في شهر رمضان الكريم، ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل. وهكذا، تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزيونية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل. جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام. بامتناعهم عن الأكل يحقق الأطفال جُلَّ مطالبهم الصغيرة، ومثلهم يفعل السجناء حين يضربون عن الطعام للفت الانتباه إلى وضعيتهم. في الحالتين يبرز الطعام كسلاح الضعفاء لتهديد الأقوياء من خلال الإضرار بالنفس. أما في حالات أخرى، فلا يتم إشهار هذا السلاح للتهديد وإلحاق الضرر فقط، بل أيضا للتصفية الجسدية والإبادة الجماعية إذا اقتضى الأمر. في الحروب القديمة، كان حصار المدن وقطع الإمدادات عنها الجزء الأكثر نجاعة في الخطة. فالجوع، لا السيوف، ما كان يجعل تلك المدن تستسلم دون إراقة دماء. وحتى الآن، فالحصار الاقتصادي هو أول ما يشهر في وجه بعض الدول. بعض العداوات والأحقاد الشخصية تدفع إلى القتل، ولتجنب الوسائل الدموية يتم اللجوء إلى الطعام الزعاف. لا يُعَبِّد الطعام الطرق فقط إلى القلوب والأسِرَّة والمناصب... وإنما إلى الثروات والعروش كذلك. وما سُمِّيَ الزرنيخ بمسحوق الورثة إلا لأنه كان، عبر العصور، يعجل برحيل القادة والملوك والأثرياء. ولعل الطهاة المتواطئين ساهموا في صنع التاريخ بدسّهم السم في الدسم. التجويع بغرض التبعية والتطويع هو ما كان وراء ظهور المثل الشائع "جوِّع كلبك يتبعك". وهو المثل الذي ينطبق حتى على الحيوانات الأكثر شراسة. ولنا أن نتأمل كيف أصبحت "النمور في اليوم العاشر" حيوانات عاشبة، ولنا أيضا أن نتأمل تطبيقات المثل ذاك على الشعوب وليس على الكلاب. وبعيدًا عن المجاز قريبًا من الحقيقة، فالأسلحة الفتاكة نفسها لم تنجُ من إغراء الطعام؛ فالبندقية سُمّيت كذلك لأن ذخيرتها تشبه حبات البندق. والقنبلة اليدوية تسمى رمانة. أما القنبلة العنقودية فلها دالية كلما عَرَّشت في السماء أردى حَصْرَمُها البشر زبيبًا في الأرض.