إن القوى الديمقراطية المغربية ما فتئت تطرح مسألة الإصلاحات الدستورية كورش أساسي في مشروع البناء الديمقراطي ببلادنا. وسنقتصر في هذه المداخلة على استعراض هذا الموضوع منذ بداية التسعينات وبالضبط منذ الإعلان عن الميثاق الديمقراطي للكتلة الديمقراطية في 17 ماي 1992 بين حزب الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية ومنظمة العمل الديمقراطي الشعبي. الاصلاح الدستوري، موقف ثابت للقوى الديمقراطية أكد ميثاق الكتلة الديمقراطية بتاريخ 17 ماي 1992 على المسألة الدستورية حيث وضعها في صدارته مباشرة بعد النقطة المتعلقة بقضية الوحدة الترابية للمغرب. و هكذا أكدت الفقرة الثانية من الميثاق على مطلب « إقرار إصلاح دستوري عميق يضمن ترسيخ دولة المؤسسات وتعزيز سلطة القانون، ودمقرطة وتحديث أجهزة الدولة على كافة مستوياتها، ويكرس فصل السلطات، ويحدد مسؤولية كل سلطة، ويكفل قيام حكومة تكون ممثلة لأغلبية الشعب ومتحملة لمسؤولياتها الكاملة أمام مجلس النواب، ويحقق استقلال القضاء، ويصون حقوق الإنسان، ويحمي الحريات العامة والخاصة، ويكون إطارا ناجعا لتلبية طموحات الشعب وتطلعاته المشروعة في تحقيق التنمية والتقدم والرفاه في كنف تكافؤ الفرص والتكافل والعدالة الاجتماعية، ولبناء مجتمع عصري يعتمد الإسلام ويستند إلى كل المقومات الثقافية والحضارية للشعب المغربي». و لقد جاء تصريح للكتلة الديمقراطية بالرباط يوم 26 يونيو 2006 ليؤكد اربعة عشر عاما بعد ذلك على نفس المطلب، أي « إقرار إصلاح دستوري يرسخ دولة القانون والمؤسسات، ويعزز دمقرطة وتحديث أجهزة الدولة، ويكرس فصب السلطات، ويحدد مسؤولية كل سلطة، ويكفل قيام حكومة منبثقة عن صناديق الاقتراع ومحتملة لمسؤولياتها الكاملة أمام الملك والبرلمان، في نطاق مؤسسات ديمقراطية تحمي الحريات وحقوق الإنسان، وتضمن المساواة وتكافؤ الفرص، وتلبي طموحات الأمة في العزة والكرامة.» كما أن الوثيقة المشتركة التي أعدتها أحزاب الكتلة الديمقراطية الثلاث، حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التقدم والاشتراكية في نفس السنة جاءت لتترجم هذه المبادئ العامة في مقترحات تعديلات مدققة مضبوطة كما أن كل الأحزاب الديمقراطية ما فتئت تولي المسألة الدستورية الاهمية التي تتطلبها. و هكذا و بالنسبة للحزب الاشتراكي الموحد، كما هو الشأن بالنسبة لليسار الاشتراكي الموحد من قبله، فإن مسألة الإصلاحات الدستورية تشكل مدخلا أساسيا للتغيير الديمقراطي بالمغرب. أما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فلقد أكدت مقررات مؤتمره الوطني الأخير على ملحاحية التعديل الدستوري في أفق بناء ملكية برلمانية. و نفس الشيء بالنسبة للمؤتمر الوطني لحزب الاستقلال الذي جدد مطالبة حزب الاستقلال بالقيام بالإصلاحات الدستورية الضرورية، كما هو الشأن لمختلف الأحزاب الديمقراطية الأخرى التي ما فتئت ترفع نفس المطلب. وما دام أن مداخلات أخرى ستتعرض بإسهاب لمواقف هذه الأحزاب من المسألة الدستورية، فإنني سأركز في مداخلتي على تصور حزب التقدم والاشتراكية للموضوع. إن حزب التقدم و الاشتراكية يعتبر في تقرير الدورة ما قبل الأخيرة للجنته المركزية أن « مسألة الإصلاح الدستوري وتحيين قانوننا الوطني الأسمى، بناءا على التجربة التي مررنا بها، واستفادة منها، تظل مطلبا أساسيا وأحد المداخل المركزية لبناء الدولة العصرية، دون أن نغض الطرف عن مدى قدرة كل الفاعلين السياسيين على تفعيل النصوص القانونية المتوفرة، بما فيها الدستور نفسه، وتنشيط المؤسسات الممارسة السياسيتين مع تحسين حكامة جهاز الدولة». و بعد التأكيد على أنه قد حان الوقت لكي نضبط بالمزيد من الدقة، اختصاصات كل سلطة من السلطتين التنفيذية والتشريعية، مع السهر على ضمان استقلالية الجهاز القضائي ونزاهته، يضيف التقرير «إن الإصلاح الدستوري الذي نطمح إليه، بغية تكيف أكبر مع اختيار النهج الديمقراطي الحداثي، يجب، في الميدان المؤسساتي، أن يدقق، أكثر، صلاحيات المؤسسة الملكية، ويوضح صلاحيات الحكومة والوزير الأول، ويرفع من مستوى نجاعة العمل الحكومي في ميدان تدبير المصالح العمومية وذلك بإخضاع الهيآت والمؤسسات العمومية لتدبير سليم وشفاف تحت مراقبة الحكومة المسؤولة دستوريا أمام الملك وأمام التمثيلية الشعبية، مع توسيع سلطة المراقبة المخولة للبرلمان». و لقد خلص تقرير اللجنة المركزية لحزب التقدم و الاشتراكية إلى أن «المراجعة الدستورية المتوخاة ستمكن، في نفس الوقت، من ضبط صلاحيات كل من مجلس النواب ومجلس المستشارين، لاسيما إذا أخدنا بعين الاعتبار تفعيل مبدأ الحكم الذاتي بأقاليمنا الجنوبية الغربية، وإذا تحققت مراجعة مفهوم الجهة نحو المزيد من اللاتمركز واللامركزية. كما ستمكن هذه المراجعة من دسترة الأمازيغية، كمكون أساس لهويتنا الوطنية حضاريا وثقافيا. كما يجب التنصيص في الدستور على القانون الوطني، مما يفرض تحديث وملائمة ترسانتنا القانونية الوطنية مع مضامين ومقتضيات المواثيق والمعاهدات الدولية الصلة بحقوق الإنسان، مع التأكيد أكثر على مبدأ المساواة بين الجنسين والرفع، بالطرق المناسبة، من التمثيلية السياسية للنساء». الاصلاحات الدستورية ضرورية، لكنها غير كافية في حد ذاتها إذا كانت المرحلة التاريخية التي يمر منها المغرب تتطلب القيام بإصلاحات دستورية(صلاحيات الحكومة، الغرفة الثانية، اللغة الأمازيغية، ...) تعطي لبلادنا دستورا متقدما يتلاءم وروح العصر و في مستوى تطور المجتمع المغربي، فان ذلك و إن كان ضروريا و أساسيا،فإنه لن يكفي في حد ذاته، بل يجب أن يندرج في إطار إستراتيجية مندمجة تهدف إلى إرساء قواعد دولة الحق والقانون وترسيخ مؤسسات ديمقراطية حقيقية يضبطها هذا الدستور المتقدم، إلى جانب وضع أسس التنمية المستدامة للنهوض بالأوضاع الاقتصادية والاستجابة لمتطلبات الشعب الاجتماعية الأساسية من تربية وتشغيل وصحة وسكن... إن الإصلاحات السياسية أو الدستورية و المكاسب الديمقراطية على العموم رغم أهميتها، فإنها إذا لم يتم تحصينها بمكاسب اقتصادية واجتماعية تكون مهددة في أي وقت و حين بالتراجع، بل و قد تستعمل من طرف القوى الرجعية و النكوصية لضرب الديمقراطية نفسها. هذا مع التأكيد على أن كل هذه المهام تندرج في مشروع بناء مجتمع ديمقراطي ومتقدم يضمن العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، مجتمع متفتح على العالم وعلى العصر والحداثة في انسجام مع خصوصيات شعبنا وبلادنا ومع هويتنا الأمازيغية العربية الإفريقية وقيمنا الإسلامية. و من جانب آخر، فإن تأهيل البناء المؤسساتي للمغرب لضمان حياة سياسية ديمقراطية يفرض علينا أن نعمل كمجتمع لنطور كل مؤسساتنا حتى تلعب كل واحدة منها دورها كاملا و دورها فقط. ولا يجب أن نغفل ضرورة تأهيل مؤسساتنا الحزبية ليكون التعامل داخلها تعاملا ديمقراطيا، الأمر الذي قد يكون بدرجة متفاوتة من حزب إلى آخر أو من مؤسسة إلى أخرى لكنه إجمالا يبقى، على العموم، مرتبطا بمستوى تغلغل الفكر والروح الديمقراطيين داخل المجتمع، انه إشكال حضاري لان الديمقراطية بناء ليس فقط دستوري و سياسي و حزبي و انتخابي، بل هو بناء مجتمعي شامل. دستور جديد للعهد الجديد و هنا لا بد من التأكيد على أن هذه الأهداف تتطلب تعبئة وطنية شاملة ونضالات وحدوية لكل الديمقراطيين والديمقراطيات بالمغرب و خاصة قوى اليسار التي عليها أن تلم شملها و أن تقترب أكثر فأكثر من القوى الحداثية الموجودة في المجتمع المغربي وذلك على أساس مشروع مجتمعي حداثي ديمقراطي ومتفتح على عصره ، فالتحالفات أضحت تبنى على أساس البرامج والمشاريع المستقبلية، إذن على أساس المستقبل المشترك وليس كما كان الشأن في الفترات السابقة على أساس الماضي المشترك وإن كان هذا الماضي مليئا بالتضحيات الجسام . وقبل الختام أرى من الضروري التأكيد على أن الظروف الحالية و المناخ السياسي العام المغرب يجعل مسألة الإصلاح الدستوري تطرح لأول مرة في تاريخ البلاد بعيدا عن كل تشنج و أنه من الممكن تحقيقها في إطار تعاقد سياسي جديد و مجدد يمكن المغرب من التوفر على دستور متقدم يتلاءم وروح العصر و في مستوى تطور المجتمع المغربي مما يؤكد شعار دستور جديد لعهد جديد.