في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل. وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل. جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام. (معجزة) منذ التفاحة التي زجت بالإنسان في الأرض، والطعام يحرس الجسد حرصًا على الروح، مُوَفِّرًا له الطاقة والوقاية والعلاج وأسباب النمو... لذلك، ولكثير غيره، فهو معجزة حقيقية. غير أننا لفرط تناوله وتداوله، لم نعد ننتبه إلى جانبه المدهش. فحين نجلس إلى مائدة تجتمع عليها قمم الجبال مع أعماق البحار في طبق واحد، فإن لذة الطبق ذاك تجعلنا نغفل عن معجزة اللقاء. على نفس المائدة، قد نجد خيرات الغابة والجبل والوادي والصحراء والسهل والبحر... وخيرات الجهات الأربع... ومع ذلك فإننا نفتح أفواهنا من الجوع لا من الذهول. منذ التفاحة التي زجت بالإنسان في الأرض، والطعام معجزة الأرض. (رشوة) أقرب طريق إلى قلب الرجل معدته. هذه ليست فقط وصفة تتواصى بها النساء لكسب قلوب الرجال، بل هي اعتراف صريح بِكَون الطعام رشوة عاطفية، تتلقاها المعدة ليبذل القلب مقابلها حبًّا. والطعام رشوة جنسية أيضا، إذ لا سرير قبل المائدة. ولأن سرير الليل ألذُّ من سرير النهار، فقد تم ابتكار ذريعة محترمة ومكويَّة بعناية ولا يرقى إليها الشك... ذريعة اسمها "عشاء عمل". في المناطق الشعبية تأخذ الانتخابات شكل مواسم، فتدق الخيام وتحشد الحشود وتذبح الذبائح وتولم الولائم... فكما أن عين البائع تعرف عين الشاري، فإن المرشحين يعرفون ناخبيهم جيِّدا، لذلك فهم يُعَبِّدون بالطعام طريقا موازيا لأصواتهم: فالحنجرة جارة البلعوم. الطعام، إذن، رشوة سياسية. ... ولسوف يظل الطعام رشوة متعدّدة المآرب طالما هنالك جوع ونفوس جائعة.