إهداء: إلى كل من غُرغر له الشيح قسرا، قبل أن يغرغر الملح طواعية وحيدا يرابط بشرفة المقهى، تارة عينه إلى الشارع وتارة يتأمل الجفاء من حوله، بعدما كان المكان يعج بالحركة ولم يكن يجد فرصة للجلوس. ينظر إلى السقف ويتنهد حسرة على غياب طيور السنونو التي غادرت هي الأخرى دون رجعة، ناكرة للأمان والسلام الذي ضمنه لها، عندما كانت المقهى محجا لكل وافد على المدينة ومضربا للمواعيد ومحطة استراحة وفندقا للغرباء، منذ أن كان القطار البخاري يتوقف قريبا منها في اتجاه ميدلت أو وهران. كنت أرافق والدي أحيانا إلى ذلك المقهى وأنا طفل صغير، كنا نقعد على حصير السمار، حيث تحلق الناس في جماعات صغيرة لتجاذب أطراف الحديث وانتظار أباريق الشاي. يتقابلون وجها لوجه و قد اتكأ بعضهم على سلهامه الملفوف ووضع عمامته على ركبته، خاصة إذا رافق ذلك حضور مشايخ القصبة والكلال من الفرق التراثية الذي كانت تزور المنطقة، كأحمد ليو أو عبد الله المكانة... ،هي لحظات ماتعة بامتياز عندما تصهل القصبة ويعم السكون وكأن الناس على رؤوسهم الطير... ما كان يثير فضولي هو أن كل وافد للمقهى كان يجلب "تعميرة " أو أكثر من الشاي والسكر، أي مقدار ما يريد احتساءه، ولا يؤدي سوى ثمن الخدمة. كذلك ألوان الأباريق المعدنية التي تتنوع من الأخضر الفاتح إلى الأحمر الداكن أو الأزرق البراق، أما القهوة بالشيح فكانت من اختصاص عمي علي وله في ذلك أسرار. سقف المقهى كان من خشب الأرز المصفف "الكايزة"، للمقهى بابان خشبيان بلون زرقة السماء ونوافذ قريبة من الأرض. بالسقف تلتصق أعشاش طيور السنونو الرائعة وهي تمد أعناقها السوداء ذات البقع البيضاء وعيونها ترصد كل حركات وسكنات الزوار، كما تراقب عمي علي وهو يتحرك يمنة ويسرة دون كلل أو ملل، غير غافلة مطبخه الصغير، إذ تراها تفزع كلما فاضت القهوة محدثة ضجة على المجمر. كبرت كأبناء جيلي وكبرت المدينة، فقدت إحساس الطفل وفقدت المدينة طراوتها. اختفى خط السكة الحديدية ومحطة القطار، اختفى "الكار لخضر " ومعالم محطة الوقود القديمة، محطة ولد زمامة. كما اختفت رائحة الأفران التقليدية، السينما، الكنيسة والدير، السوق القديم والطريق المؤدية إليه عبر العين وممر النخيل. كل شيء تغير إلا عمي علي ولباسه العائد إلى صيحة السبعينات، من سروال أرجل الفيل والصدرية الملونة إلى تسريحة شعر فرقة البيتلز والشارب المفتول، لذلك كنا نلقبه شيخ العزاب... كما لم تتغير نظرة عينه النائمة وهو يراقب المارة والزبناء القدامى الذين تنكروا له كما تنكرت طيور السنونو وشيوخ الحلقة، يده اليمنى على شرفة النافذة وكلما جف حلقه يرشف القهوة المرة بالشيح ويتأمل أعشاش الطين العالقة، فتعلو محياه سعادة مجهولة المصدر، يتحسس وجهه فيقوم للحلاقة. يحضر المرآة المستطيلة ذات الإطار البلاستيكي المزخرف، والموسى يشحذها على ساعده صعودا ونزولا وهو يدندن : " منين الباسبور والو، ماعندي ماندير يا بنت الناس..." لم يتغير عمي بلغازي وبقي وفيا للزيزوا والشيح وللقهوة التقليدية، مثلما ظل وفيا لأنفته المعهودة. كما الدلايلاما في معبده، بقي منتشيا بوحدته في المكان الذي عشقه وألفناه فيه، إلى أن ترجل الفارس إلى عالمه الأخير لتعزف المعاول سمفونية الهدم على نفحات الشيح والريح. ملاحظة: كل تشابه في الأسماء أو الأماكن هو من محض الصدفة. *إطار تربوي وفاعل جمعوي