ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. كان الحسن الثاني أول من أثار الانتباه بين قادة العالم العربي إلى أهمية وخطورة «ترانزيستور» ذلك الجهاز الراديوفوني صغير الحجم الذي غزى جميع المجتمعات في العالم كله عندما ظهر للوجود، حتى أنه قال في أحد تصريحاته «لا أخطر من الصواريخ والصواريخ العابرة للقارات سوى ترانزيستور» وقال في مناسبة أخرى خلال ندوة صحافية في قصر فرساي باريز عام 1992 «إن المذياع ذي الحجم الصغير هو في حد ذاته وسيلة لشطب الحدود لأنه يتوفر أيضا على صواريخ موجهة» وبهذه المقولة أكد الحسن الثاني أهمية وخطورة دور الإذاعة وقدرة هذا الجهاز على اختراق الآفاق وانتشاره بين الكبار والصغار. فقد أصبح هذا الجهاز وما يزال رفيق الإنسان في كل تنقلاته يمده بالأخبار وتطورات الأحداث المحلية والدولية ويمتعه في الوقت ذاته بأعذب الألحان الموسيقية. ومن هذا المنطلق أكد الحسن الثاني أن «الأبواب مفتوحة لكل الوسائل السمعية البصرية في المغرب»، وأنه «لم يضبط أجهزة الراديو في المغرب على قناة واحدة وموجة واحدة». كانت ميول الملك الحسن الثاني نحو الإذاعة معروفة لدى الأوساط المهنية ولدى العاملين في محيط القصر الملكي، لقد كان شغوفا بالإذاعة بحيث لم يكن جهاز الراديو بعيدا عن مجالسه. اكتشفنا مرة أن الحسن الثاني كان مواظبا على الاستماع إلى برنامج موسيقي باللغة الفرنسية تبثه الإذاعة المغربية يوميا ضمن برامجها على القناة الدولية وكان البرنامج مهتما بالأغاني التي تعود إلى فترة الستينات، يعده ويقدمه المنشط الإذاعي المقتدر المكي بريطل. لقد فوجئنا في يوم من الأيام بالملك يتصل مباشرة تلفونيا بمنتج البرنامج ويدعوه لمقابلته في القصر، وعندما عاد المنشط الإذاعي بريطل إلى الإذاعة بعد اللقاء الملكي كان محملا بمجموعة من الأسطوانات القديمة سلمها له الحسن الثاني على سبيل الإعارة للاستفادة منها في برنامجه الإذاعي. وقد أبدى الملك إعجابه بالبرنامج وبالأغاني التي يشتمل عليها (ولعلها تذكره بمرحلة من شبابه) وشجعه على المثابرة بأن وضع تحت تصرفه مجموعة الأسطوانات التي كان يملكها والتي تتماشى مع الأغاني التي يهتم بها البرنامج على أساس أن يعيدها إليه بعد الاستفادة منها. لم يكن الحسن الثاني يتردد في الاتصال مباشرة بالإذاعة، لا لتوقيف برنامج كما تروج ذلك بعض الأقلام وإنما لإبداء ملاحظات أو تشجيع منتج (كما رأينا ما فعله مع المنشط الإذاعي المكي بريطل) أو التكليف مهمة محددة. وقد بلغ اهتمامه بالإذاعة حد القول في أحد الاجتماعات الوزارية، عندما طرح ملف يهم الإذاعة: «الإذاعة ديالي وعليكم أن تتركوا لي هذا الملف لأعالجه بنفسي». ومن ناحية أخرى ظلت الإذاعة المغربية طيلة عدة سنوات في عهد الحسن الثاني تذيع أخبار الأنشطة الملكية التي توافيها بها وزارة التشريفات الملكية مباشرة أو بواسطة وزارة الإعلام، ودأبت هذه المصادر الرسمية على أن تبدأ دائما الخبر بكلمة: تفضل صاحب الجلالة... فاستقبل أو ترأس وغير ذلك من أنواع الأنشطة الملكية، ولم يكن في وسع الإذاعة أن تغير هذه الصيغة الواردة في الخبر، وفي يوم من أواخر أيام السبعينيات اتصلت التشريفات الملكية بالمدير العام للإذاعة وطلبت منه التخلي من الآن فصاعدا عن ذكر عبارة: «تفضل ... وقال الناطق باسم التشريفات إن جلالة الملك يقول لكم بأنه لا يريد من الآن فصاعدا أن يسمع هذه العبارة ترددها الإذاعة والتلفزة». وفعلا تخلت الإذاعة منذ ذلك اليوم عن استعمال العبارة المذكورة إلى أن جاءت وزارة الداخلية وسيطرت على الإذاعة والتلفزة حيث عادت تلك العبارة إلى الاستعمال دون الانتباه إلى التعليمات الملكية. تأسيس إذاعة البحر الأبيض المتوسط وآثارها على الإذاعة الوطنية لقد شجع الملك الحسن الثاني فكرة تأسيس إذاعة البحر الأبيض المتوسط المعروفة اختصارا ب «ميدي آن» في مدينة طنجة بشراكة مغربية فرنسية وذلك انطلاقا من الأهمية التي يوليها للإذاعة ورغبته في فتح آفاق جديدة للعمل الإذاعي المتطور في المغرب. وكان اهتمامه قويا بميلاد هذه الإذاعة التي كان مواظبا على الاستماع إليها حتى وهو خارج المغرب، وعندما طرحت الفكرة لإبداء الرأي على مستوى وزارة الإعلام بخصوص هذا المشروع ظهر تردد وتحفظ من قبل بعض المسؤولين ولم تنطلق مرحلة التأسيس إلا عند وصول وزير إعلام جديد خاصة وأن القرار النهائي سبق وأن اتخذ على مستوى أعلى حيث لم يكن رأي وزارة الإعلام إلا شكليا. برزت هذه الإذاعة ( مدللة ) لدى الجهات العليا في البلاد، فقد أغدقت عليها المنافع ووفرت لها التسهيلات من كل نوع لتستقر وتشتغل في ظروف حسنة. وفي هذا الإطار وضعت رهن إشارتها في بداية عهدها أجهزة البث المملوكة للإذاعة الوطنية الموجودة في بني مكادة (طنجة) مما قلل من فعالية الاستماع إلى الإذاعة المغربية في المنطقة الشمالية مادامت محرومة من هذه الأجهزة الدافعة. وبعد مرور عدة سنوات كانت الطامة الكبرى حين استحوذت إذاعة البحر الأبيض المتوسط على جهازين قويين على الأمواج القصيرة شيدتهما الإذاعة المغربية من ميزانيتها في الناظور لتوجيه برامجها نحو إفريقيا والمشرق العربي، وللحقيقة أقول بأن السلطات المغربية هي التي سلمت الجهازين بعد أن ظلا مدة لا يشتغلان لعدم توفر تجهيز إضافي بسيط يمكن من الربط بين الإذاعة المركزية في الرباط بجهازي الأمواج القصيرة. لقد بذلت الإدارة التقنية في الإذاعة المغربية جهودها لتنبيه المسؤولين إلى ضرورة الحصول على الاعتمادات المالية الضرورية لإتمام المشروع، ولكنها لم تجد آذانا صاغية لمطالبها، وأخيرا أقدمت وزارة الإعلام في عهد الدكتور عبد اللطيف الفيلالي على تسليم الجهازين لمحطة ميدي آن بدون أي مقابل، هذا بالإضافة إلى أن إنشاء إذاعة البحر الأبيض المتوسط في حد ذاته كان خرقا للقانون المغربي المعمول به إذ ذاك والمتمثل في ظهير 1959 القاضي باحتكار الدولة للبث الإذاعي والذي تم بمقتضاه توقف الإذاعات الخاصة التي كانت موجودة في طنجة وتطوان في عهد الحماية وبداية عهد الاستقلال. ولم يكن (لميدي آن) وحتى للقناة الثانية (2M) الحق في الإرسال مادام ذلك الظهير لم يقع تغييره أو إلغاؤه كما تم شرح ذلك عند حديثنا عن الإذاعة في عهد الدكتور المهدي المنجرة، ومعلوم أن قانون رفع احتكار الدولة لإذاعة والتلفزة لم يصدر إلا عام 2002. وأقول بصراحة إن هذه ليست المرة الأولى التي تصطدم فيها الإذاعة المغربية بمثل هذه العراقيل المادية التي تثيرها السلطة الحكومية المختصة أثناء دراسة المشاريع التقنية الكبرى مثل بناء المحطات الجهوية ومراكز الإرسال. كانت المصالح التابعة لوزارة المالية بمواقفها المتصلبة تدفع بالإذاعة المغربية في كثير من الأحيان إلى «مسخ» المشروع الأصلي بالتنقيص من حجمه لأنها ترفض منح الاعتمادات المطلوبة كاملة، وتكون النتيجة إقامة المشروع ناقصا، ومن هنا تبدأ المشاكل التي ظلت الإذاعة تعاني منها لمدة طويلة، وقصة جهازي الإرسال اللذين سلما لإذاعة (ميدي آن) أصدق مثال على ذلك. عندما بدأت إذاعة البحر الأبيض المتوسط تبث برامجها، لقيت قبولا حسنا من المستمعين في المغرب بل وفي منطقة المغرب العربي كاملة. وما كان لهذه الظاهرة الإعلامية الجديدة أن تمر مر الكرام بالنسبة لمختلف الفئات العاملة في الإذاعة المغربية وخاصة منهم العاملين في قطاع الأخبار. كان شعورنا أننا لسنا أقل كفاءة ومهنية من (ميدي آن) لتقديم نشرة خبرية متطورة، فقد كانت الإذاعة تتوفر على كفاءات مهنية مقتدرة وأصحاب أفكار مهنية رائدة برهنت عنها في عدة مناسبات، ولكن عدم توفر الإمكانيات من جهة وعدم توفر الرغبة السياسية في التغيير من جهة أخرى جعلت الإذاعة تستمر في نهجها التقليدي. أردنا في يوم من الأيام في قسم الأخبار رفع التحدي والتأكيد عمليا على قدرتنا على تطوير نشراتنا الإخبارية. فكان الاتفاق على موعد الشروع في تطبيق النهج الجديد انطلاقا من النشرة الزوالية لذلك اليوم.