لا يجد الباحث ما هو كاف من النصوص حول الصحافة في تاريخ المغرب، فحصيلة الدراسات والأبحاث المغربية ذات الصلة، وبخاصة المتعلقة بالصحافة غير الورقية على عهد الحماية، هي في حكم النادر، وحتى وإن وجدت فهي حبيسة رفوف باستثناء ما أورده كل من "الطيب بوتبقالت" و"جامع بيضا"، مما يجعل من دراستهما القيمة مرجعاً أساسياً لفائدة البحث والباحثين في هذا المجال. في هذا الإطار وحول نشأة وإيقاع وذاكرة الصحافة المسموعة ومسار بث الإذاعة بمغرب الحماية في حدود ما توفر من مراجع وتوثيق، من المفيد الإشارة إلى أن التجارب تعود إلى فترة عشرينات القرن الماضي. بحيث رغم عدم إنهاء السلطات الفرنسية لِما أسمته بالتهدئة، كانت هناك محاولات أولى استهدفت توسيع عمل الإذاعة "la Radio Diffusion" وترسيخ أنشطتها وتثبيتها من خلال إحداث مركز لها تحت إشراف مكتب البريد والتلغراف آنذاك، الذي جمعت أول محاولة بث بالمغرب بين مديره في إطار عمل تنشيط وبين M. Dubeaulard في إطار مهمة محافظة. وقد حاول هذا الأخير منذ 1926 الاستفادة من فكرة وعرض أحد الفاعلين الإعلاميين بفرنسا "walter"، الذي كان يملك مركز بث إذاعي بباريس ويرغب في توسيع أعماله بإحداث آخر له بالمغرب. وكانت الرباط أول مدينة مغربية توفرت على "Audio Torium" ثم الدارالبيضاء فيما بعد لما بدأ العمل بهما بشكل رسمي ومنظم، إنما قبل تجربة المدينتين كان أحد الفرنسيين المهتمين بالمجال "Veyre" سباقا لبث إذاعي من داخل منزله بشارع "Moinier" بالدارالبيضاء خلال هذه الفترة من عشرينات القرن الماضي. ولم يكن مركز بثه الذي اختار له اسم "Omega" يتوفر على تجهيز تقني هام وكاف، فقط ما كان يسمح باستقبال وإعادة بث وإرسال ما كان يتم تقديمه من عروض عن مسرح المدينة البلدي خلال يونيو 1927، وخاصة روايات "Edmond Rostant" التي كانت تقدمها إحدى الجمعيات المسرحية. وللإشارة، فمركز "Omega" هذا كان يقوم ببث يومي ويقدم حفلات موسيقية لعدة مرات أسبوعياً، بحيث على إيقاع هذه المحاولات بدأ صوت الإذاعة يتحقق تدريجيا خلال هذه الفترة، لما كان المذياع سيد اختراعات العصر وأهمها تقنيا وعلميا وإعلاميا واجتماعيا مشكلاً نقلة نوعية عميقة في حياة الإنسان وتحولاته واهتماماته. وحول بداية عمل الإذاعة في مغرب الحماية وما ساعد "Veyre" لتحقيق أحلامه في هذا المجال، ما كان عليه من تتبع تقني لكل جديد، فضلاً عما كانت له من بحوث حول الاتصالات اللاسلكية التي توجت باكتشافه واختراعه لجهاز سماه "Emir" سمح بعمليتي بث وإرسال متزامنتين على "Antenne" في آن واحد. وبعد تحول صحافة عشرينات القرن الماضي بالمغرب زمن الحماية إلى مشاريع تجارية، بانتقالها إلى أيدي مقاولين معتمدة لغة عربية وموجهة أنشطتها لإفريقيا الشمالية، وعلى أساس ما أظهره راديو المغرب من دور في الدعاية كأداة صراع سياسي وإيديولوجي بين القوى الأوروبية وبين الفاشيين والجمهوريين، ترأس الجنرال نوكًيس في دجنبر1937 اجتماعاً لدراسة إمكانات تطوير راديو المغرب تقنياً تنفيذاً لتوجيهات الحكومة الفرنسية، موازاة مع برنامج عملي خاص بالدعاية عبر الراديو اعتماداً على العربية. وقد توصل هذا الأخير خلال الشهر نفسه بقرار رئاسي يهم تأسيس هيئة خاصة بالبث الإذاعي "Conseil Radio Diffusion"، التي ترأسها مدير المكتب الشريف للبريد الذي كلف بجمع كل ما يتعلق بتنظيم وتشغيل وتطوير برامج راديو المغرب، كما تم إحداث لجان خاصة بهذا البث الإذاعي بالعربية بكل من فاسوالدارالبيضاءومراكش تشتغل بتنسيق مع الهيئة المركزية. وفي 1938 تم تدشين إذاعة تونس التي كان أثيرها يصل المغرب، وأصبح البث الاذاعي يشمل الوسطين الحضري والقروي ويمس كل فئات المجتمع المغربي، من خلال ما كان يبث بصوت مرتفع في الأسواق والمعارض حول بعض برامج إذاعة المغرب بالعربية عبر حافلات إذاعية، وقد استعملت أول حافلة بث إذاعية مجهزة وباللغة العربية انطلاقاً من ساحة الوداية بالرباط في مارس 1939، بل كانت بعض هذه الحافلات تنتقل إلى أسواق قروية ومعارض فلاحية وغيرها لنقل أنشطتها. ومقابل ما سجل خلال هذه الفترة من إقبال على أجهزة المذياع بالمنطقة السلطانية، التي بلغ عددها حوالي أربعين ألف جهاز، ظهر في المنطقة الدولية من مغرب الحماية راديو طنجة الذي كان لفترة ببعض التأثير والضغط على السلطات الفرنسية. وقبل الحديث عن بعض حيثيات مسار راديو طنجة، من المفيد الإشارة إلى أن إدارة الحماية الفرنسية أحصت في أبريل 1938 حوالي خمسة وثلاثين ألف جهاز مذياع، بنسبة 83 بالمائة في ملك الأروبيين و12 بالمائة في ملك المغاربة و5 بالمائة في ملك اليهود المغاربة، موزعة على المجال المغربي كالتالي: 41 بالمائة بمنطقة الدارالبيضاء و18 بالمائة بمنطقة الرباط و5 بالمائة بمنطقة وجدة و9 بالمائة بمنطقة فاس و8 بالمائة بمنطقة مكناس و7 بالمائة بمنطقة مراكش و3 بالمائة بمنطقة القنيطرة، إضافة إلى حوالي خمسمائة مذياع في منطقة الجديدة، وحوالي تسعمائة في منطقة آسفي، وحوالي سبعمائة في منطقة تازة، وحوالي مائة في منطقة تافيلالت، ثم ثمانين مذياعاً في منطقة الأطلس المتوسط. ويتعلق الأمر هنا بما هو مرخص ومصرح به فقط علماً أن بيع أجهزة المذياع للمغاربة كان تحت رقابة وتتبع سلطات الحماية، وما كان عليه المذياع من إقبال خلال هذه الفترة يؤكد ما كان عليه مجال الإذاعة والاتصال من تطور. وما كان عليه جهاز المذياع من إقبال وبشكل متزايد لدى المغاربة، جعلهم أكثر انفتاحاً على الدعاية الموجهة عبر الاتصال اللاسلكي، مع أهمية الإشارة إلى أن البرامج الموجهة باللغة العربية عبر راديو المغرب كانت تعرف تزايداً في شهر رمضان. وحول طنجة على عهد الحماية وما كان يؤطرها من التزامات في إطار "بروتوكول طنجة"، من خلال هيئة تشريعية دولية كانت تسهر على تنفيذ الأحكام والقوانين مع تبعية كل البلاد لحكم السلطان المغربي، وحول حيثيات نشأة بث إذاعي بها وتأسيس راديو طنجة من خلال تقرير عن محكمة المدينة المنبثقة عن الاتفاقات الدولية الخاصة بوضع المدينة، ورد أن أول محطة للبث بهذه المدينة أنشئت عام 1936 من قِبل يهودي مغربي "بن دريهيم"، مع أهمية الإشارة إلى ما كان ليهود المغرب المحميين من دور هام في تحرير صحف طنجة أواخر القرن التاسع عشر، وهو ما أكسبهم تجربة هامة مستفيدين من ممارستهم ومعرفتهم بأوضاع البلاد وإلمامهم بلغات أجنبية كانت معتمدة في تحرير جرائد طنجة كالإسبانية والأنجليزية والفرنسية. وكان البث الإذاعي من خلال تجربة "بندريهم" بطنجة محدوداً جداً لا يتجاوز المائتي متر بقوة دفع مائتي وات فقط، عبر بث يومي من الواحدة والنصف زوالاً إلى الثالثة بعد الظهر، ومن الثامنة والنصف مساء إلى غاية العاشرة ليلا، علماً أن "بندريهم" الذي كان وكيلاً لبيع أجهزة المذياع بطنجة، وربما من هنا تبلورت لديه فكرة إنشاء محطة إذاعية، كان حذراً حول قدرته على تحقيق مشروع محطة بث إذاعي ضمن القوانين المنظمة لوضع طنجة الدولي، ومدركاً أن محطة إذاعية أمر بحاجة إلى ترخيص من السلطات المحلية التي ردت على طلب له في يوليوز 1936 بأنه رفع إلى المجلس التشريعي الدولي للنظر فيه بعد دراسته من قِبل مصلحة الشؤون القضائية، مع التأكيد له أن إنشاء محطة بث إذاعي لا سلكي أمر ممنوع في مجال طنجة. ورغم أن "بن دريهم" رفض رد إدارة طنجة هذا على أساس أنه غير مبرر من خلال رسالة له في 28 شتنبر 1937، فإحساساً منه بأن احتجاجه غير مفيد دفعه إلى بيع محطته بعد بضعة شهور من اشتغالها إلى "وولف" عبر ممثله "ميشيل سون"، الذي حاول بدوره الحصول على إذن إنما بدون جدوى بعدما تم إبلاغه بأن إنشاء محطة بث إذاعي أمر غير ممكن في غياب نص قانوني يجب التصويت عليه في مجلس طنجة التشريعي الدولي، وهو ما دفعه إلى إبلاغ سلطات المدينة في 20 نونبر 1938 بأنه سمح لشركة بلجيكية تسمى"proradio " بمشروعه بعدما باع لها حصته في راديو طنجة، وكان "ميشيل سون" هذا رجل أعمال يهودي روماني مقيم بباريس. وقد أثارت هذه المجموعة البلجيكية التي كانت تروم تحقيق محطة بث بقوة أكبر عناية شخصيات سياسية فرنسية حول الموضوع، مما وسع من شبكة البث الإذاعي واستدعى سيطرة واحتكار المكتب الشريف للبريد الذي اتسع ليشمل مجال طنجة وينخرط في البث الإذاعي. وقد اعترضت الحكومة الفرنسية على إنشاء محطة إذاعية خاصة بطنجة لِما كانت تراه فيها من تهديد لاتساع مجال راديو المغرب آنذاك، وعليه تم قطع التيار الكهربائي عن محطة البث الإذاعي بطنجة منذ شتنبر 1938، وتم إلزام المالك للهاتف أيضاً بوقف وإنهاء العقدة معها. وبعد عدة مفاوضات، نجح مدير مجال طنجة في قراراته رغم كل عراقيل الوكالات الدولية، التي انتهت بتصويت المجلس الدولي لطنجة في 14 نونبر من السنة نفسها على قانون يمنع كل استغلال لبث إذاعي في مجال المدينة. وبمجرد المصادقة عليه من قِبل لجنة المراقبة، وضعت الإدارة يدها على بناية راديو طنجة، ما يعني نجاح فرنسا في مخططها تجاه الموضوع، وبالتالي إقدامها على إعادة تنظيم مراكز اتصالاتها اللاسلكية في كل من الجزائروتونسوالرباط، لاعتمادها في إطار أساليب التعبير المناسبة لسياستها العامة، بحيث لم يكن مفيداً ولا مقبولا لدى الحكومة الفرنسية وجود محطة بث إذاعي في طنجة خارج مراقبتها، تماشياً مع اتفاقية باريس الفرنسية الإسبانية حول وضع طنجة الدولي، التي تضمنت في فصلها العاشر منع أي حركة إصلاحية أو احتجاجية ومنع أي دعاية ضد منطقة الحماية بالمغرب، مع أهمية الإشارة في هذا السياق إلى أن وضع طنجة الدولي منذ 1923 جعلها بتشريع خاص بالصحافة يأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع الدول الممثلة في مجلس المدينة الإداري الدولي. وحول رغبة فرنسا في إحكام قبضتها على صحافة طنجة، أعد "P.le fur" الفرنسي الذي كان مسؤولاً أولاً على مجال طنجة الدولية عام 1926، مشروع نظام خاص بجرائم وجنح العمل الصحفي وباقي أساليب النشر، وهو ما قوبل بردود فعل جعلته بدون إجراء ولا تأثير. لكن شركة راديو طنجة رفعت دعوى قضائية بالمحكمة المشتركة للمدينة على أساس عدم تناسب وموافقة قانون 14 نونبر 1938، وعليه تم وضع حد لمبررات فرنسا وإلحاقها في احتكار الإذاعة بمنطقة ذات وضع دولي بعد الإعلان عن عدم قانونية هذا القانون، وبالتالي تبرئة مستغلي محطة البث بطنجة من التهم الموجهة لهم، وكذا بطلان وضع اليد على تجهيزاتها والدعوة إلى رفع كل شيء عن الموضوع من طرف الأمن المحلي في 16 دجنبر 1938، مع جعل جميع التكاليف في ذمة خزينة مجال طنجة. وكرد فعل على قرار محكمة طنجة، قام رئيس مجموعة ماس بباريس "مرسيل لوكان" بتوجيه رسائل إلى مختلف جمعيات الصحافة لرفض إنشاء محطة راديو طنجة التي استأنفت بثها مباشرة بعد قرار حكم 10 مارس 1939، وقد تكلف هذا الأخير بعد قبول دعوته من طرف جمعية صحافة شمال إفريقيا بإبلاغ احتجاجه إلى رئيس مجلس طنجة. وفي بداية يوليوز من السنة نفسها، تم إحداث شركة برؤوس أموال فرنسية فقط، سميت ب"هيئة الدراسات لإنشاء محطات البث الإذاعي"، تشكلت من شركة مجهولة الاسم هي "librairie hachette" والشركة العامة للاتصالات اللاسلكية. وكانت هذه الشركة تحث إشراف سلطات الحماية الفرنسية من أجل استغلال محطة راديو طنجة، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حوّل طنجة إلى مسرح لعدة محطات بث منذ نهاية 1940. وفي شتنبر من السنة نفسها وجه البلجيكي "وولف"، وهو مساهم سابق في راديو طنجة، رسالة إلى جورج بوني، وزير الشؤون الخارجية الفرنسية، أورد فيها أن الظروف لا تسمح بالحديث عن إذاعة طنجة، لكنها ظروف مخيفة يريد أن يضع فيها نفسه رهن إشارة فرنسا للدفاع عن الديمقراطية والحرية التي تعد فرنساوإنجلترا حاميتين وفيتين لهما. وفي هذا السياق من التطورات السياسية والعسكرية، ولتلافي نقص الربط الحاصل عبر الحبال السلكية مع جبل طارق، أحدثت إنجلترا مركز اتصالات لا سلكية في طنجة لم تعترض عليه فرنسا، ولم يكن عليه أي نقاش ولا تعارض قضائي. وكان مجال طنجة الدولي خلال هذه الفترة الحرجة من تاريخ العالم تتقاسمه محطات إذاعية عدة بأهداف متداخلة توقفت مع استقلال المغرب، باستثناء إذاعة طنجة أو راديو طنجة الدولي الذي أنشأه المؤرخ الأمريكي والصحافي في "واشنطن بوست" هربرت روتليدج ساوثوورث عام 1946، بمعدات أجهزة استقبال اقتناها من الجيش الأمريكي الذي استعملها خلال الحرب العالمية الثانية، وكان هذا الأخير ناطقاً بلغات عدة منها العربية فضلا عن حبه للحرية ودفاعه عنها. وقد تعمق موقع هذه المحطة الإذاعية مع المغاربة على إثر زيارة سلطان البلاد التاريخية إلى طنجة عام 1947، من خلال ما كانت عليه من حماس في مواكبتها للحدث وبثها للخطاب الملكي على أمواجها. بل كانت إذاعة طنجة بأدوار وطنية كبرى في التعبئة والتنديد بعزل السلطان محمد الخامس 1953، الذي بعد عودته من منفاه رحمه الله زار مقرها في شتنبر 1957 اعترافاً بما كانت عليه من حس وطني ودور في ملحمة الاستقلال. وعليه، كان الإبقاء عليها وتأميمها سنة 1960 لتطبعها رمزية خاصة جعلتها بنوع من الاستثناء، بحيث كانت بايقاع وتفاعل أكثر حرية عبر ما انفتحت عليه منذ ستينات القرن الماضي من برامج وقضايا مجتمع عميقة مغمورة ومسكوت عنها أيضاً، ما جعلها بوقع وموقع وهيبة خاصة وجاذبية وتفرد وسلطة تجاه مستمعيها وطنياً، مغاربياً وعربياً، مفعمة بعمق تاريخي رمزي، مستحقةً إجلالاً وإكباراً لِما كانت عليه من أداء وتنوع وتفرد عطاء. ولعل إذاعة طنجة بتاريخها الوطني وغنى ورمزية ذاكرتها دعوة إلى ما ينبغي من إلتفاتٍ لإذاعات البلاد الجهوية، قديمها وحديثها، ومن إنصاتٍ إلى حاجياتها للقيام بما هو منوط بها من أدوار، حفاظاً على مسارها وسيرها ورسالتها الإعلامية من جهة، وتناغماً مع رهان القرب وما هو منشود من جهوية وتنافس ترابي واشعاع وخصوصية محلية من جهة ثانية. *عضو مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث