تقديم يعيش العالم أجمع حالة من الصدمة والهلع بسبب تفشي فيروس كورونا وانتشاره في 200 دولة وإصابته لأزيد من 470 ألف شخص وإيدائه بحياة أزيد من 21 ألف إلى حدود كتابة هذه الأسطر. وأدى عَدَمُ التوصل لحد الآن للقاح له إلى تراجع في الإنتاج العالمي، وانخفاض حاد في الاستهلاك، وتعطيل لمناحي الحياة وانتكاسة في مختلف القطاعات الاقتصادية (خصوصا الخدمات والسياحة والسفر والصناعة والنفط) وإلى تراجع قياسي للنشاط الاقتصادي بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي هذا المقال سنتطرق لأبرز تداعيات هذا الفيروس على المنظومة الاقتصادية والمالية العالمية، مع اقتراح بعض التوصيات التي ينبغي على المنتظم الدولي وكل دولة اتخاذها من أجل محاصرة كورونا وتدارك خسائره المدمرة. فيروس كورونا واضطراب الاقتصاد العالمي وصل العالم إلى حالة من عدم اليقين يسميها الاقتصاديون "عدم اليقين الراديكالي"، فلم يشهد العالم يومًا مثل هذه التداعيات الاقتصادية والمالية المتسارعة مع أزمة صحية عالمية تؤدي إلى حصر مناطق ودول بأكملها. الإشكال الأكبر في هذه الأزمة العالمية الحالية، هي عدم قدرة صناع القرار بشكل عام والاقتصاديين بشكل خاص على التنبؤ بحركية البورصات وتوقع الخسائر المالية التي يمكن أن يسببها انتشار هذا الفيروس، خصوصا وأنه تسبب - وفي وقت وجيز- في تغيير المبادئ والمنطلقات الاقتصادية والأسس والقواعد النقدية والمالية وأدى إلى فك الترابطات التي كانت تميز النظام المالي الدولي، وأزال حالات الاستقرار النسبي للاقتصاد العالمي، وظهرت بذلك أعراض مرضية جديدة عمَّت غالبية الاقتصادات. وتكمن أبرز هذه الأعراض في عدم استجابة الأسواق المالية للإجراءات التحفيزية التي اتخذتها الحكومات والأبناك المركزية وأصحاب القرار في مواجهة تداعياته الاقتصادية وآثاره المالية، وعدم انعكاس سياسات التيسير الكمي التي اتخذتها غالبية الدول الاقتصادية الكبرى على أداء أسواقها، بل لم تستوعبها البورصات واستمر النزيف فيها لعدة أسابيع. نزيف البورصات العالمية هو الأسوأ منذ الأزمة المالية عام 2008 أكملت بورصات العالم تعاملاتها بداية هذا الأسبوع 22 مارس 2020 على انخفاض عام وشامل، حيث تراجعت كل من الأسوق الخليج والآسيوية والأوروبية، في حين سجلت الأسهم الأمريكية تراجعا حادا في مستهل تعاملاتها. وفي هذا الصدد، تراجع مؤشر أبوظبي بنسبة 3.1 % وانخفض المؤشر العام السعودي ب 2.9%، في حين هوى مؤشر بورصة قطر ب 3.9% وبورصة البحرين ب 0.4%. كما أغلق مؤشر ستوكس 600 الأوروبي بانخفاض يقدر ب4.3% ، متبوعا بتراجع بورصة لندن ب 7٪، وهبوط مؤشر كاك 40 في باريس بشكل حاد هو الأسوأ منذ 2008 وصل ل 8.3٪، ونفس التراجع وسم بورصة فرانكفورت التي تراجعت ب 7.9٪. بدورها لم تسلم بورصة وول ستريت من هذا النزيف حيث تراجع مؤشر ناسداك بشكل غير مسبوق بنسبة 6٪، الأمر الذي أدى تعليق التجارة لمدة ربع ساعة عند الافتتاح بهدف التخفيف من الذعر الذي أصاب البورصة؛ بالإضافة إلى ذلك شهد مؤشر FTSE وداو جونز الصناعي ونيكي انخفاضات هائلة منذ بدء تفشي المرض في 31 دجنبر، وتعتبر الأدنى منذ عام 1987. وبهذا محا مؤشر داو جونز الصناعي وحده مكاسب ثلاث سنوات في شهر واحد. وفي السياق نفسه، عرفت بورصة هونغ كونغ تراجع مؤشر هانغ سينغ بنسبة 4.4%، وسجلت بورصة سنغافورة أيضا تراجعا بلغت نسبته 7.5%. وخسرت سيول 5.5%، وانخفض مؤشر شنغهاي المركب بنسبة 3.11%، وتراجعت سوق الأسهم المحلية الهندية بأكثر من 11%. خسائر صناديق التقاعد العامة وتدخلات الأبناك المركزية تسببت هذه التحولات الكبيرة والمتسارعة في أسواق الأسهم إلى فقدان قيمة الأسهم العالمية ما يقارب 1.5 تريليون دولار نتيجة المخاوف المتزايدة من فيروس كورونا، مما أثر سلبا وبشكل مباشر على العديد من الاستثمارات في المعاشات التقاعدية وحسابات التوفير الفردية، فحسب تقارير وكالة التصنيفات الائتمانية "موديز" فإن الصناديق تواجه خسائر استثمارية بنحو 21% في المتوسط، وكمثال خسرت صناديق التقاعد العامة الأمريكية نحو تريليون دولار، وإذا لم يتم تعويض هذه الخسائر الاستثمارية فإن الحكومات قد تواجه زيادة بنحو 60% في مساهمات التقاعد للسنة المالية 2021. ولتدارك هذا التراجع في البورصات ووقف نزيفها، اتخذت الأبناك المركزية لأزيد من 50 دولة قرارا سريعا بتخفيض سعر الفائدة الرئيسي (31 بنك مركزي في أسبوع واحد) لمستويات منخفضة، والتي كان من المفترض أن تضخ سيولة مالية إضافية، وتجعل الاقتراض أرخص وتشجع الإنفاق، غير أن عدم صدور أخبار مؤكدة عن قرب التوصل للقاح يقضي على فيروس كورونا وتعميم حالات الحجر الصحي لغالبية الدول المصابة والموبوءة وتراجع الإنتاج فيها وخوف المواطنين جعل هذا الإجراء غير كاف وغير مجد، ويبدو أن جل البورصات العالمية ستبقى مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها تلك الأكثر سوءا. انتعاشه مالية مؤقتة بتكاليف تحفيزية باهظة ورغم انتعاشه أسواق الأسهم الأوروبية وسوق وول ستريت بقوة وتحقيق مكاسب تجاوزت 11٪، عند إغلاق يوم الثلاثاء 24 مارس -مباشرة بعد يوم واحد من خسائر غير مسبوقة- وذلك على خلفية لقاء الرئيس الأمريكي ونائبه مع كبار مستثمري سوق الأسهم الأمريكية لطمأنتهم والتعهد بمساعدتهم وعدم السماح بانهيار الشركات الأمريكية الكبرى، وكذلك بفضل نجاح مجلس الشيوخ الأمريكي في تمرير خطة البيت الأبيض لإنقاذ الاقتصاد بأكثر من تريليوني دولار، وذلك بإنشاء صندوق بقيمة خمس مئة مليار دولار لمساعدة الصناعات والولايات المتضررة بشدة من تداعيات فيروس كورونا. بالإضافة إلى إحداث صندوق بقيمة خمسين مليار دولار من الدعم لشركات الطيران، وتم تخصيص 367 مليار دولار لتأمين القروض للشركات الصغيرة، و150 مليار دولار للمستشفيات والقطاع الصحي، و250 مليار دولار لتوسيع نطاق التأمين ضد البطالة، مع الاستعداد لتوجيه دعم مالي مباشرة للأسر الأمريكية يُقدر ب 1200 دولار لكل راشد، و500 دولار لكل طفل وتأجيل الضرائب. وحسب المحللين الاقتصاديين وخبراء الأسواق المالية فإن هذا الرجوع السريع لن يكون إلا مرحليا ولن تدوم مكاسبه إلا أياما معدودة فقط، خصوصا بعد دخول منطقة الأورو في حالة طوارئ مالية ومرحلة الانكماش الاقتصادي. تباطؤ التصنيع الصيني وتراجع الإنتاج العالمي في الصين، ومباشرة بعد ظهور فيروس كرورنا لأول مرة، انخفض الإنتاج الصناعي وتراجعت المبيعات وتدنى الاستثمار في أول شهرين من هذه السنة، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2019. وقد انخفض النشاط الفعلي في الصين بمعدل قياسي في فبراير، وتراجع المؤشر الرسمي للنشاط الصناعي إلى 35.7٪ في فبراير مقابل 50 ٪ في يناير. وظهر التباطؤ الصناعي في الصين واضحًا من الفضاء، حيث قالت وكالة ناسا إن الأقمار الصناعية لرصد التلوث رصدت انخفاضا كبيرا في ثاني أكسيد النيتروجين فوق البلاد. ووفقا لموقع بلومبرغ كانت المصانع الصينية تعمل بنسبة 60 إلى 70 في المائة من طاقتها في نهاية فبراير، بينما تبلغ تقديرات بنك مورغان ستانلي، أن المصانع الصينية تعمل بما يتراوح بين 30 إلى 50 في المائة من طاقتها. ويدلُّ هذا المعدل إلى أن نمو الاقتصاد الصيني خلال النصف الأول من سنة 2020 سيعرف تراجعا لا محالة، حيث تراجعت الإيرادات المالية للحكومة الصينية بنسبة 9.9 ٪ في أول شهرين من 2020، وحسب وزارة المالية الصينية، فإن إجمالي الإيرادات حتى نهاية فبراير بلغ 496 مليار دولار، فيما تراجعت النفقات الحكومية بنسبة 2.9 ٪ ، إلى 456.3 مليار دولار حتى نهاية فبراير. وباعتبار أن الصين تشكل بمفردها ثلث الصناعة التحويلية على المستوى العالمي، وهي أكبر مصدر في العالم، فلقد أثر هذا التراجع على سلاسل التوريد للشركات الكبرى العالمية المصنعة للمعدات الصناعية وصانعي السيارات. وكشفت شركات دولية تعمل بنظام الدفع عن طريق بطاقات الائتمان، مثل أمريكان إكسبريس وفيزا وماستركارد، أن الأضرار التي سببها فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد العالمي، بلغ ما بين 28-29 تريليون دولار صناعة السياحة تهوي إلى أدنى مستوياتها يعد قطاع السياحة من القطاعات التي تأثرت بشكل مباشر بفيروس كورونا، وبسبب سرعة انتشاره وخروج الأمور عن السيطرة وتوقف الرحلات وإقفال حدود الدول فيما بينها وارتفاع حالات الحجر الصحي لكل دولة على حدة، توقف فعليا 70 ٪ من قطاع الضيافة حول العالم وانخفضت صناعة السياحة إلى أدنى مستوياتها التاريخية، وحسب معهد منتدى السياحة العالمي فإن الخسائر الاقتصادية التي مني بها قطاع السياحة العالمي لغاية الآن بلغ أزيد من 600 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل الخسائر إلى تريليون دولار هذا العام، وستطال التشغيل في هذا القطاع، ومن المحتمل فقدان 50 مليون وظيفة. وفي سياق متصل تم إغلاق العديد من المراكز التجارية الكبرى والمطاعم وغيرها من مراكز الأنشطة الاجتماعية وجزء لا يُستهان به من الفنادق. وأعرب خبراء صناعة السياحة في المملكة المتحدة عن مخاوفهم بشأن بقاء السياح الصينيين في منازلهم، حيث كانت هناك أزيد من 415000 زيارة من الصين إلى المملكة المتحدة في الأشهر ال 12 من2019. ووفقًا لموقع VisitBritain، فإن المسافرين الصينيين ينفقون ثلاث مرات أكثر من متوسط إنفاق السياح الذين يزورون بريطانيا تقريبا 1680 جنيهًا إسترلينيًا لكل سائح صيني. قطاع الطيران الدولي، المتضرر الأكبر بدورها باتت شركات الطيران حول العالم قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس بسبب وقف أكثر من 90 في المائة من حركة الطيران العالمية، ومن جانبها قدرت شركة التحليلات "ForwardKeys" أن ما يصل إلى 48200 رحلة مع 10.2 مليون مسافر ستلغى بسبب بالحظر. وتوقعت الرابطة الدولية للنقل الجوي "إياتا" أن تصل خسائر شركات الطيران حول العالم إلى 113 مليار دولار، كإحدى التبعات الأولى لتفشي فيروس كورونا. حيث تراجعت القدرة على العمل بالنسبة لجميع شركات الطيران بنسبة تصل إلى 80 في المائة، وفي مؤشر على الخسائر التي تتكبدها هذه الشركات، تراجعت أسهم مجموعة الخطوط الجوية الدولية بنسبة 24 في المائة في بورصة لندن، وكذلك بالنسبة لشركة "إيزيجيت" بنسبة 23 في المائة، "وراين إير" بنسبة 19 في المائة. وبالموازاة مع ذلك، فإن هناك ضغوطا مالية وتشغيلية كبيرة تتعرض لها شركات الطيران، ولا سيما أن هناك نحو 2.7 مليون شخص يعمل فيها. وكتأثير مباشر لهذه التداعيات، انخفضت أسهم شركة بوينغ بنسبة 44٪ الأسبوع الماضي، وقد يكون عملاق الطيران على وشك الانهيار، ولائحة الإفلاس والانهيارات طويلة، ومن المتوقع حدوث كوارث في هذين القطاعين إذا لم تتدخل الحكومات بشكل سريع لإنقاذهما ولتقديم الدعم اللازم لهما. الخطر القادم: تهديد الأمن الغذائي العالمي تسود حالة من القلق بسبب تهافت المواطنين -في حالة من الفزع الشديد- على شراء حاجياتهم الغذائية ومستلزماتهم المنزلية ومستحضرات التنظيف وورق الصحي، وما رافق ذلك من فيديوهات وصور لتدافع وتشاجر العديد من الناس على اقتناء السلع، وشيوع مشاهد لرفوف المتاجر العالمية وهي خالية من البضائع، ويزداد الهلع مع انتشار أخبار لتوجه بعض الحكومات لتقييد تدفق المواد الغذائية الأساسية الخاصة بها، لتضمن لشعوبها كفايتهم في وقت يخضع نحو خمس سكان العالم لحالة عزل صحي مع إقفال الحدود بين الدول وقيود على الحركة والتنقل. فيتنام كثالث أكبر مصدر للأرز أوقفت التصدير، والهند دخلت لتوها في حالة إغلاق ستستمر ثلاثة أسابيع وتايلاند قد تعلن إجراءات مماثلة. وفي روسيا دعا اتحاد منتجي الزيوت النباتية إلى تقييد بيع بذور دوار الشمس. وتباطأ إنتاج زيت النخيل في ماليزيا، ثاني أكبر منتج له. هذا الارتباك في سلاسل الإمداد العالمي وهذه التحركات الدولية وإن كانت معزولة وبحسن نية فإنها تمثل تهديدا حقيقيا خطيرا على الأمن الغذائي العالمي وعلى الاستقرار والسلم في الدول وعلى نفسية مواطنيها، وتفقد الثقة أكثر في التعاون الدولي وفي مقدرة الاقتصاد العالمي على التضامن والتآزر وعلى تحقيق التوزيع العادل للثروة العالمية، خصوصا وأنه الإنتاج العالمي المجمع من الأرز والقمح، سيسجل هذه السنة مستوى قياسياً عند 1.26 مليار طن، وذلك وفقا لبيانات وزارة الزراعة الأمريكية، وتأكد المعطيات أن هذا الإنتاج يمكنه بسهولة من تلبية احتياجات الاستهلاك العالمي من المحصولين مع تحقيق مخزون في نهاية سنة 2020 يُقدر ب 470 مليون طن. انخفاض أسعار النفط إلى أدنى مستوى منذ حرب الخليج 1991 واصلت أسعار خام برنت التراجع بالموازاة مع اتخاذ الدول المزيد من الإجراءات لاحتواء تفشي فيروس كورونا عالميا، وبتراجع كافة قطاعات النشاط الاقتصادي العالمي، فإن الطلب على النفط تراجع بشكل مهول وقد أعلنت وكالة الطاقة الدولية أن الطلب العالمي على النفط انكمش بنحو 90 ألف برميل يوميًا هذه السنة ولأول مرة منذ عام 2009. وقد انخفضت أسعار النفط منذ 4 أسابيع على التوالي، وتراجعت نحو 60% منذ بداية سنة 2020 لسببن اثنين: تراجع الطلب بسبب فيروس كورونا وتداعيات الحرب على أسعار النفط التي اندلعت منذ ما يزيد عن الشهر بين روسيا والسعودية المنتجتين الرئيسين للخام. وهذا التراجع التاريخي للنفط مُنذر بانكماش الاقتصادي العالمي. ربما سيكون انهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية خبر مفرح للغاية بالنسبة للمستهلكين، ولكنه ليس بالضرورة جيد بالنسبة للدول المصدرة له وللنشاط الصناعي والإنتاجي العالمي، وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن كل هبوط بعشرة بالمائة في أسعار النفط، سيقلص، في المتوسط، النمو لدى مصدري النفط بنسبة 0.6 بالمائة ويرفع العجز المالي الكلي بنسبة 0.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. آثار انتشار فيروس كرونا على النمو الاقتصادي العالمي حذرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) من خطورة تفشي فيروس كورونا والعجز الراهن عن مواجهته وتأثير ذلك على الاقتصاد الدولي، وتوقعت أن ينمو الاقتصاد العالمي بنسبة أقل من 2.4٪، وهو أدنى لمعدل النمو العالمي منذ سنة 2009، وأكدت على أن مواصلة تفشي هذا الوباء لفترة أطول وبكثافة أكبر يمكن أن يخفض النمو إلى 1.5٪ في سنة 2020. في المقابل وضع قسم العولمة والاستراتيجيات التنموية بالأونكتاد سيناريوهات لتباطؤ النمو العالمي بسبب جائحة كورونا، ووجد أن العجز سيكون بمقدار 2 تريليون دولار في الدخل العالمي، و220 مليار دولار في الدول النامية -باستثناء الصين- وتوقع أنه في أسوأ السيناريوهات سينمو الاقتصاد العالمي بنسبة 0.5%، بمعنى خسائر مالية تُقدر بنحو 2 تريليون دولار. وفي دول مثل كندا والمكسيك وأمريكا الوسطى، ودول مثل شرق وجنوب آسيا والاتحاد الأوروبي، فإنها سوف تشهد تباطؤا في النمو بين 0.7% و0.9%. كرورنا والرجوع إلى النموذج الكينزي للاقتصاد الجميع تابع وبالمباشر كيف رجعت غالبية الدول للقيام بدورها ووظيفتها في إدارة الاقتصاد والتعليم والصحة، بل وإدارة جل شؤون مؤسسات الدولة التي كانت في وقت جد قريب تتم بالتوافق مع توجيهات ومقترحات منظمات عالمية وشركات عملاقة ومؤسسات دولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. ففي رمشة عين اتجهت دول عديدة بما فيها الولايات المتحدةالأمريكية إلى التدخل المباشر لإدارة شؤون البلاد على كافة المستويات، سواء في ما يخص اتخاذ سياسات حمائية أو استعادة بعض الأدوار التي منحت سابقا للقطاع الخاص، مثل قطاع الصحة الذي واجه أزمة كبيرة مع انتشار وباء كرونا، والذي أثبت هذه الجائحة أنه لا يمكن مواجهته وفق منطق وأسلوب القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال، ولكن وفق رؤية وطنية مندمجة تضع حياة المواطن في رأس أولوياتها فوق كل الاعتبارات الاقتصادية والحسابات المالية. هذا السلوك هو نفسه الذي ينادي به أصحاب النموذج الكينزي للاقتصاد، والذي يقوم على تقوية دور الدولة في توجيه الاقتصاد الوطني، وتوظيف أدوات السياسة المالية لتحفيز النمو الاقتصادي، ويؤكد على عدم تخلي الدولة عن كل أدوارها لصالح السوق. وأعتقد أن توالي الأزمات المالية، وحالات الركود الاقتصادي الذي تقترب منه دول العالم حاليا يتطلب تدخلا متوازنا، من أجل الحد تداعيات الأزمات والآثار المدمرة للسوق الحر التنافسي خصوصا ونحن نعيش في ظل عولمة يتم فيها تشارك الإيجابي والسلبي. الاقتصاد ما بعد كورونا سيكون مغايرا لما قبله وبوادر ولادة نظام مالي جديد يزداد الخوف من تزايد مخاطر تفشي وباء فيروس، وما سببه من تعطيل لغالبية الاقتصادات العالمية وتوقيف الحياة اليومية، وإذا ما استمر هذا الوباء بالفصل الثاني من هذا العام فسيكون الاقتصاد العالمي تحت تهديد حقيقي ولن تكون هناك مساحة أخرى لإنقاذه، خصوصا وأن جُل الحكومات والأبناك المركزية اتخذت كل السياسات التيسيرية الممكنة واستخدمت جميع الأدوات المالية المتاحة ولم تعد هناك حلول تحفيزية جديدة، الأمر الذي يطرح أكثر من علامات استفهام حول نجاعة الأسس الاقتصادية الحالية ويستلزم ضرورة البحث عن بدائل ونظم اقتصادية جديدة قادرة على تجاوز إخفاقات وإكراهات الاقتصاد التقليدي. وقد صرَّحت منظمة الأممالمتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" بأن الاعتقاد في سلامة الأسس الاقتصادية والاقتصاد العالمي الذي يصحح نفسه، أمران يعرقلان التفكير السياسي في الاقتصادات المتقدمة، وأكدت أن هذا الاعتقاد سيؤدي إلى إعاقة التدخلات السياسية الأكثر جرأة، واللازمة لمنع تهديد أزمة أكثر خطورة، ويزيد من فرص أن تتسبب الصدمات المتكررة في أضرار اقتصادية خطيرة في المستقبل. هناك مؤشرات إضافية مقلقة ظهرت بسبب هذا "الفيروس الاقتصادي" ولا يسعنا المقال لتفصيلها، وأبرزها يتمثل في تراجع أدوار الملادات الآمنة للمستثمرين وعدم نجاعتها، خصوصا بعد بوادر انخفاض الذهب والسندات الحكومية والتي تُعتبر عادة أصول شبه خلية من المخاطر. وعليه، فإني أعتقد أن جائحة كرورنا أزاحت فقط الستار عن نقاط الضعف التي كانت موجودة في المنظومة الاقتصادية والمالية العالمية منذ أزمة عام 2008، وكشفت حدود النظام الرأسمالي الحالي والتي للأسف لم يتم علاجها لحد الآن. فلا تزال الأبناك لا تملك ما يكفي من رؤوس الأموال لتحمل صدمة شديدة، ولا يزال النظام المالي هشًا أكثر مما كان من أي وقت مضى، لا سيما بسبب المديونية العالمية المفرطة. والأزمة المالية ستكون أسوأ في ظل هذه الظروف إذا أدى انتشار الفيروس إلى تعطل انشاط لاقتصادي في وقت أطول وأدى الأمر إلى حالات تخلف متتالية في أداء الديون الداخلية والخارجية، فسوف تنفجر القنبلة لا محالة في وجه الأبناك ووجه المؤسسات الدولية. في نظري فإن هذا الانهيار التدريجي الحاصل للمنظومة الاقتصادية والمالية هي علامات لبداية تفكك القواعد المؤطرة والضابطة للنظام المالي الكلاسيكي وبوادر بروز قواعد جديدة لنظام مالي جديد، وبهذا سيكون الاقتصاد العالمي بعد جائحة كورونا مغايرا لما قبله. وحسب قول الاقتصادي جامس بوكانان، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد: «إذا أخفقت كل من الأسواق والحكومات في تحقيق العدالة والكفاءة معاً، فما هو البديل التنظيمي؟» وهذا هو السؤال الذي ينبغي على مفكري العالم -باختلاف تخصصاتهم- الاعتكاف والجواب عليه وإبداع تنظيم اقتصادي يقوم على مبدأ التضامن والتوازن الاجتماعي، اقتصاد عالمي يلتزم بالصالح العام الدولي وبالمسؤولية الاجتماعية، اقتصاد إنساني يحافظ على كرامة الإنسان وعلى حقوقه. توصيات مرحلية على السريع دون التطرق للإجراءات الصحية والوقائية، فهناك العديد من التدابير التي يجب على المنتظم الدولي وكل دولة اتخاذها، كل حسب تخصصه: إعطاء الأولوية للشق الاجتماعي وللدعم المالي المباشر للفقراء والأسر المهمشة في المناطق الجبلية والأماكن النائية؛ منح دعم مباشر ومواكبة لصيقة للمقاولات الصغيرة والمتوسطة والصغيرة جدا، باعتبارها الركيزة الأساسية للنشاط التجاري العالمي وتشغل أزيد من 80 في المائة من اليد العاملة في غالبية الدول الأكثر تضرراً؛ الحفاظ على مستوى أساسي -الحد الادنى- من النشاط الاقتصادي وتجنب الإشكالات التجارية الكبرى والمحافظة على سلاسل القيمة العالمية من أجل تحريك الاقتصاد العالمي واستعادة الثقة في الأسواق المالية؛ المحافظة على التدفقات الطبيعية للمحاصيل الزراعية من أماكن إنتاجها إلى أماكن استهلاكها مع الحرص على توفير مخزون معقول لكل دولة على حدة؛ اعتماد تدابير مستعجلة لدعم للعاملين الأكثر عرضة للخطر، كالمهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الذين يزاولون نشاطا خاصا أو في وظائف مؤقتة، والذين لا يمكنهم الاستفادة من إعانات فقدان الشغل أو التأمين الصحي؛ على صندوق النقد الدولي تجميد تسديد الديون بالنسبة للدول المتضررة كثيرا من آثار فيروس كورونا خصوصا دول القارة الإفريقية، والعمل على إعادة هيكلتها مستقبلا وذلك من أجل مساعدة هذه الدول على استعمال ما لديها من أموال لمكافحة هذه الجائحة؛ جعل التكنولوجيا في لب السياسات العمومية المحلية لكل دولة وربطها لزاما بمنظومة التربية والتكوين وبالبحث العلمي والتوازن في استخدامها في القطاعات الإنتاجية تفاديا لتفشي البطالة؛ تعزيز أدوار الاقتصاد الاجتماعي والتضامني والتنمية المحلية والانطلاق من المقومات المحلية لكل دولة وفي كل مدينة، وتمكين السكان المحليين من القسط الأكبر من عوائد سلاسل الإنتاج المحلية؛ الحرص على التعاون العالمي وتنسيق الجهود والسياسات الدولية من أجل نجاعة أكبر في احتواء الخسائر البشرية والاقتصادية المحتملة لفيروس كورون. خاتمة: عبرة كرورنا الأكيد أن فيروس كورونا ليس هو نهاية العالم، وهذه الأزمة عابرة بالتأكيد، وسيستعيد العالم والاقتصاد سلوكه العادي بعد حل الأزمة، إلا أن حلها ليس في يد رؤساء الدول والحكومات وليس في يد الاقتصاديين والمحللين المالين، ولكن في يد المختبرات الطبية وهو رهين بوعي الشعوب ومرتبط بمدى التضامن والتآزر بينها. واجب الوقت هو إعطاء الأولوية للإنسان (صحته وتعليمه) على حساب المال والاقتصاد، لأن الاقتصاد يمكن أن ويرجع للنمو ولكن لا يمكن للموتى الرجوع للحياة. كرورنا لم تختبر فقط كفاءة ونجاعة الاقتصاد العالمي، ولكنها امتحنت كذلك معدن المواطنين في كل بلد، واختبرت مصداقية منظومة القيم المجتمعية العالمية، وأبانت عن ضرورة خلق مجتمعات ترتبط فيها التنمية الاقتصادية مع متطلبات العدالة الاجتماعية وتوازن المصالح، ويُقدر معنى ودور منظومة القيم الاجتماعية والاقتصادية للشعوب. فهل سينجو العالم بشكل عادل من الآثار المدمرة لهذا الفيروس؟ وهل سينجح العالم في تجديد منظومة اقتصادية ومالية مغايرة لما قبل كرورنا؟