نعم، فقدنا أسلوب حياتنا المغربية اليومية ونمط عيشنا المعتاد والمألوف، بجميع إيجابياته ورخاوته وأفراحه ونعومته للبعض منا ولكن أيضا بجميع سلبياته وقساوته وأتراحه وخشونته لآخرين، المهم روتين حابل بجميع تناقضاته المفرحة والمحزنة: روتين الاستيقاظ والخروج في هدوء أو على عجل للعمل، الذي كان منا من يقصده وهو فرح ونشيط، ومنا من كان يستثقل ذلك ولا يأتيه إلا خوفا من انقطاع أجرته... روتين ذهاب أبنائنا لمؤسساتهم التعليمية العامة والخاصة الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعية... روتين التجول في الطرقات في كل وقت وحين... روتين الخروج للتبضع في الأسواق الأسبوعية أو الممتازة أو في متاجر البيع بالجملة أو التقسيط... روتين الجلوس بل والمرابطة –بالنسبة للبعض- في المقاهي والمطاعم إلى أوقات متأخرة من الليل... روتين السفر والتنقل بين المدن المغربية لا نخاف إلا الله تعالى، وبعض "معترضي السبيل" هداهم الله تعالى، أو وقوع حوادث مميتة لا قدر الله... روتين السفر إلى الخارج من طرف البعض منا الذي كان يقوم به بسهولة بالغة بمجرد كبسة زر على حاسوبه أو هاتفه الذكي فيتلقى حجز الطائرة والفندق وكل الخدمات المصاحبة لذلك دون أدنى عناء... "روتين" الذهاب للمسجد للصلوات الخمس آناء الليل وأطراف النهار "روتين" صلاة الجمعة التي يهب إليها جميع المغاربة كبارا وصغارا نساء ورجالا شيبا وشبابا... روتين اللقاء بالأحبة والأصدقاء والجيران في الأفراح والأقراح... روتين عاداتنا في التحية والسلام من مصافحة باليد وعناق بالأحضان وقبلات على الخدود... التي نعبر بها عن صادق مشاعر المحبة أو الاحترام التي تربطنا بمن حولنا من الأقارب والأباعد... روتين متابعة المسابقات الرياضية وخاصة مباريات البطولة الوطنية –على علاتها- وما يصاحبها من أجواء حماسية لتفويات الوينرز والكرين بويز وحلالة بويز وكل إلترات الفرق الوطنية... روتين المتابعة الهستيرية لأجواء الكلاسيكو في المقاهي والبيوت بين الغريمين "البارصا" و"الريال"... روتين الندوات الثقافية –على قلتها وقلة جمهورها- وما يتبعها من نقاشات وتداعيات هنا وهناك.... نعم، روتين وروتين، وروتين... هكذا كنا نرى أشياء كثيرة في حياتنا اليومية، وعلاقات متنوعة في أحوالنا الاجتماعية، والتزامات وواجبات مهنية، وشؤون سياسية واقتصادية وتربوية ورياضية وثقافية... لكنها اليوم أصبحت "مفقودة" وحالت بيننا وبينها قوة قاهرة (وباء كورونا) أرغمتنا على أن نعيش حالة استثناء –بمفهومها الاجتماعي بطبيعة الحال وليس الدستوري- وألجأتنا إلى أن نعيش "روتينا مفروضا" قاسمه المشترك "حظر صحي عام"، و"منع للتجوال إلا برخصة رسمية ولغرض محدد" و"الاعتكاف"/ البقاء في البيوت وانتظار الفرج من الله تعالى وزوال الكربة وذهاب الغمة... وفي ظل هذا الروتين الجديد لابد أن نستحضر أننا كنا، ومازلنا، نذهل ونغفل كثيرا عن حالات الرخاء التي نعيشها، وفائض النعم التي نرفل فيها ونجحدها ونصفها بأنها "روتين قاتل" و"حياة مملة" و"واقع مرير"... وننسى أو نتجاهل أن واقع الحال ليس دائما أسوأ ولا أفضل مما يستقبل في المآل، ولذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك". إلا أن هذا الروتين "المفروض" جعلنا نقف على أمور مهمة في حياتنا المغربية، ربما كنا نُقَيّمها سلبيا أو ننتقص من قيمتها بقدر من الأقدار، ومن جملة تلك الأمور: أولا: أننا نعيش في دولة مؤسسات قوية تحت قيادة الملك محمد السادس، ويديرها بكفاءة واقتدار رجال مغاربة ونساء مغربيات كُثْر يعملون في الخفاء أو العلن، ويدبرون شؤون هذه البلاد في جميع القطاعات الحيوية والضرورية للعيش الكريم، والتي تحفظ للناس أمنهم في المدن والقرى وفي كل ربوع الوطن، وتُؤَمِّن أقوات الناس من المآكل والمشارب الضرورية وحتى من الحاجيات التكميلية، وتسهر على تأمين الرعاية الصحية والنفسية لجميع المواطنين، كل ذلك بانسيابية سلسة لا يشعر المواطن فيها "بأدنى صعوبة"، ولا يعرف مسارها ولا إجراءاتها المعقدة والمتشابكة... ثانيا: أن مدرستنا المغربية –على كثرة الملاحظات التي تسجل في حقها من كل الجهات – أثبتت وأكدت لجميع الأسر المغربية أنها –ومن خلال أطرها التربوية والإدارية- تقوم بعمل جبار في العمليات التعليمية والتعلّميّة لفائدة أبناء المغاربة في جميع المستويات الدراسية... وقد ظهر ذلك جليا من خلال "الصعوبات البيداغوجية" الجمّة التي صادفتها كثير من الأسر المغربية خلال هذه النازلة الوبائية مع أبنائها، مما جعل كثيرا من الأسر –خاصة على مستوى البوادي والأحياء الهامشية في المدن بل وحتى المتوسطة – تستسلم للأمر الواقع وتجعل أبناءها في "عطلة أو شبه عطلة مفتوحة" دون تحصيل دراسي يذكر، الشيء الذي يستدعي ضرورة التفكير مستقبلا في كيفية تطوير الأساليب البيداغوجية التي تلائم مثل هذه الظروف الطارئة... ثالثا: عودة شيء من المصداقية لإعلامنا العمومي، حيث أصبح المواطن المغربي يحرص على متابعة قنوات الإعلام العمومي السمعية والبصرية، باعتبارها مصدرا للمعلومة الحقيقية التي تطمئن هذا المواطن، والتي تتعلق بالحالة الوبائية لفيروس كوفيد 19 ببلادنا وما يصاحب ذلك من توضيحات طبية وتقنية وإدارية تهم جميع القطاعات الحيوية... رابعا: التضامن الواسع لتجاوز الظرفية الصعبة، إذ ظهر العطاء في زمن الوباء وتواترت التبرعات المادية السخية من طرف جميع المغاربة، ملكا وشعبا وحكومة ومؤسسات دستوية وبنكية وتجارية واستثمارية ومقاولات صناعية...، لفائدة صندوق مكافحة جائحة كورونا، كما توالت المبادرات المدنية والميدانية من طرف المواطنين والمواطنات إما كأفراد أو جمعيات وعلى شكل مساعدات شخصية أو جماعية أو إيوائية أو خدماتية... مما يدل أن مناعة النسيج المجتمعي المغربي –ولله الحمد- في عافية تامة، وأنه قادر على كسب الرهانات الصعبة والنوازل الطارئة التي قد تحل بنا حالا أو استقبالا –لا قدر الله-. والمهم في هذا كله، هو أنه بين كل روتين "مفقود" أو روتين "مفروض" تبرز الشخصية المغربية المتفردة في كينونتها الاجتماعية ونموذجها التضامني وكفاحها الحياتي العاشق والحريص على الأمن والسلام والكرامة وحب الحياة وكل القيم النبيلة التي تبني العمران وتحفظ الإنسان.