في الجزء الأول من دراسته البحثية المتعلقة بمقاربة موضوع الحاجة إلى علم النفس في إدارة الكوارث والأزمات، تطرق الدكتور رشيد الكنوني، الباحث في علم النفس الاجتماعي، إلى التعاريف المتعلقة بمفهوم الأزمات والدلالات والخصائص المرتبطة بها. في هذا الجزء الثاني، يعمل الباحث على تنزيل هذه الأطر النظرية على أزمة جائحة كورونا بالنظر إلى حجم الخسائر البشرية والاقتصادية التي تتراكم يوما بعد يوم، ويحاول أن يغوص بنا في التداعيات الاجتماعية والظواهر النفسية الاجتماعية لجائحة كورونا المرتبطة بإجراءات الحجر الصحي انطلاقا من تجربة عدد من البلدان. 2. أزمة جائحة كورونا وتداعياتها بالمغرب: بناء على ما تقدم، نتساءل: إلى أي مدى يمكن تطبيق حالة الأزمة على ما عشناه في الأيام السالفة ونعيشه حاليا بسبب فيروس كورونا المستجد؟ ألم نفاجأ بما حدث ونصدم من هول هذه الأزمة مثل بقية دول العالم؟ من منا كان يتوقع حدوث مثل هذا الأمر في زماننا الحالي؟ ألسنا مذعورين بما يحدث إلى درجة يفقد معها البعض منا السيطرة على تفكيره ومشاعره بفعل تسارع الأحداث وتشابكها في مختلف أرجاء العالم؟ وأمام غياب حل جذري وسريع لهذه الجائحة، ألسنا أمام خسائر بشرية تطالعنا البلاغات الصحافية لوزارة الصحة بأعدادها كل يوم؟ وكم ستصل الخسائر الاقتصادية لبلادنا بفعل هذه الأزمة؟ وماذا عن خسائرنا ذات الأبعاد النفسية والاجتماعية؟ هل هي بحجم الخسائر الاقتصادية؟ ما مدى تأثيرها على الأفراد والجماعات وأين يتجلى هذا التأثير؟ لقد تفاجأت بلادنا بهذه الجائحة مثل باقي بلدان العالم، فبالإضافة إلى تأثيرها على قطاع الصحة، تؤثر على الاقتصاد؛ ذلك أن الحكومة كانت تُعوّل على تحقيق نمو للاقتصاد الوطني في حدود 3.7 في المائة خلال السنة الجارية، غير أن فيروس كورونا المستجد ضرب عرض الحائط كل التوقعات. وهذا ما أكده رئيس الحكومة خلال انعقاد المجلس الحكومي يوم الجمعة 27 مارس حينما قال: "قطاعات اقتصادية توقفت بالكامل، وأخرى بدرجة أقل، في حين هناك قطاعات ضرورية ما زالت مستمرة، حيث لا يمكن أن تشل حركة كل المعامل والشركات". أمام خطورة هذه الجائحة على كل المجالات الاقتصادية سينخفض النمو الاقتصادي لبلادنا؛ حيث بادر البنك المركزي إلى تخفيض توقعاته بخصوص النمو، وقال إن النسبة لن تتجاوز 2.3 في المائة. كما أشار المركز المغربي للظرفية الاقتصادية، في معطيات حديثة صادرة عنه، إلى أن النمو لن يتجاوز 0.8 في المائة خلال سنة 2020. أما المندوبية السامية للتخطيط فتتوقع "تراجع نمو الاقتصاد المغربي إلى أدنى مستوى منذ 20 عاما بسبب الجفاف وانتشار فيروس كورونا". في هذا الإطار، خفضت "توقعاتها لمعدل نمو الاقتصاد المغربي لعام 2020 بنسبة الثلث، إلى 2.2 بالمئة". وبلا شك، ستكون لهذه الجائحة تداعيات على المجالات الاجتماعية بدأت ملامحها وتجلياتها تظهر يوما بعد يوم؛ إذ نظرا للأزمة الاقتصادية التي ستعرفها جل القطاعات، خاصة القطاع السياحي والقطاع الصناعي وقطاع الخدمات والقطاع غير المهيكل، فإن أعدادا مهمة من اليد العاملة ستفقد مناصب شغلها، وبالتالي مورد رزقها، وسنكون أمام انعكاسات اجتماعية جديدة تنضاف إلى ما تعرفه البلاد من ظواهر مجتمعية ستضاعف من ظواهر الفقر والهشاشة لدى فئات من المجتمع. لقد اضطرت بلادنا إلى فرض الحجر الصحي بهدف الحيلولة دون اتساع رقعة الوباء؛ الأمر الذي حتم على الناس الالتزام ببيوتهم ومغادرتها إلا في الحالات المسموح بها والتي حددتها السلطات العمومية. غير أننا لم نعتد على هذا الأمر؛ حيث إن الآباء يظلون طيلة النهار بمقرات عملهم، كما أن الأطفال اعتادوا قضاء يومهم في المدارس والجامعات ولا يلتقي أفراد الأسرة إلا في آخر النهار، بل ولا تدوم فترات لقاء كثير منهم سوى دقائق معدودة يقضونها بين الأعباء المنزلية ووسائل التواصل الاجتماعي قبل الخلود للنوم ثم بدء يوم جديد بالانشغالات نفسها تقريبا. في ظل هذا الوضع الجديد، نتساءل عن مدى تأثر العلاقات الزوجية والعلاقات الأسرية عموما بهذا الحجر الصحي بالمغرب؟ من خلال تجربتي كل من الصين وإيطاليا، أظهرت تقارير صحافية أن هناك ارتفاعا في حوادث الاعتداء الأسري بعد فرض الإغلاق على المدن؛ إذ كشفت أرقام صينية عن ارتفاع في عدد حالات الطلاق بعد فرض الحجر المنزلي على المواطنين. وفي السياق نفسه، أعلنت أستراليا تخصيص مئة مليون دولار أسترالي (61,6 مليون دولار) إضافية لمحاربة العنف المنزلي بعدما سجلت الأجهزة المختصة ارتفاعا في الانتهاكات مع انتشار فيروس كرونا المستجد، وقالت مديرة هيئة دعم النساء (وايس)، ليز توماس، لمحطة "إيه بي سي"، "إن وجود الأفراد في المنزل بدلا من تنفيس الضغط من خلال التوجه إلى العمل أو التنقل بحرية خارج المنزل هو من العوامل المساهمة في ذلك". من جهة أخرى، لا تقتصر أضرار فيروس كورونا المستجد على الآثار الجسدية والحالة المرضية التي يصل إليها الإنسان بعد إصابته بهذا الوباء، بل تؤثر أيضاً على صحته النفسية بسبب تصرفات الناس وسلوكهم في خضم هاته الأزمة التي يمرون بها. فبسبب هذا الكم المهول من المعلومات الصحيحة والمغلوطة، ونتيجة لمشاهدة صور ومشاهد صادمة عن ضحايا هذا الفيروس عبر القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي، فإن كثيرا من الناس أصبحوا معرضين لحالات من القلق والخوف والشعور بالهلع، مما يؤثر على حياتهم اليومية وعلى علاقاتهم الاجتماعية وعلى صحتهم النفسية. وقد يترتب عن كل ذلك الملل أو التوتر وسرعة الانفعال عند البعض. كما قد يصل الأمر عند البعض الآخر إلى حالة الاكتئاب وظهور أعراض أخرى مثل اضطرابات النوم؛ هذه الوضعية النفسية التي يصل إليها بعض الأفراد ناتجة عن الضغوط التي يتعرضون لها والتي يواجهونها منعزلين دون دعم أو مواكبة نفسية. وقد أثبتت الأبحاث والدراسات أن الإجهاد النفسي والتوتر يؤثر على الصحة الجسدية للفرد مثل أمراض القلب والأوعية الدموية؛ حيث يزيد من ارتفاع نسبة السكر في الدم عند مرضى السكر، وقد يعرض أفرادا غير مصابين للإصابة بهذا المرض. كما أن الإجهاد الشديد قد يؤثر على مرضى الربو ويزيد من أعراضه كالسعال والاختناق والتعب الشديد. ويؤثر الضغط النفسي والعصبي بدوره على صحة الجهاز الهضمي، وقد يسبب أيضا قرحا شديدة بالمعدة؛ هذه أمثلة عما يمكن أن تتسبب فيه الحالة النفسية المتأزمة من أمراض. صحيح أن الحجر الصحي سيمكن من الحد من اتساع رقعة هذه الجائحة في أفق القضاء عليها، لكن قد تنتج عنه اعتلالات جسمية ونفسية واجتماعية جديدة، أو تفاقم من حدة الاعتلالات القائمة حاليا. فقد أشرنا إلى موضوع العنف والاحتمال الكبير لتفاقمه في المجتمع، لكن هناك إمكانية انتشار أو على الأقل ارتفاع نسبة ظواهر أخرى من قبيل الطلاق أو الانتحار. ولعل ما يزيد من حدة هذه الأزمة، تكاثر وتناسل الأخبار الزائفة وانتشار الإشاعة. ومعلوم أن مجموعة من المعلومات والأفكار والقضايا يتم تناقلها بين الناس لا تكون مستندة إلى مصدر موثوق به يتم تداولها بشكل كبير وتحظى باهتمام فئات كبيرة من المجتمع، ويتم أحيانا تداول هذه الإشاعات بهدف التحريض على أمر معين وإثارة البلبلة في صفوف الناس. وطبعا هناك أنواع متعددة من الإشاعات، لكن أهم هذه الأنواع التي تهمنا هنا ونحن نتحدث عن الظواهر النفسية الاجتماعية المرتبطة بجائحة كورونا، هناك شائعة الخوف التي تحدث وتتنامى نتيجة خوف الجماهير من وقوع أحداث مأساوية في المستقبل، مثل وقوع فيضانات أو زلازل أو أحداث إرهابية. كما أن هناك إشاعة التوقع التي تنتشر عند الناس الذين يكونون مستعدين ومهيئين لاستقبال وتقبل أخبار وأحداث إيجابية أو سلبية على حد سواء. وقد بينت كثير من الدراسات في مجال علم النفس الاجتماعي أن هناك عوامل عدة وراء انتشار الإشاعة؛ منها ما يرتبط بالشك العام الذي يسود عند فئة اجتماعية أو يسود مجتمعا ما، خاصة عندما تتوقف المؤسسات الرسمية عن أداء مهامها ولا تقدم الأخبار الصحيحة والمضبوطة. وقد تكون وراء انتشار الإشاعة حالة الترقب وانعداد الثقة وعدم الاستقرار التي تسود في المجتمع، بالإضافة إلى عوامل أخرى مثل سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وانتشار أنماط الفكر الخرافي والأسطوري القائم على تقبل كل الأفكار دون التحقق من صدقها أو كذبها بأدلة تجريبية أو منطقية. وقد ميز باتريك شارنيتسكي (Patrick Scharnitzky) بين سياقين ملائمين لانطلاق الإشاعات؛ "يتعلق الأول بفترات وقعت فيها أحداث درامية: الزلازل، الحروب، الهجمات، كلها ظواهر طبيعية أو بشرية تثير سلسلة من الأفكار السحرية أو المعتقدات التي تعد الإشاعات جزءا منها. أما النوع الثاني فيتعلق بأحداث ليست درامية في حد ذاتها ولكنها غير قابلة للتفسير. إن عدم القدرة على تفسير ظاهرة ما يزيد من احتمالية ظهور معتقدات تحل محل المعارف العقلانية. (...) وطبعا عندما يجمع السياق الجانبين معا، فإنه يضاعف من قوة وعدد الشائعات التي تظهر". كما تساهم مجموعة من العوامل النفسية الاجتماعية المرتبطة بالإنسان في خلق وتداول وانتشار الإشاعة، ونذكر في هذا الإطار أمثلة متعددة من قبيل أجواء التوتر النفسي التي تخيم في مجتمع معين، وجود أفراد لديهم خصائص سيكولوجية غير سوية مثل القلق الشخصي، الخوف المرضي، انعدام الثقة في النفس وعقلية القطيع، سرعة الغضب...إلخ، كلها مؤشرات مرتبطة باضطراب في شخصية الأفراد التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار في دراسة الإشاعة وفي إعداد استراتيجيات لتفنيدها ومواجهتها. من خلال ما تقدم، يتضح أننا أمام مجموعة من الإشكالات التي خلفتها أو ستخلفها هذه الأزمة. ويلاحظ أننا ركزنا فيها على الانعكاسات السلبية بالرغم من أن للأزمات جانبا إيجابيا أيضا؛ حيث إن الإشكالات التي تترتب عنها تكون مصاحبة بمجموعة من الضغوط على الأفراد والجماعات والمؤسسات وتدفع البعض إلى البحث عن حلول لمواجهة هذه الأزمات والخروج منها بأقل الخسائر. وتتشكل في هذا الإطار مجموعة من الأفكار والمبادرات والابتكارات، وتستغل بعض الدول والمجتمعات كل ذلك لتوظفه في بناء سياسات وبرامج لتحويل هذه الأزمات والتحديات إلى فرص للبناء والإقلاع من جديد، وهذا هو الجانب الإيجابي للأزمات. *أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي