يحلل إدغار موران، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الذي يبلغ من العمر 98 سنة، في هذا الحوار، انعكاسات فيروس كورنا على عالمنا الفكري والثقافي. هل خطر على بالكم يوما، بما لكم من حياة حافلة، عيشُ وضعية من هذا القبيل؟ إطلاقا، كانت هناك أوبئة عالمية، لكن لم يسبق أبدا أن كان هناك حجر صحي على النطاق العالمي. كما كانت هناك اضطرابات وارتجاجات اجتماعية أثارتها الأوبئة، لكن لم يسبق أن كان هناك اضطراب عالمي. لقد كنت من بين أولئك الذين ذهبوا إلى أن المجرى المجنون الذي انجرفت في خضمه الإنسانية سيحمل معه كوارث، لكن مثل هذه الكارثة لم تكن تخطر لي على بال. كيف تعيش الحجر الصحي؟ أعتبر أن الحظ كان في صفي بأن جعلني أعيش في مثل هذه السن تجربة الحجر الصحي في منزلي بدلا من عيشها في دار المسنين. ومحظوظ بعيشي الحجر الصحي إلى جانب زوجة تحبني وتعتني بي. وأن تكون لي حديقة تتيح لي الجلوس تحت شجرة الويستارية مستمتعا ببداية فصل الربيع.. وأن يكون لنا جيران طيبون يتسوقون لنا. كما أن بناتي وأسرتي الرائعة وأصدقائي، القريبين والبعيدين، جميعهم حاضرون عبر الهاتف و"سكايب". غير أنني أفكر في كل المآسي الناتجة عن الحجْر، من الاكتظاظ في الإقامات الصغيرة إلى النساء المعنَّفات والأطفال المرعوبين؛ فالحجر الصحي يضاعف الاختلافات والخلافات في العلاقات الزوجية. وبالتالي قد يحطمها، مثلما يشجع تواصلا وتفاهما جديدا كذلك. فقد صار لي مع زوجتي الكثير من الوقت لأجل التبادل والتواصل. أيامي في ظل الحجر الصحي لا تعاني فراغا، وهي ممتلئة تماما، فقد صِرْتُ أُباشِر أنشطتي من بيتي عبر "سكايب" والبريد الإلكتروني، إذ يلِجُ العالم بيُوتَنا عبر ما هو رقمي، ليحُثَّنا دون توقف على مساءلتِه وليُسَائِلَنا. كما أن لي طقْسا يوميا رفقة زوجتي هو طقسُ التبادل حول معلومات التلفزيون والمذياع والجرائد لنبحث معاً عن مراجعتها وخلق تقاطع على نحو أفضل بين المعلومات التي تخص الوباء؛ في ما يتعلق بمساره، وعلاجاته، ووجهات النظر المتنوعة والمتعارضة أحيانا للأطباء والبيولوجيين بخصوصه، إضافة إلى ما أحدثه الوباء من أزمات في الصين. أضف إلى ذلك ما صرنا نتوفر عليه من إمكانية أكبر لأن نتشارك في كل ما أتوصل به من قبيل طلب إجراء حوارات أو تقديم مقالات، وهو ما تتعاون فيه معي صباح بآرائها وتأملاتها. فكل شيء يظل متحركا وغير يقيني، وما نحاوله هو أن نضع تقييما. ومن جهة أخرى نحن نُثمِّنُ النكت وأشكال التصوير الكاريكاتوري والرسائل السَّاخرة التي أثارها الحجر الصحي باعتبارها أجساما مضادة أو مضادات للاكتئاب. وعلى وجه الإجمال قد جنَّبنا التواصل من كل نوع الشعورَ بالحجر الصحي كما لو كان حبسا واحتجازا. هل تظن مثل كامو أن "الناس وسط المحن يكون ما يثير الأعجاب فيهم أكثر بكثير مما يدعو إلى الاحتقار والازدراء"؟ إذا كانت هناك بعض الأفعال الدنيئة والخسيسة (عمليات سرقة الأقنعة، عمليات احتيال بخصوص الوعود الزائفة بتوفير أدوية مثلا)، فإننا لم نعْدم تجليات مدهشة للتضامن الذي كان يشارف على التلاشي، انتشرت في صفوف المعالِجين بالدرجة الأولى ثم عمَّت كل مكان تقريبا، على مستوى تقديم يد المساعدة بشكل عفوي لمن يعيشون في وضعية عزلة وللأشخاص المسنين، وللبؤساء، ولمن لا مأوى لهم. ومما يبعث على العزاء أيضا أن نرى نكران الذات الذي أبَان عنه العديد من الشباب في الأحياء المهمَّشة؛ فقد كانت هناك صحوة للتضامن الجمعي وجدت تعبيرها الرمزي عبر التصفيقات من شرفات المنازل. أنت الذي عِشت الحرب، بماذا شعرتَ حين سمعت الرئيس يعلن "أننا في حالة حرب"؟ لقد أحسست بأن اجتياحنا تم فعلا، لكن من طرف عدو ليس عدوا إنسانيا، وبأنه لا مناص لنا من المقاومة. وبإيجاز، كانت للفظ الحرب قيمة استثارة إجراءات الاحتراس (وتبرير الإجراءات التي اتخذتها السلطة) ولم يكن لأجل تعريف الوضعية وتحديدها على الحقيقة. وهو ما يعني، كما عليه كان الحال إبَّان حرب 1940، أن هناك الكثير من انعدام الإعداد وأشكال الضعف ومن الأخطاء. لم يعد في مقدورنا إقامة طقوس تليق بوداع موتانا، ما هي آثار ذلك على علاقتنا بالموت، وعلاقتك أنت بالموت. ألا تقودنا الحياة بشكل مفجع إلى نهايتنا؟ ما يقتضيه موت قريب هو ضرورة مرافقته إلى أن يتم دفنه، إذ تلزمنا طقوس ومأتم جماعي، لأن الأحياء يكونون بحاجة إلى التطهر من الألم داخل ضرب من المشاركة. ومع فقدان طقس ديني يكفل العزاء والمواساة، يشعر العلمانيون، وأنا منهم، بالحاجة إلى الطقوس التي تعمل بشكل مكثف على بَعْث وإعادة إحياء الشخص الميت في أنفسنا وتُخمِد الألم بنوع من الأوخارستيا Eucharistie أو القربان المقدس. مَثَّلت عمليات الدفن المستعجلة أحد المظاهر الكارثية للحجر الصحي، إذ يتم الاستشهاد بحالة في إيطاليا وصل فيها الأمر إلى حد الإلقاء بجثة ميت في القمامة لغياب مكان لدفنه بالمقبرة. لقد انتظرت، من جهتي، أن أموت في الثمانين من عمري، وبعد أن تجاوزت التسعين تعودت على الاستمرار في الحياة، لذلك فقد الموت ما يُمكِّنه من إثارة ذهني حتى وإن علِم علْم اليقين بدنوه وقربه. وهنا كذلك، ما من شك في أن شباب زوجتي قد أثَّرَ علي بما يشبه العدوى. لأن صباح تجذبني نحو الحياة أكثر مما تجرني صوب الموت. لقد صارت التهديدات المميتة متعددة: تحلل الكوكب الأرضي وتكاثر الأسلحة النووية، وعودة صور البربرية. وفي الأخير هذا الفيروس المكتسح الذي فرض التخلي نهائيا عن أسطورة الإنسان سيِّدُ مصيره وسيِّدُ الطبيعة. فنحن في الوقت نفسه أقوياء جدا وواهنون إلى أقصى حد، ظافِرُون على صعيد تقنيَّاتِنا، عاجزون أمام الألم والموت. وعلى العكس من حلم أصحاب النزعة المابعد إنسانية، أقول إن الإنسان إن كان في استطاعته تأخير موته الطبيعي، من الضروري أن يواجه دائما الحوادث وأصناف البكتريا والفيروسات التي تعرف كيف تتحول كي تعيد إنتاج نفسها. لذلك فإن ما يلزم الاعتراف به هو أن كل شيء إلى زوال وموت بما في ذلك شمسنا وكوننا، ما يجعل من حياتنا المؤقتة والظرفية هي خيراتنا الوحيدة التي لا ينبغي تبديدها وتبذيرها. سبق لكم أن قلتم إن الحجر الصحي يمكن أن يكون ناجعا لأجل تنقية نمط عيشنا مما علق به من سموم؛ لكن ألن نستأنف عادتنا بأسرع مما يمكن أن نعتقد؟ قبل الوباء تشكَّل بالتدريج ولكن ببطء اتجاه، وإن كان ممثلوه قلة، من أجل مواجهة النزعة الاستهلاكية، والجبروت الذي يمارسه الزمن المقاس بدقة، ولأجل محاولة العيش بشكل أفضل، وما يقوم به الحجر الصحي هو أنه يساعدنا على أن نَعِي ما كنا نعرفه جميعا على نحو غامض: أن الحب والصداقة وازدهار الذات داخل جماعة والتضامن هي القيم الحقيقية. وإمكانية الاستمتاع بالروائع من الأعمال في فراغ الحجر الصحي يمكنها إعانتنا على البحث بشكل أفضل عن شعرية الحياة. ماذا تبقى منها؟ لست أدري.. هل يمكن أن يكون هذا الوباء مناسبة لأجل تنمية التزام بيئي مستدام وكوني؟ هل تعتقدون في ميلاد "عالم جديد"، وأشكال جديدة من التضامن؟ لقد تم إطلاق الإنذار البيئي العالمي منذ خمسين سنة من طرف تقرير Meadows ميدوز(صدر سنة 1972)، لكن الوعي يبقى بطيئا جدا وغير كاف بشكل كبير أيضا. أعتقد أن عالما جديدا سيكون ممكنا، لكنه إلى حدود الآن غير متمتع بالأرجحية؛ لأن القوى التي تحافظ على الوضع كما هو تبقى هائلة. ما يشهده الفكر السياسي من فراغ هائل، بحكم ارتفاع الطلب في كل مكان على الفكر التجزيئي الذي يختزل كل شيء إلى الحساب. كما أن الربح المنفلت من كل عقال يعمل على تقويض كل عملية للتضبيط والتنظيم. ولا ينبغي، فضلا عن ذلك، نسيان التوجه التقدمي النزعة العالمي خلال العشر سنوات الأخيرة. وأزمة الديمقراطيات وما شهدته أمم عظيمة من انتصار وظفر للديماغوجيات، ثم الأزمة العامة للفكر السياسي. وما أنتظره هو حصول مُنعطف غير محتمل الوقوع يعمل على تعديل التطور الجاري. لكن يمكنني أن أقول لكم إن هذا التساؤل: "هل تؤمنون بميلاد عالم جديد؟"، يشكل جزءا من الأسئلة التي غالبا ما أتحدث مع زوجتي وأصدقائي حولها. ولقد حاولت أنا نفسي استخلاص طريق جديد (كتاب طريق 2012 la Voie)، وهي الطريق التي تبدو مخَلِّصة وناجعة. هل سنخرج من الإغراء الذي يمارسه الانطواء على المستوى العالمي والشخصي في الوقت نفسه. وهل مازال بالإمكان التفكير في الحل الكوسموبوليتي؟ لقد أدى الوباء إلى انطواء وانغلاق الدول الوطنية على نفسها. وإذا ما كانت هناك أزمة اقتصادية كبرى بعد الوباء سيتفاقم الميل إلى النزعات الوطنية القائمة على كراهية الأجانب، بل وحتى نزعات وطنية عنيفة. تعرفون مسرحية اوجينيونسكو Ionesco "وحيد القرن"، حيث تتحول كائنات إنسانية بالتالي إلى حيوانات وحيد القرن. وإذن فليحاول كل واحد منا ألا يتحول إلى وحيد القرن! والحل الكوسموبوليتي لكونفدرالية عالمية يبقى حلا مأمولا، وممكنا تقنيا، لكنه غير ممكن حاليا. لذلك فما يلزم كشرط مسبق هو الوعي القوي جدا بالمصير المشترك لجميع الكائنات الإنسانية. هل سنفكر في علاقتنا بالآخر من منظور الإيثار والود أكثر من زاوية الجسد والحب؟ لقد تعرفت الصداقات الحقيقية في ظل الحجر الصحي على نفسها بأن ازدادت متانة، والعلاقات الزوجية تم اكتشافها وتعرّفها بشكل أفضل، غير أن الحجر الصحي يبقى رهيبا بالنسبة للعلاقات الزوجية الجهنمية أو التي هي في طور الانحلال. لا بد من التفكير في أن كل "أنا" هي حاجة إلى "أنت" وإلى "نحن". ألا يبدو لكم أن الثقافة صارت أكثر قابلية لأن يتم الولوج إليها مع إمكانية الإطلاق المجاني على شبكة الأنترنيت للأوبرا ومتاحف وبعض الكتب؟ أم أننا على العكس سنتجاوزها في المستقبل؟. فعلا الإطلاق المجاني على شبكة الأنترنيت لأوبيريهات ومتاحف وبعض الكتب مبادرات هامة من أجل فتح الثقافة على ثقافة أولئك الذين ليس لهم منفذ إليها؛ وهو ما سيولد دون شك صورا من الافتتان الجمالي لدى أولئك الذين يكتشفون الأعمال المشهورة. أما بالنسبة لي فلا يسعني سوى الحث على قراءة الكتاب الذين أحبهم، بالدرجة الأولى دستويفسكي. هل تعتقد أن تيارات فكرية وفنية ستشهد ميلادها من رحم هذه الفترة؟ لا أعلم، وفي كل الأحوال سيكون هناك فن وسخرية من الحجر الصحي مع تزايد الطرائف والنكت ومقاطع فيديو قصيرة والمحاكاة الساخرة التي يتعين المحافظة على بعضها. ما هو الشيء الذي تود أن تفعله أو أن تراه عند نهاية هذا الحجر؟ احتضان من أُكرهْتُ على الانفصال عنهم. أنقر هنا لقراءة نص الحوار الأصلي باللغة الفرنسية