لعل المثل الدارج "لما تعطس أمريكا، يصاب العالم بالحمى"، لم يعد مقتصرا على أمريكا وحدها، فتداعيات فيروس كورونا المستجد، الذي ظهر لأول مرة في الصين، تعبر عن عكس ذلك. فمن كان يعتقد في أواخر شهر دجنبر من العام الماضي، عند ظهور أول حالة لفيروس كورونا في الصين، أن تأثيره سيتجاوز الحياة الاجتماعية والاقتصادية في مدينة ووهان إلى الأسواق المالية والعالمية. ففي الأيام الأولى، وفي غياب معلومات واضحة حول الفيروس وتأثيراته، لم يعبر المستثمرون عن أية ردود فعل مؤثرة على تداولاتهم اليومية. لكن بمجرد الإبلاغ عن الحالات الأولى للفيروس خارج الصين، وبالخصوص في كوريا الجنوبية، تراجعت البورصات الأسيوية وبدت كل المؤشرات حمراء في نهاية كل حصة تداول. وبعدها بأسابيع، تراجعت البورصات الأوروبية والأمريكية بشكل ملحوظ، حيث تهاوى كل من مؤشري الكاك 40 الفرنسي والداو جونز الأمريكي ب 4 بالمائة و3,6 بالمائة على التوالي، بعد التفشي السريع لفيروس كورونا في إيطاليا، التي أعلنت الحجر الصحي على عشر بلدات قرب مدينة ميلانو، وتأكيد وجود أكثر من 200 إصابة بفيروس كورونا إلى لحظة كتابة هذا المقال، بعد فقط أربعة أيام من ظهور أول حالة جديدة، ليصعد بإيطاليا نحو ثالث أكبر دولة من حيث عدد حالات الفيروس بعد كل من الصينوكوريا الجنوبية، في زمن قياسي. أي تأثير لفيروس كورونا على الاقتصاد العالمي؟ سنة 2003، وفي دراسة قام بها الباحثان جون-ها لي وفارويك ماكبين، قدرت خسائر الاقتصاد العالمي بعد تفشي فيروس المتلازمة التنفسية الحادة والوخيمة (المعروف اختصارا بسارس، وهو من فصيلة فيروس كورونا نفسها) في الصين بأكثر من 40 مليار دولار، علما أن انتشاره كان محدودا مقارنة بهذا الأخير، إضافة إلى أن الاقتصاد الصيني حينها لم يكن بقدر الانفتاح والتحرر الذي عليه الآن. فالصين حاليا تعتبر ثاني أكبر اقتصاد على الصعيد العالمي بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية بناتج داخلي خام يتراوح بين 12 و13 ترليون دولار، أي ما يعادل أربعة أضعاف الاقتصاد الفرنسي وثلاثة أضعاف الاقتصاد الألماني. إضافة إلى أنها أكبر مستورد للنفط في العالم، الشيء الذي أثر سلبا على أسعار النفط في بورصة المواد الأولية، حيث تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ أكثر من عام ونصف. وتعتبر الصين كذلك من أكبر مستوردي المعادن وأكبر سوق للسيارات، وتحتوي على أكثر من مليار ونصف مليار نسمة، مما يجعلها أكبر سوق استهلاكية على الصعيد العالمي. كل هذه الأشياء، تجعل تأثر الصين واقتصادها بسبب فيروس كورونا يعود سلبا كذلك على الاقتصادين الأوروبي والأمريكي، وكذا على الاقتصاد العالمي، نظرا إلى حجم المبادلات التجارية للصين مع باقي دول العالم التي تتجاوز حاجز 4,6 ترليون دولار. أما فيما يخص تداعيات فيروس كورونا على الاقتصاد العالمي، فمن المبكر الجزم بمدى تأثيره في ظل غياب أي دراسات علمية حول الموضوع. لكن على سبيل المقارنة، ففي بحث قام به الباحثون الاقتصاديون فيكتوريا فان ودين جاميسون ولورنس سامرس، نشر سنة 2017، ظهر أن الخسائر السنوية جراء انتشار وباء الأنفلونزا تبلغ 500 مليار دولار، أي ما يعادل 0,6 بالمائة من الناتج العالمي الخام، وذلك بالأخذ بعين الاعتبار الخسائر الاقتصادية وتكلفة معدل الوفيات المرتفع. أهمية معدل الوفيات؟ إلى جانب العامل الاقتصادي، يعتبر معدل الوفيات أحد أهم العوامل التي يعتمد عليها لقياس حجم تضرر الاقتصاد جراء انتشار وباء معين: "الشيء الذي أفزع الناس بعد انتشار فيروس سارس هو معدل الوفيات... ما جعلهم يتجنبون وسائل النقل العامة وعدم الذهاب إلى العمل والمطاعم والسينما والمحاضرات وغيرها من الأماكن العامة. تأثير الفيروس كان هائلا على الاقتصاد، ولكن تقريبا بطريقة غير مباشرة، بسبب التصرف الاحترازي من المواطنين"، يقول الاقتصادي روبرت كارنل. إلى حد اللحظة، مازال المتخصصون يرون أن معدل الوفيات جراء فيروس كورونا لا يدعو إلى التخوف، حيث لا يتجاوز 2 بالمائة. لكن سرعة وقدرة انتشاره يرفعان من تخوفات المراقبين والمستثمرين، وهو ما يؤثر سلبا على الأسواق المالية العالمية. وفي الأخير، يجب أن نتساءل حول دينامية الاقتصاد العالمي بعد فيروس كورونا؛ هل ستعود وتيرة النمو الطبيعية رغم أنها كانت متباطئة في السنتين الأخيرتين؟ وهل سيعود الاقتصاد الصيني أكثر قوة رغم كل النكبات التي يعيشها، بدءا بالحرب التجارية مع أمريكا وتباطؤ النمو وصولا إلى انتشار فيروس كورونا، كما كان عليه الأمر بعد فيروس سارس سنة 2003 لما فاقت نسبة نمو الاقتصاد الصيني 10 بالمائة ما بين 2003 و2007 (فترة ما قبل الأزمة المالية العالمية)، أم إن هذه الأزمات أضعفت وأنهكت اقتصادها وستحتاج إلى سنوات طويلة لتعويضها والقفز مجددا إلى مقدمة الدول الكبرى؟ *باحث في الاقتصاد المالي