلك الذي تغيرين ملابسه و تجهزين فطوره و تتابعين دراسته و تخافين عليه من الشارع .والدتي أعلم انك لا تختبرين حبي لك فأنت السلوى و أنت العالم الفسيح و أنت الزمن غير الضائع ،و أنت الجنة على الأرض و أنت مفتاح الخلود أنت المدى البعيد و العاطفة الجياشة.لن أرضى بغيرك بديلا، سلام لك يا ذات الأسارير المنفرجة سلام عليك من السماء ،سلام عليك من أعماق القلب، سلام لك من رب العباد،سلام عليك يوما بعض يوم حتى أموت و لا تموتي فأنت الخالدة عبر الأزمنة و أنت الشامخة فوق الأمكنة . آه، ثم آه، إن لم أراك كل يوم إن لم أحدثك كل دقيقة إن لم تمرري يدك الكريمة على رأسي إنني طفلك الصغير أجثو على ركبتي و أقبل اليدين و الركبتين و القدمين .أحس بالسكينة الكبرى و الطمأنينة العظمى عندما أجلس بجانبك و أسمع حديثك و أرتشف معك من نفس الكأس،أحس بالاعتزاز و تمر عبر جسمي قشعريرة باردة ترتعد لها فرائصي و أنا انظر إليك تركعين و تسجدين في خشوع ،فأحِسُّ بالأسى على كل دقيقة مرت دون أن تنظري إلي دون أن تمرين أمامي .لا أشعر بالخجل عندما أبكي أمامك ،عندما أتوسد ركبتيك ،عندما أحملك فوق ظهري، عندما أغسل ملابسك ،عندما أمشط شعرك عندما أناولك الدواء إنني ولدك إبنك طائرك إنني غزالك فرسك الجموح ،إنني طبيبك حبيبك إنني داؤك و دواؤك . أمي ،ما أروعك ما أجملك ما أطهرك ما أطيبك ما أحلاك، لا تغادري أرجوك فأنت المرسى و أنت الشاطئ و أنت الأرض التي أقف عليها أتوسل إليك لا لا لا، تتركيني يتيما لا تتركيني وحيدا ،فمعك عرفت معنى الحياة ،و معك عرفت معنى الحب ،و معك لعبت لعبتي الأولى ،و معك قفزت قفزتي الأولى ،و معك حاربت حربي الأولى و ذرفت دمعتي الأولى ،و معك ضحكت من القلب ،و معك بكيت من القلب، و معك نجحت نجاحاتي و خطوت خطواتي . أمي، لا لا لا، تحرجيني بالوداع لا أحبه لا أستسيغه لا أبغيه رفيقا. فأنتِ الرفيق و أنتِ الطريق و أنتِ العناوين كلها و أنتِ الرسائل مجموعة و المشاعر كافة.أبكي كلما تذكرت دخولك من الباب أبكي كلما شممت عطرك أبكي كلما جاء العيد و أنتِ غائبة أبكي كلما سمعت كلمة أمي أبكي كلما جاءت صلاة الفجر و سجادتك فارغة أبكي عندما ألامس سبحتك . والدتي، إنني الآن يتيما في كِبَرِي أتشوق إلى نظرتك أتشوق إلى ابتسامتك العميقة أتشوق إلى نصيحتك الحكيمة .والدتي، مهما مرَّت الأيام و السنون لن أتورع عن حبك ،لن أتورع على عشقك ،لن أتورع عن تذكرك.والدتي لماذا أنساك ؟ لست غبيا و لا معتوها و لا شيطانا كي أنسى ذلك العطف، ذلك الأنس ،ذلك الخوف علي في كل أحوالي، لن أنساك في عالمك و لن أنساك في عالمي و لن أنسى اسمك و لن أنسى رسمك أنت الخالدة عبر الأزمنة و أنت المحفورة عبر الأمكنة وأنت المنطوق به و أنت المسكوت عنه . والدتي لماذا أنساك ؟ و أنت مزروعة في دمي في لحمي في شعري في قلبي في عقلي . والدتي ،لن أنساك مهما بلغتُ من الكِبر عِتيا لن أنساك مهما كبُرت ابنتي الحاملة لاسمك ،لن أنساك أبدا لن أنساك لن أنساك مهما بلغك عني في عالمك .فانا أحبك الحب كله و أعشقك العشق كله لا تراودك الأحلام بأني سوف أنساك و لا تغتمي بأني لن أزورك .لن أوفيك الحق كله و لو ملأتُ الأوراق حروفا و جلبتُ الأشجار أقلاما و البحار مدادا فلك السلام يا أمي، سلام الله عليك من سماه إلى مثواك إلى مكانك إلى عالمك سلام سلام سلام . أمي لماذا أنساك ؟ لا عِشْتُ إن نسيتك و لا كنتُ إن لم أذكرك في حياتي و بعد مماتي، نامي قريرة العين فابنك بار بك بار بك بار بك و لطالما تمتعت برضاك و دعاءك.