التأكد من هوية الشاب المغربي الذي عُثر عليه في البحر قبالة سبتة المحتلة    المغرب والسعودية يعززان التعاون الثنائي في اجتماع اللجنة المشتركة الرابعة عشر    المملكة العربية السعودية تشيد بجهود جلالة الملك رئيس لجنة القدس من أجل دعم القضية الفلسطينية    المملكة العربية السعودية تدعم مغربية الصحراء وتعتبر مبادرة الحكم الذاتي حلا وحيدا لهذا النزاع الإقليمي    دي ميستورا يبحث تطورات قضية الصحراء المغربية مع خارجية سلوفينيا    الوقاية المدنية تتدخل لإنقاذ أشخاص علقوا داخل مصعد بمصحة خاصة بطنجة    إجهاض محاولة تهريب دولي للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 107 كيلوغرامات من الشيرا    أوزين: عدم التصويت على قانون الإضراب مزايدة سياسية والقانون تضمن ملاحظات الأغلبية والمعارضة    تعرف على برنامج معسكر المنتخب المغربي قبل مواجهتي النيجر وتنزانيا في تصفيات كأس العالم 2026    لهذه الاسباب سيميوني مدرب الأتليتيكو غاضب من المغربي إبراهيم دياز … !    صرخة خيانة تهز أركان البوليساريو: شهادة صادمة تكشف المستور    الأمم المتحدة تحذر من قمع منهجي لنشطاء حقوق الإنسان في الجزائر    وزيرة التنمية الاجتماعية الفلسطينية تُشيد بمبادرات جلالة الملك محمد السادس لدعم صمود الفلسطينيين    الاستثمار السياحي يقوي جاذبية أكادير    الكاف يشيد بتألق إبراهيم دياز ويصفه بالسلاح الفتاك    فيفا يكشف جوائز مونديال الأندية    المغرب يستقبل أولى دفعات مروحيات أباتشي الأميركية    "حماس" تؤكد مباحثات مع أمريكا    سلا: حفل استلام ست مروحيات قتالية من طراز 'أباتشي AH-64E'    نشرة إنذارية.. تساقطات ثلجية وزخات مطرية رعدية قوية الأربعاء والخميس    فاس تُضيء مستقبل التعليم بانضمامها لشبكة مدن التعلم العالمية    3 قمم متتالية تكرس عزلة النظام الجزائري وسط المجموعة العربية وتفقده صوابه ومن عناوين تخبطه الدعوة إلى قمة عربية يوم انتهاء قمة القاهرة!    المغرب..البنك الأوروبي للاستثمار يسرّع دعمه بتمويلات بقيمة 500 مليون أورو في 2024    دنيا بطمة تعود لنشاطها الفني بعد عيد الفطر    وزارة الصحة : تسجيل انخفاض متواصل في حالات الإصابة ببوحمرون    تداولات بورصة البيضاء بأداء سلبي    عمرو خالد: 3 أمراض قلبية تمنع الهداية.. و3 صفات لرفقة النبي بالجنة    "أونسا" يطمئن بشأن صحة القطيع    وكيل أعمال لامين يامال يحسم الجدل: اللاعب سيمدّد عقده مع برشلونة    مونديال الأندية.. "فيفا" يخصص جوائز مالية بقيمة مليار دولار    قصص رمضانية.. قصة بائعة اللبن مع عمر بن الخطاب (فيديو)    مطار محمد الخامس يلغي التفتيش عند المداخل لتسريع وصول المسافرين    هذه مقاييس التساقطات المطرية المسلجة خلال يوم واحد.. وهذه توقعات الخميس    مسؤول يفسر أسباب انخفاض حالات الإصابة بفيروس الحصبة    دراسة: النساء أكثر عرضة للإصابة بمرض ألزهايمر من الرجال    العثور على أربعيني ميتًا نواحي اقليم الحسيمة يستنفر الدرك الملكي    حدود القمة العربية وحظوظها…زاوية مغربية للنظر    «دلالات السينما المغربية»:إصدار جديد للدكتور حميد اتباتويرسم ملامح الهوية السينمائية وعلاقتهابالثقافة والخصائص الجمالية    «محنة التاريخ» في الإعلام العمومي    القناة الثانية تتصدر المشهد الرمضاني بحصّة مشاهدة 36%    تحذير من حساب مزيف باسم رئيس الحكومة على منصة "إكس"    طنجة تتصدر مدن الجهة في إحداث المقاولات خلال 2024    النيابة العامة تتابع حسناوي بانتحال صفة والتشهير ونشر ادعاءات كاذبة    أمن طنجة يحقق في واقعة تكسير زجاج سيارة نقل العمال    كسر الصيام" بالتمر والحليب… هل هي عادة صحية؟    اليماني: شركات المحروقات تواصل جمع الأرباح الفاحشة والأسعار لم تتأثر بالانخفاض في السوق الدولية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال 24 ساعة الماضية    هذه أبرز تصريحات ترامب في خطابه أمام الكونغرس    أبطال أوروبا.. قمة ألمانيا بين البايرن و ليفركوزن واختبار ل"PSG" أمام ليفربول    مكملات غذائية تسبب أضرارًا صحية خطيرة: تحذير من الغرسنية الصمغية    الصين تعلن عن زيادة ميزانيتها العسكرية بنسبة 7,2 بالمائة للعام الثالث على التوالي    المنتخب المغربي يدخل معسكرا إعداديا بدءا من 17 مارس تحضيرا لمواجهة النيجر وتنزانيا    اجتماع بالحسيمة لمراقبة الأسعار ومعالجة شكايات المستهلكين    عمرو خالد يكشف "ثلاثية الحماية" من خداع النفس لبلوغ الطمأنينة الروحية    وزارة الثقافة تطلق برنامج دعم المشاريع الثقافية والفنية لسنة 2025    في حضرة سيدنا رمضان.. هل يجوز صيام المسلم بنية التوبة عن ذنب اقترفه؟ (فيديو)    عمرو خالد: هذه أضلاع "المثلث الذهبي" لسعة الأرزاق ورحابة الآفاق    بريسول ينبه لشروط الصيام الصحيح ويستعرض أنشطة المجلس في رمضان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأجنحة الصغيرة في "أجنحة صغيرة" 1
بين رمزيتي الطفولة والعجز


لماذا لا تطير وكل هذه الأجنحة في رأسك عزيز أزغاي
يستوقفك الاسم والشخص، قبل الإبداع، ليعطياك معا إضاءات تستطيع بها استكشاف بعض عالم القاصة المغربية سمية البوغافرية الإبداعي، من خلال مجموعتها القصصية "أجنحة صغيرة".
يغيب شخص الكاتبة كضمير للمؤنث، ليحل محله ضمير المذكر إما متكلما أو متكلما عنه. وتخفي الكاتبة عاطفة الأمومة، وهي تحاول جاهدة الاختباء خلف متارس جذورها الصلبة الممتدة حتى محمد بن عبد الكريم الخطابي في الشمال، وبوغافر في الجنوب، لتطفو العاطفة طفو الزيت، وتنساب بلا صوت، إلا ذلك الصوت المزمجر للواقع الذي تلحته الكاتبة، فيخرج إما رصاصا (في جسد فلسطين) أو دما (من جسد فلسطين) أو شيئا آخر تفوح رائحته (حول فلسطين)، أو صوتا مكتوما مثل حفيف أجنحة تحلم بالتحليق، فتنتهي على فراش النوم محلقة أو على رمال الضفاف الأخرى، أو فريسة الانحراف.
تكاد تشاهد عبر شفيف الحبر الصلابة، على مستوى التيمات وعلى مستوى اللغة (المعجم).
تقف الكاتبة أمام قصص اختارت موضوعها كما تختار الأرض الصلبة، تتابعها وهي تضع المفردات، مفردة تلو أخرى، وكأنك أمام لبنات شذبت بعناية، لا تخدش حاملها ولا المستظل بظلها، ورغم التشذيب الذي مارسته عليها، تبدو مادة صنعها طبيعية وغير متكلفة.
تحيل الأجنحة على الصغر (الطفولة)، كما تحيل على الضعف (العجز)، ومنه يمكن تقسيم المجموعة إلى قسمين متقاطعين أحيانا:
- قسم يتخذ الأجنحة الصغيرة رمزا للطفولة.
- قسم ترمز فيه الأجنحة إلى العجز، الضعف الانسحاق.
تتنوع أحلام الطفولة، وتنتقل بنا الكاتبة بين حلم كبير، لم يتحقق، وحلم صغير ينكفئ على حرمان كبير.
تستهل المجموعة بقصة "أجنحة صغيرة" التي اختارت القاصة أن يكون عنوانها عتبة كبرى للدخول إلى المتن. تتجرد الطفولة في المجموعة من طفولتها، ومن براءتها أحيانا، لتتلفع برداءات تمكنها من الطيران، أو على الأقل الحلم بالطيران. "أخيرا.. سأنهي الصراع بين وأبي" ص 7، كما نقرأ في أول جملة من القصة. الحلقة الواصلة بين جيلين، هي أجنحة صغيرة. يسعى الطفل "جواد" إلى التقريب بين أفكار جده الموغلة في الزهد والتزمت، وبين أفكار الأب المنفتح حد الانحلال. وتطرح بذلك صراع الأجيال والتجاذب الذي عادة ما يميز بعض الأسر التي ينتقل أفرادها مهاجرين إما هجرة داخلية أو خارجية، والتصادم الذي يقع ضحيته الأطفال الذين يختارون في آخر المطاف التحليق بأجنحة، إما من صنع الخيال "سوبر مان"، ص 11، أو من صنع المخدرات في أحيان أخرى قصة أقواس ص 83.
تعكس قصة "رجل البيت والحارة" ص 13، فقرا وحرمانا توازيهما أمانة الطفل. ينتظر الطفل قدوم خاله من المهجر ليشربه مشروبا ظل طيلة مدة غياب الخال يسيل لعابه، دون أن يتطاول على مال أمه وهي "تسخره" لشراء حاجيات البيت، أو حتى أن يفكر في التحايل ليدخر ثمن المشروب الغازي. ويطرح هنا سؤال التربية، الذي تستلزمه العملية التعليمية.
وإذا ما توسعنا في قراءة هذه القصة، فستفتح باب السؤال عن الإغراء الخفي الذي يبثه الوافد (الغازي) في نفس الطفل. فالأب مغترب والخال مغترب، والأعمام رحلوا إلى الآخرة (ربما حسرة). ويصور المشروب الغازي بقوة الاشتقاق الغازي القادم على شكل سائل يسيل لعاب الطفل، ويدفعه ليمتطي الغرق فيه، أملا في الظفر بنشوة ظَلَّ وصالها في مخيلته مقياسا للرجولة. يكاد الطفل يغرق (يهلك)، في قنينات المشروب الغازي، أمام ضحكات الخال، الذي عاد من غربة في ديار الغازي.
تكبر الأجنحة الصغيرة، وتطير برفاق درب الحلم نحو ضفاف المجهول المعلوم، وكأنه ذلك الحلم بالمشروب الغازي نفسه، تحول إلى اشتهاء مشروب أكثر فورانا، إلى الدم، دم القائد الذي يختار في كل مرة "ضحية" لتخفيف حمولة القارب. لم يتبادر إلى ذهن (الحراك) أن يكون هو نفسه العبء الأكبر على القارب، وأن يمتزج دمه بملوحة البحر، في رحلة تحقيق حلم الهجرة واستعذاب الملح الذي راود الطفل سلفا، يراود بطل القصة وراويها. تحيل قصة "لا أحد يولد مصاص دماء" ص 19 على أجنحة صغيرة تبوح بعجز ولدته البطالة ومعاناة الهجرة السرية وهوان الناس على الناس. هي لحظة تصور عبورا محفوفا بالدم نحو ضفاف مجهولة. ويبقى العطش مستمرا.
بينما يخطف قلب البطل في بداية القصة "أين قلبي؟ متى ضاع مني؟" ص 19، نجده يستعيد نبضه بملامسة الرمال "سرت في كياني الجامد المتجمد رعشة الحياة فانهمرت عيناي تستقبلان نبضا خافتا يخفق بين حنايا أضلعي" ص 22. يتأكد أن الصراع من أجل الهجرة ومجابهة الموت لم يكن لخصاصة، وإنما كان لهدف الانتقام: "وكنت لا أرى في عبوري إليها غير جسر الانتقام لجدي" ص 21. الانتقام ممن؟ من الأب الذي انحل، ونعود إلى قصة "أجنحة صغيرة"، أم من المشروب الغازي، في قصة "رجل البيت والحارة"؟.
حين تحاول الكاتبة النأي عن مرحلة الطفولة من عمر الإنسان، التي تشكل مادتها الخام ومستهدفها في الآن ذاته، فإنها داخل وعيها "اللامرئي" تستحضر عالم الطفولة، وإن باستخدام بعض المنتوجات الموجهة إلى الطفولة خاصة من قبل الإعلام. فهي تستحضر في قصة "عندما تعمل العيون الخفية" شخصية "الكابتن ماجد" الكرتونية. وإن تباعد مجال ممارسة البطلين وعمرهما، فإن السعي نحو البطولة والريادة وتسجيل الأهداف وتحقيق أحلام ظل السمة الأساسية لماجد الشرطي، الحالم بضبط المخالفات وتسجيلها.
تبتدئ هذه القصة بأجنحة كبيرة أوصلت البطل مقصوص الجناحين إلى مبتغاه. المبتغى الذي كان مستحيل التحقق "من كان يصدق أن صاحب سوابق مثلي سيعين شرطيا.." ص 23. تحقق الجناحان، فانفتحت معهما شهية جوانب البطل لمزيد من الأجنحة، ولما جف ريشه، صار متعطشا لمزيد من الدم: "ومن دمهم سأحيا حياة البذخ والترف.." ص 23. يصير الحلم كابوسا، وكأن الكاتبة تقر بتغييرات، مفادها أن السلطة لم تعد مطلقة، وأن السلطة لم تعد تتيح فعل كل شيء، وأن فوق كل ذي سلطة سلطة قد تكون خفية، وأنها لم تعد ذلك الجهاز الذي يسأل ولا يسأل. هي قصة ترصد الجشع الذي تولده السلطة لدى البعض لامتصاص دماء الآخرين إما باستغلال القانون أو بخرقه "علي أن أتقن فنون التخطيء والحساب.." ص 23، وبالتهافت على الكسب واعتباره أمرا مشروعا. ثم إنها، بهذا، تسلط الضوء على داء الرشوة، ومدى مساهمة العيون الخفية في التقليل معالجته.
وفي نفس التوجه من الكاتبة، تستحضر صراع الخير والشر، وتستعير من الرسوم المتحركة عنوان القصة "هزيم الرعد" ص 91. البطل الجبان في القصة يختار الاختباء تحت السرير، ليفيق على سطل ماء صبته الخادمة وهي تنظف البيت. كان مجرد كابوس حقق من خلاله البطل انتصارا على جبنه، وهزيم الرعد لم يعقبه سوى انكشاف شخصيته الحقيقية، على عكس الشخصية الكرتونية ذات المسعى الخير.
تستعير الكاتبة لأبطالها أجنحة حين يعجزون عن الحركة أو الإقدام على التغيير وعن بث الروح في المحيط فتجعلهم يطيرون، وقد يكون الطيران سلبيا، كما هو الشأن في قصة "قم للمعلم ووفه التبجيلا" ص 29. هذه القصة تعكس عالم الطفولة البريء. أجنحة كبيرة (صغيرة) يصطنعها المعلم لنفسه ليبهر المفتش المتعالي بحكم التراتبية، على حساب أجنحة صغيرة لا تملك سوى أن تهتف رغما عنها: "قم للمعلم.." ص 33. هذه الأجنحة الصغيرة ينبثق من بينها التلميذ "بوعريقة"، محتجا كاشفا الزيف الذي يلف جناحي المعلم الفاشل، لترى سوأته أمام المفتش الذي اكتفى بدوره بابتسامة ملفوفة في كاغيد غموض، ليطير -التلميذ- من غير رجعة ص 31.
وتعكس هذه القصة أزمة التواصل، وأزمة الصدق في العملية التعليمية، من خلال مشهدين: مشهد حقيقي وواقعي ولحظة مصطنعة بين السلوك اليومي للمعلم وبين السلوك الطارئ الذي تصنعه ليعكس سلوك غياب الوازع والضمير الحي وسيادة النفاق المهني. وكأنها تقول هل من مسوغ لهذا السلوك المشين للمعلم؟. ولماذا الوقوف لمعلم صار همه هو إرضاء رؤسائه المباشرين، لتحصيل نقطة جيدة تكسبه حظوة وترقية. ويطرح السؤال: لمن يدخر مخزونه المعرفي، المتمثل في الكتب التي يأتي بها في حقيبته، ليتظاهر أنه يغني الفصل بمصادر المعرفة؟
جاءت قصة "بين الجد والحفيد" ص 35، على شكل محاورة بين حمار وصغيره، تنتهي بإفصاح الجد عن سره، وهو لسان حال الحيوان، يشتكي ويبث شكواه. تعيدنا إلى زمن "ألف ليلة وليلة" و"الحيوان"، ينطق الحيوان في محاورة بين حمار تقمص شخصية جد حكيم، وحفيد عديم الخبرة. تحمل القصة نصائح الجد الخبير، وتعكس ضياع جيل بأكمله. الجد ينقل خبرته إلى الحفيد مباشرة دون واسطة. لربما كان انعدام التواصل مع الابن (الأب) وانعدام الخبرة لدى جيله السبب الرئيس لفنائه. كانت رد عجز على صدر مع اعتماد الأنسنة، وكأن مصير الأب في قصة "الأجنحة الصغيرة" سيكون هو الضياع، وذلك التواصل الذي عجز عنه الابن (البشري)، يتمكن من تحقيقه الحفيد (الحيواني) في قصة "بين الجد والحفيد".
وتبدو هذه القصة موجهة إلى الطفولة، على شكل رسوم متحركة، وهي الشريحة المستهدفة الأولى، سواء من خلال الكتابة عنها أو الكتابة إليها.
"موظف في زمن العولمة" ص 41، هو شخصية "لغز" غير أنه لا يبدو كذلك. رغم أن متن القصة لا يعكس العنوان الذي جاء صريحا، إلا أننا قد نوجد مسوغا لهذا العنوان، وهو أن الكاتبة أرادت أن تصنع للبطل (لغز) عالمه الخاص، ومنه عولمته الخاصة. إذ يلاحظ أنه موظف بسيط دخل بحماس للتغيير والفعل في الإدارة وتنويرها "اندفع بثقة عمياء ليسكب على غلس الإدارة ما يحمله من ضياء". غير أن هذا الموظف استسلم، مما جرده من البطولة أو حتى لقب "لغز"، وأفقده التفرد، لأنه في مسيرته الإدارية "أطال الأذنين.. مدد الرقة للانحناء.." ص 43. كل التغيرات التي حدثت في سلوكه اليومي تعكس تناقضا حادا في شخصيته، ومجاراته للتيار تنم عن عدم تشبع بالضياء الذي استقدمه للإدارة قصد التغيير.
لا نجد عجز البطل (لغز) وحده، بل عجز السارد، وكأن الكاتبة وجدت نفسها لم تشف غليلها من "لغز" هذا، فخصصت له قصة أخرى.
توهم "غوغل عربي الأصل" ص 51، بأن السارد يدمن البحث في محرك البحث الشهير، إلا أن القارئ يفاجأ أنها ذريعة لجليسه، كي ينتهي بالاقتراض منه. يلوذ البطل بصديقه لغز الذي يزوده بحل لمعضلته مع الانتهازي "مستنزف"، الذي يدعي أن "غوغل" عربي الأصل. ينتهي فعلا إلى حل يأتى بنتيجة إيجابية، حين "لمحت للنادل بأن يناوله الفاتورة ليدفع بدلا مني" ص 54، هذه الخطة جعلت الانتهازي تنبت له أجنحة مفاجئة يطير بها ويختفي.
تعود بنا الكاتبة إلى جو المدرسة، إلى جو الانتظار الذي حلقت إليه الأجنحة الصغيرة (ضعفا وتملقا)، واقتادت معها (قطيعا) بأجنحة صغيرة، وهي تأمل ملامسة أجنحة أكبر "تلامس يد عامل "محافظ" مدينتنا النائمة" في "عرس" ص 93، إلا أنها لم تظفر سوى بغبار خلفته بتحليقها، غبار طال التلاميذ وهيئة التدريس والإدارة، على حد سواء.
في قصتي، "نضال" ص 69، "نضال وياسمين" ص 75، تمتطي الكاتبة أجنحة الإعلام، وأجنحة الانتماء، والإحساس بالآخر البعيد القريب بداخلها. تتوغل داخل أزقة وحارات فلسطين لترصد مشهدا يوميا مألوفا، كما أراد الإعلام أن يجعله حد السام. تنسج الكاتبة لمستقبل فلسطين أجنحة تقوى على حمل المشعل من جيل قصت أجنحته: "نضال"، فتستحضر بذلك "أبو نضال" و"أم نضال"، و"أخت نضال" منتصبي القامات: "منتصب القامة أمشي" ص74. تضع القاصة أنملة مجهرية على سر استمرار الصمود. إنه حليب، وتلقين يومي وحقن في الخبز والحلوى. وفي جلسة حميمية لن يقال عنها إلا أنها حقيقية ص 71، تجد الكاتبة/الساردة تجالس الطفل الفلسطيني وتعايش أسرته معايشة صديقة صادقة:
"تأبط حقيبة مدرسية" وهو ينشد بعذوبة النشيد الذي طبعته أمه على صدره قبل أن تدونه يده على دفتره المدرسي" ص 74.
رغم الجوع، رغم الحصار، تظل المحفظة المدرسية السلاح الذي لا يهزم. والأجنحة التي تكبر وتكبر. الأجنحة التي تنبت باكرا لأطفال فلسطين، فيعدمون الحيلة والوسيلة للتخلص منها ":- يا رب متى سأتحرر من مشاغل البيت وطلبات أختي فلة؟!". ص 76. الأجنحة التي تكاد تقصم أظهر البراءة، لكن شيئا ما خفيا يخفف من وطئها ومن ثقلها على عظامهم الطرية، فتنمو بتواز معها، فتشكل توازن شخصية الفلسطيني، ليقف جدارا عازلا أمام زحف الطوفان. إنه العلم والترابط الأسري. إنه الحب المتبادل بين الناس والناس وبين الناس والأرض.
"احتوت الأم ابنيها تحت جناحيها..." ص 77.
"من أجلكم سأدوس الشوك وآكل العلقم لأسقيكم العسل" ص 77.
هذا الأمل الذي تلف به الأم ابنيها:
- "كم يغيظني هذا الظلام..
- نامي واحلمي. غدا سيلفك الله بنوره الذي لا سبيل لهم إليه لإطفائه.. نامي.". ص 82
وتختم بوعد (وعيد) ببسط أجنحة/ أياد: "قادمون قادمون قادمون" لإطلاق سراح الوطن: "إننا نسير، نفك قيد الوطن الأسير" ص 82.
"أقواس" ص 83. جاءت هذه القصة على شكل أقواس قاتلة. أقواس ثلاثة ترتبط فيما بينها بخيط ناظم هو البؤس والتفكك الأسري.
جناحان يظللان جناحين صغيرين كتب لهما أن يتحملا مسؤولية الطيران منذ الصغر. البحث عن لقمة عيش مريرة، كأن هناك رابطا بين الشرق والغرب وهو البؤس. الشرق الرازح تحت الاحتلال، والغرب الذي يعاني من سوء التدبير. فالأب أحد دعائم الأسرة ينجرف وراء شهواته وعربدته، فيجرف معه أسرة بأكملها. تعود تيمة التفسخ الأسري لتظهر من جديد، فإن أفقدت الطفل في القصة الأولى القدوة فهاهي تشكل قدوة سيئة للطفل الذي تدرجت حياته من سخط على الوضع، إلى الهدر المدرسي ثم إلى الانحراف واقتفاء أثر الأب "اطمئني يا أمي فلن أكون غيره" ص 85.
حتى تطير الأسرة وتحلق لا بد لها من هذا الثنائي، وبسقوط أحد الدعامتين تسقط الأسرة كلها. هذه هي الخلاصة التي سعت الكاتبة إلى إقناعنا بها. غير أن المقارنة بين هذه الأسرة وأسرة أم نضال التي فقدت الأب، واستطاعت رغم ذلك أن تحلق وتصمد. ربما هناك حلقة مفقودة في الغرب، أن الطفل الأول تمسك بمحفظته على ظهره، بينما الطفل الثاني تسرب إليه اليأس وربط الخبز اليومي بالمحفظة "وركل محفظته ومضى هاربا.." ص 84، لقد أسقط المحفظة والخبز اليومي على حد سواء.
"تشنج" ص 89، قصة تنقل تفاعلا آخر بين الغرب والشرق من جهة، ثم تواصل رصد القطيعة والانفصال والصراع بين الأجيال الذي ظل سيد المجموعة. اللوم الذي ظل الخلف يتذرع به ويتمترس خلفه يلقي باللائمة على تشنج جيل وتقاعس جيل. جيل ما يزال يهتم ويغتم لواقع الشرق: "وأبوه يزداد تشنجا.. يعصر نفسه على الكرسي"، وجيل تنصل من مسؤوليته التاريخية: "- هذا الإرث الممقوت ورثناه عنكم والأحرى أن تخلصوننا منه أنتم" ص 89.
الجدة (التاريخ) تجاوزها الأسلوب الجديد لممارسة السياسة. وذهبت الحكمة التي تميزها في القبيلة في مهب الريح، في ظل حسابات جديدة ووعود سياسوية لحمو البرغوتي الذي استغل الجدة وعائلتها واستعار أجنحتهم فطار بها، ثم أغلق باب المجلس دونهم، ساخرا من الجدة التي دخلت عليه كي تسترد الصوت الذي أدلت به في الانتخابات الجماعية: "لتستعيد صوتها وأصوات ذويها ومصاريف الولائم..." ص 66. لقد عرف كيف يقص جناحيها متذرعا بأن "التصويت يخضع لقانون الزمن يا سيدتي" ص 66.
خلاصات:
تطرح القاصة سمية البوغافرية، التي كتبت وعرف أنها تكتب بنفس طويل أو على الأقل نفس متوسط، عدة قضايا (الشغل، التعليم...)، وتتناول عددا من التيمات (الهجرة، صراع الأجيال...) في تداخل يكاد في بعض الأحيان يشبه تداخل الأحداث في جنس الرواية، وتكرار ظهور شخصيات في غير ما موضع.
تجنح الكاتبة، وخاصة في نهاية المجموعة، إلى الكتابة بنفس قصير، كأنه نبوءة بإصدارات جديدة قد تتخذ القصة القصيرة جدا مطية..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.