في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل. وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف "الشهيوات" تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أنه بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب.. ولا يعود إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار. جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب "ديوان المائدة" للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة: المائدة 2 يكاد الخبز أن يكون محض كناية. فما من صورة له تبدو واضحة منذ أن بايعته معظم الشعوب رمزا لكل طعام. فبسبب تواضعه وأوجه البساطة التي يكتسيها، استطاع أن يتصدر الموائد من مختلف الأجناس، إذ لا يضاهيه حضورًا سوى صنوه الماء. فهما معًا يتبادلان الملامح مع توأم آخر: الجوع والعطش. ولأن الأجيال الجديدة تجترح استعاراتها الخاصة بنفس الذوق الذي تختار به الملابس وتسريحات الشعر والأغاني وباقي أَكْسِسْوارات الحضور المتميز، فقد ارتأت أن تخلع الخبز عن عرشه المتقشف لصالح رمز آخر يجمع بين بذخ اللحم وترف الشحم ولذة العظم. وهو الرمز الذي استساغته الألسنة حَدَّ أن ولَّدت لأجله حاشية من الفعل والفاعل والمصدر والحال وهلمَّ قصًّا، مضيفة بذلك صفحة شهية إلى معجم الغذاء. هكذا أصبح الجيل الجديد من المغاربة يطلق اسم "القصّ" على كل طعام. هو انقلاب، إذًا، ضدّ الخبز. أما من قاده، ومتى تمّ ذلك، وكم تطلب الأمر من الوقت وأسئلة أخرى كثيرة، فنترك جانبًا أمر طرحها ومحاولة الإجابة عنها، فيما سنتوقف فقط عند عبقرية الاختيار، اختيار القَصِّ رمزًا متوجًا لكل طعام. لا يحتاج الخبز إلى تعريف، وإلا سنكون كمن يشرح الخبز بالخبز. فهو مألوف وواضح وعار. الدقيق والملح فيه شديدا التشابه. والماء فيه حيلة العجين إزاء بطش النار. أما القصُّ فغريب وغامض ويحتاج إلى لسان العرب حيث: هو المُشاش المغروز فيه شراسيف الأضلاع عند وسط الصدر. من القمح حتى آخر كسرة مهملة، يحظى الخبز باحترام يشبه التقديس. ففي البوادي التي مازالت تسودها أساليب الزراعة التقليدية، لا يطأ الفلاحون أي بيدر قبل أن يخلعوا نعالهم. وهم بذلك يعاملون البيدر كبيتٍ من بيوت الله. فإذا كان المسجد مكانًا لإقامة الصلاة، فإن البيدر مكان لإقامة الأود. ولعلهم يُزكُّون فقط المعاملةَ تلك حين يرفضون قطعًا إعمال السكين في الخبز، مفضلين تكسيره بأيديهم، كما لو أنهم يعملون بوصية توارثوها أبًا عن جدّ. وهي، لا بد، مدوّنة في كتب الأسلاف. وإذا كان بعض الناس يحترمون الخبز حتى وهم يقسمونه، فإن كثيرين يقدسونه حين يُقسمون به. كما أن منهم من يحفظون الودّ لبعضهم بسبب جزء يسير منه: الملح. وحتى الآن، إذا وجدت كسرة خبز على قارعة الطريق، فإن الحكمة تقتضي تقبيلها ووضعها بمنأى عن الأقدام. ففي ذلك تقدير لشيء نحن مدينون له ببعض لحمنا. فأبو جابر، وهذا أحد أسماء الخبز كون كسوره تجبر كسور الجوع، يستحق منَّا ذلك وأكثر. أما القصّ فلا يمكن الوصول إليه باليد المجردة، إذ لابد من سكين للذبح والسلخ والتقطيع... فأي احترام وأي تقدير بعد هكذا عمل دموي؟ يحظى القصّ بالاشتهاء، بالاشتهاء فقط. ولعل شهوتنا للحم دفينة فينا منذ الإنسان الأول الذي خبر الصيد قرونًا قبل الزراعة، ذلك الذي كان يمشي إلى الطريدة صَدْرًا حيث لا أثر للنبال. إذا كان الأنف صنو الأنفة فإن الصدر شقيق الصدارة. فمنذ الصرخة الأولى تبدأ علاقة الإنسان بالصدر، صدر الأم حيث حليب الحياة، تلك التي يقضي سحابتها في البحث عن مكان في صدر الخيمة أو صدارة المجتمع. فما دون ذلك ليس سوى رغام يأباه الأنف قبل الأنفة. ولعل شاعرنا القديم لخص الأمر كله في هذا الشطر: لنا الصدر دون العالمين أو القبر. الانقلاب ضد الخبز لصالح القص استبدال للنبات بالحيوان. فالخبز سليل القمح والشعير والذرة... أما القَصُّ فينحدر من الضأن والبقر والبط والدجاج... وهو أيضًا استبدال للهامش بالوسط، هامشِ المائدة حيث الخبز بوسطها حيث الطبق الرئيس المكون في العادة من اللحم. فاللحم يتوسط المائدة ويتصدر الطعام مثلما يتوسط القص الصدر. إن استبدال الخبز المتقشف بالقص الباذخ استبدال لرمز محترم حدَّ التقديس برمز يلخص معظم الشهوات. فاللحم كان دائما عنوانًا للترف والجموح واللذة، وهي الأثافي التي تأججت بينها نار جدّنا الجاهلي فأشاد بأكل اللحم وركوب اللحم ودخول اللحم في اللحم.