يدور نقاش حيوي جميعنا تابعناه منذ أسبوع أو أكثر يتعلق بالدعوة إلى حكومة تكنوقراطية كبديل عن حكومة سياسية حزبية، وهي دعوة لا يمكن تخوينها ولا مهاجمه أصحابها، بل تدخل في باب النقاش السياسي الذي تعيشه بلادنا منذ الولاية الثانية للعدالة والتنمية عموما، وخصوصا منذ جائحة كورونا، وهي الجائحة التي فرضت تدبيرا سياسيا استثنائيا، نظرا لاستثنائية الوضع. ما ميز هذا التدبير هو ترسيم الوضع المؤسساتي الحالي، وضع مغرب المؤسسات الدستورية التي تشتغل وفقا للدستور وبما يمليه من قواعد تنظيمية لمؤسساتنا الدستورية، وهو ما جعل الملك كرئيس للدولة يأخذ على عاتقه مسؤولية التدبير الإستراتيجي للجائحة. هذا التدبير الذي عبأ الدولة والمجتمع لمواجهة مختلف تداعيات الفيروس، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية، وجعل كذلك رئيس الحكومة باعتباره المشرف على تدبير السلطة التنفيذية يلعب كامل دوره في هذه المرحلة. لماذا هذه الإشارة؟ هذه الإشارة هي للقول إن المغرب اختار مساره المؤسساتي من خلال ترسيمه للاختيار الديمقراطي كثابت من ثوابت الأمة والدولة، هذا الثابت حتى والمغرب يواجه أزمة عالمية مرتبطة بمكافحة فيروس كورونا وبالتهديدات الكبيرة التي فرضها كوفيد 19؛ فذلك لم يؤد إلى تدبير مؤسساتي استثنائي، بل ظلت مختلف المؤسسات تشتغل، سواء كانت السلطة التنفيذية أو التشريعية، في وقت أغلقت أغلب البلدان مؤسساتها المنتخبة، وظل الملك يقوم بدوره الإستراتيجي والتوجيهي كرئيس للدولة يأتي على رأس هرم المؤسسات الدستورية. قد تكون واحدة من الخلفيات الرئيسية للدعوة إلى حكومة تكنوقراطية هي وجود قناعة عامة لدى العديد من الفاعلين والمتابعين للمشهد السياسي ببلادنا بأن هناك صعوبة انتخابية حقيقية لإسقاط الحزب الأغلبي الحاكم من خلال صناديق الاقتراع؛ فرغم وجود هذا الحزب في تدبير الشأن العام لولايتين متتابعتين إلا أنه ولنكون موضوعيين فالعدالة والتنمية مازال تنظيميا ثابتا، وقادرا على المنافسة والفوز، مازال قادرا على ذلك في ظل أزمة العرض الحزبي والسياسي ببلادنا، مازال قادرا على الفوز، قد لا يكون بسهولة وبنفس عدد المقاعد التي حصل عليها مسبقا، لكنه قادر في ظل المعطيات الحالية، حيث إن المشهد الحزبي جامد، لم يعرف تغييرا حقيقيا يدفع في اتجاه خلق بديل انتخابي ومجتمعي، ويغري الناخبين ويعيد استقطاب الكتلة الانتخابية التي هجرت صناديق الاقتراع منذ سنة 2007، الكتلة المشكلة من الطبقة المتوسطة التي مازالت في خصومة مع صندوق الاقتراع. لكن هل لهذا المعطى أو المعطيات، ولتموقعنا في معارضة أو على "يسار" العدالة والتنمية، لنا أن نطالب بخرق المنهجية الديمقراطية وبالعودة لما قبل دستور فاتح يوليوز فقط لأننا في حالة خصومة سياسية مع العدالة والتنمية؟. هل نتصور بذلك أن المغاربة سيقبلون برئيس حكومة تكنوقراطي؟. المغرب كانت واحدة من أعطابه السابقة التي أدت لسنوات إلى العزوف السياسي هي عدم إعمال آلية إقران المسؤولية بالمحاسبة، إحساس المغاربة بأنهم غير قادرين على محاسبة من كان يقود ويترأس حكومتهم كان يدفعهم إلى اليأس السياسي، وللعزوف عن المشاركة. وواحدة من القواعد الدستورية التي تم إقرارها، والتي تعتبر مفتاح هدم العزوف الانتخابي، تعزيز إمكانية محاسبة الناخبين للمنتخبين وليس العكس.. طبعا يقول البعض في إطار الترافع عن حكومة تكنوقراطية، وهو حق يدخل ضمن النقاش الديمقراطي لا يجب تخوينه، أن الحكومة تتوفر على وزراء تكنوقراط ولا يحاسبون، على العكس من ذلك من يجب أن يحاسب على هذه الاختيارات السياسية هو رئيس الحكومة، لأنه قبل بوجود وزراء غير متحزبين.. هذا اختيار سياسي وتدبيري المسؤول الأول عنه هو رئيس الحكومة وهو من يجب أن يساءل عليه اليوم وغدا في صناديق الاقتراع. أعتقد أن الاختلاف مع العدالة والتنمية لا يجب أن يموقعنا في خانة التبشير بمقتضيات غير دستورية، ولا ديمقراطية، بل الذهاب نحو تنزيلها سيقضي على كل أمل في مصالحة السياسة مع المواطنين، ومع المؤسسات المنتخبة. دستور فاتح يوليوز وثيقة مؤسساتية تريد نقلنا إلى وضع أكثر ديمقراطية، وأكثر تعزيزا للمؤسسات الديمقراطية، خاصة المنتخبة منها، وإذا كان العدالة والتنمية قادرا على تعبئة كتلته الانتخابية، وحافظ على قوته التنظيمية، فالذي يجب أن يساءل هو باقي الأحزاب، أن تساءل على ضعفها، أن تساءل المعارضة على عدم قيامها بتعبئة المجتمع إلى جانبها لتكون البديل السياسي كما تفعل أي معارضة في العالم، وأن تساءل أحزاب الأغلبية على قبولها بالوضع الحالي بتواجد في حكومة غير منسجمة ضعيفة، يستفيد منها الحزب الأغلبي أكثر من أي حزب آخر.. إشارة أخيرة، هذه الدعوة إذا كانت ستصطدم مع الدستور، وهي فعلا مصطدمة معه، فهي أيضا ستصطدم مع الإرادة الملكية التي تتجه نحو التطبيق والتأويل الديمقراطي للدستور؛ وقد حدث ذلك في غير ما مرة أوضحها لحظة عجز بنكيران عن تشكيل حكومته. الملك بما يمثله من سلطة دستورية خياره كان واضحا، هو احترام الاختيار الديمقراطي، وكان موقفه إشارة واضحة إلى تطبيق الدستور وإلى احترامه للإرادة الشعبية كيفما كانت نتائجها، وإلى كونه على مسافة واحدة من جل الأحزاب. أظن عندما نناقش مثل هذه القضايا لا بد أن نستحضر إلى جانب الدستور موقف المؤسسة الملكية، لأن موقفها حاسم، وانطلاقا مما رسمته منذ خطاب 9 مارس فموقفها من هكذا نقاش يجب استحضاره في التحليل. شخصيا وانطلاقا من طريقة تدبير مرحلة كوفيد 19، وما سبقها من سوابق دستورية تمت الإشارة إلى بعضها سابقا، أتصور انطلاقا من الممارسة الملكية الدستورية أنها لن تتجه إلى الخروج عن منطوق الدستور الذي ينص على تعيين رئيس الحكومة من الحزب الحائز على أكبر عدد من المقاعد، وهو اختيار دستوري لم يكن ظرفيا بل سياسيا ومؤسساتيا ومؤشرا على التطور الديمقراطي ببلادنا.