ارتبط ظهور الراديو في المغرب، خلال بداية القرن العشرين، بالحركة الاستعمارية الفرنسية في منطقة شمال إفريقيا بشكل عام، كما أن ظهوره في هذه المنطقة من العالم كانت له علاقة بالصراعات بين القوى الاستعمارية، حيث شكل الراديو في تلك الفترة وسيلة من وسائل التحريض والدعاية، والسيطرة على عقول وقلوب الشعوب المستعمرة، من أجل ضمان وقوفها إلى جانب فرنسا. ظهر الراديو في نهاية القرن التاسع عشر بمثابة زلزال على مستوى طرق الاتصالات التي كانت مستعملة في تلك المرحلة، حيث شكل نقلة نوعية في التقارب بين الدول من جهة وبينها وبين الشعوب من جهة ثانية، قبل أن يصبح فيما بعد وسيلة للتواصل بين الشعوب، مع التطور الذي خضعت له الإذاعة فيما بعد والتقدم في تقنيات الاتصالات. ذلك أن الراديو كان في بدايته وسيلة عسكرية للتواصل، ولم يصبح وسيلة مدنية إلا في وقت لاحق، غير أن انتقاله إلى المجال المدني تم من باب الاهتمام العسكري، ولذلك ليس من المستغرب أن تكون انطلاقة الراديو في أوروبا والبلدان المستعمرة قد حصلت في الحرب العالمية الأولى، ثم تطورت مع الحرب العالمية الثانية بين بلدان المحور والحلفاء. حتى نهاية القرن التاسع عشر لم تكن هناك سوى وسيلتين للتواصل السريع بين المناطق البعيدة، هما البرق والهاتف، إضافة إلى الصحف المكتوبة التي كانت بطيئة الحركة بسبب بطء الانتقال بين منطقة وأخرى والمسافة الزمنية التي يأخذها ذلك الانتقال. لكن كليهما، البرق والهاتف، كان يتطلب أسلاكا لحمل الإشارات بين المناطق المختلفة. ولكن الإشارات التي تحملها موجات الراديو تنتقل خلال الهواء، مما مكن المجتمعات البشرية من الاتصال بسرعة بين أي نقطتين على الأرض أو البحر أو الجو وحتى في الفضاء الخارجي، في المراحل اللاحقة. أدى البث الإذاعي الذي بدأ بشكل واسع خلال عشرينيات القرن العشرين الميلادي إلى تحولات رئيسية في الحياة اليومية للناس، ومثلت تنوعا كبيرا في طرق التسلية داخل المنزل، ومكن الناس ولأول مرة من الاطلاع على تطور الأحداث أثناء حدوثها أو بعد حدوثها مباشرة. وفي بدايات القرن العشرين طور المهندسون الكهربائيون أنواعا مختلفة من الصمامات - الصمامات المفرغة - التي استعملت في كشف وتضخيم إشارات الراديو. فقد حصل الأمريكي لي دي فورست، عام 1907، على براءة اختراع صمام أسماه «الثلاثي» ، يستطيع تضخيم إشارات الراديو، أصبح فيما بعد العنصر الأساسي في مستقبل المذياع. وهناك الكثير من الادعاءات بشأن أول بث إذاعي لصوت بشري عبر الهواء. ولكن أغلب المؤرخين يرجعون الفضل للفيزيائي الكندي المولد ريجينالد فسندن. ففي عام 1906 تحدث ريجينالد بواسطة موجات الراديو من «بران تروك» في ماساشوسيتس في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى سفن مبحرة في المحيط الأطلسي. وقد ساهم المخترع الأمريكي إدوين أرمسترونج كثيرا في تطوير مستقبلات الراديو، ففي عام 1918م طور الدائرة المغايرة الفوقية من أجل تحسين الاستقبال في المذياع. وأخيرا طور أرمسترونج عام 1933م البث الإذاعي بتضمين التردد. كان الاستخدام العملي الأول للاتصال للاسلكي – هو الاسم الذي أطلق على البرق الراديوي في بادئ الأمر – هو الاتصال بين سفينة وأخرى أو السفينة والشاطئ، مما أسهم في إنقاذ الآلاف من ضحايا كوارث البحر في ذلك الوقت. وقد حدث أول إنقاذ بحري عن طريق استخدام موجات الراديو في عام 1909م، عندما اصطدمت السفينة «س.س. ريبوبليك» بسفينة أخرى في المحيط الأطلسي، حيث أرسلت «س.س. رببليك» نداء استغاثة بالراديو للمساعدة في إنقاذ ركابها، وأسهم ذلك في نجاة معظمهم. كما أسهم الراديو أيضا في إنقاذ بعض ركاب الباخرة الشهيرة تيتانيك عام 1912. وابتداء من ثلاثينيات القرن العشرين استخدمت موجات الراديو على نطاق واسع، في التطبيقات التي تستدعي الاتصال بشكل سريع مثل استعماله من قبل الطيارين وقوات الشرطة والجيش. الراديو والمغاربة بدأت المحطات الإذاعية الخاصة الاستقرار بالمغرب في بداية القرن الماضي، خاصة في مدينة طنجة التي كانت تتمتع بوضع دولي خاص ومركز تجاري عالمي، بحيث كانت هذه المحطات الإذاعية تضمن الانتشار من جهة، والاستفادة من الإشهارات التجارية من جهة ثانية. وكانت هذه المحطات الإذاعية الخاصة تابعة لكل من فرنسا وإسبانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية. ففي سنة 1904 وقعت كل من فرنسا وإسبانيا اتفاقية سرية تحدد بوضوح مناطق التأثير لكلا البلدين، مع استثناء مدينة طنجة الدولية من هذه الاتفاقية بسبب وضعها الخاص الذي يمنحها إياه حضور البعثات الديبلوماسية والقنصلية الأوروبية والغربية، والمؤسسات الصحية والإدارية. وقد عرف المغرب البث الإذاعي رسميا في سنة 1928 تحديدا، خلال الاحتلال الفرنسي، وذلك مباشرة بعد ظهوره في الولاياتالمتحدةالأمريكية كوسيلة حديثة للاتصال. وقد عرف «راديو المغرب» إبان ظهوره نجاحا منقطع النظير وسط المغاربة، الأمر الذي جعل فرنسا تفكر في تحويله إلى أداة قوية في صراعها مع المقاومة، من أجل جلب اهتمام المغاربة بدورها التمديني الذي تقوم به في البلاد. خلال تلك الفترة كانت المحطات الإذاعية الفرنسية تبث برامج باللغة العربية من الرباطوالجزائر العاصمة و»راديو كولونيال» وراديو«باري» التابع لإيطاليا. فقد كانت فرنسا في الفترة ما بين 1922 و1930 تهيمن على عدد من المستعمرات، خاصة في القارة الإفريقية، وكانت تنظر إلى البث الإذاعي بوصفه وسيلة لتثبيت هيمنتها ونشر الأخبار السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية التي تهم سياستها الاستعمارية. وفي نوفمبر من سنة 1929 عقد بباريس الملتقى الوطني للبث الإذاعي، تقرر خلاله تعيين «لجنة المستعمرات والملاحة التجارية»، من أجل إقامة محطات جديدة أخرى في المستعمرات التابعة لفرنسا، من أجل التغطية الشاملة لمناطق العالم من ناحية الأخبار المتعلقة بفرنسا وسياستها الدولية بشكل عام، بحيث تكون تلك المحطات الإذاعية الجديدة تحت نفوذ وزارة الخارجية الفرنسية، وبتنسيق مع ممثلي فرنسا في كل منطقة خاضعة للاحتلال الفرنسي. في سنة 1934 أصبح البث الإذاعي يلتقط تقريبا في جميع أنحاء المغرب، وقد كتب القنصل الفرنسي في مدينة تطوان في تلك الفترة يقول: «إن مذيع إذاعة باري يتكلم لهجة مصرية غير مفهومة كثيرا هنا، كما أن حديثه السلبي وهجوماته على إنجلترا تلقى تجاوبا سيئا، أما راديو المغرب، الذي أصبح معروفا في المنطقة، فسوف يتحدث لغة أدبية ويعبر بسرعة بحيث يكون مفهوما من المستعمرين، وفي المقابل فإن مذيع راديو كولونيال سوف يتكلم ببطء وبشكل سليم وجيد بحيث إن التطوانيين لن يفوتوا فرصة الاستماع إلى البرامج الإخبارية المفصلة التي تقدمها هذه المحطة». وقد حاولت الحماية الفرنسية جعل الراديو وسيلة لنشر اللغة والثقافة الفرنسيتين في المغرب، بحيث يقول القنصل الفرنسي موجها الخطاب إلى الإقامة العامة: «الراديو هنا يتم الاستماع إليه بالخصوص من طرف النساء، لأنه هو الوسيلة الوحيدة لهن للبقاء على تواصل مع العالم الخارجي. كما أن هناك رجالا كثيرين يستمعون إلى الراديو. ويبدو أنه من المهم، من أجل منح المستمعين وخاصة المستمعات الوسيلة الأفضل للاستفادة من الراديو، جلب انتباه المسلمين في المغرب إلى الأهمية التي يكتسيها تعلم لغتنا، ولذلك سوف نرفع من عدد التلاميذ في مدارسنا، خاصة من النساء». المحطات الإذاعية بالمغرب في الثلاثينيات والأربعينيات في نهاية سنة 1935 أصبحت الإذاعة الروسية وإذاعة القاهرة وإذاعة باري الإيطالية تلتقط في المغرب بسهولة. وقد ضايق ذلك الوضع سلطات الحماية الفرنسية التي فكرت في استعمال مختلف السبل للحيلولة دون استماع المغاربة لتلك المحطات، نظرا للصراع والمنافسة المحتدة بين المراكز الاستعمارية حول السيطرة على التراب المغربي واكتساب النفوذ وسط المغاربة. واشتدت المنافسة بين فرنسا وإسبانيا بوجه خاصة نهاية العام 1936، عندما شرع راديو إشبيلية في بث برامج باللغة العربية موجهة إلى المغاربة، مما دفع الجنرال نوجيس، المقيم العام الفرنسي في المغرب آنذاك، إلى التفكير في عرقلة هذا البث والشروع في حملة دعائية مكثفة ضد الوجود الإسباني. فقد كان هدف محطة إذاعة إشبيلية هو»المحافظة» على اللياقة الثقافية والنفسية للمقاتلين المغاربة في صفوف قوات الجنرال فرانكو، حيث كان يتم بث برامج دعائية باللغة العربية ثلاثة أيام في الأسبوع، الاثنين والأربعاء والجمعة، وكانت تلك البرامج تستهدف بشكل خاص المغرب والحماية الفرنسية. وقد حالت فرنسا دون التقاط تلك الإذاعة في المنطقة السلطانية الخاضعة لنفوذها، بل حالت دون التقاط بعض البرامج حتى في مدينة طنجة الدولية. وفي يوم 9 دجنبر 1936 قال مذيع راديو إشبيلية في برنامج حول منطقة الريف، كان يتم منعه من طرف فرنسا، بأن هذا البرنامج يزعج فرنسا الإمبريالية التي تمنع وصوله إلى المنطقة السلطانية، وحمل فرنسا المسؤولية في هذا المنع. صراع القوى العظمى في المغرب خلال النصف الأول من الثلاثينيات من القرن الماضي، مع وصول النازية إلى الحكم في ألمانيا والفاشية في إسبانيا وإيطاليا، بدأت تتشكل معالم معركة دعائية بين بلدان المحور والبلدان الحليفة، لعب فيها البث الإذاعي أدوارا كبيرة. وقد سعت ألمانيا إلى جلب البلدان العربية إلى جانبها، من مدخل القضية الفلسطينية، في إطار سياستها المعادية لليهود داخل ألمانيا وفي مختلف بقاع العالم. وهكذا بدأت في بث برامج باللغتين العربية والأمازيغية موجهة إلى بلدان منطقة شمال إفريقيا، وبينها المغرب، مستندة في ذلك على الدعم الذي كانت تحصل عليه من لدن ممثلي الجاليات المسلمة في برلين بشكل خاص، وكانت تلك البرامج الإذاعية تدعو الشعوب المغاربية إلى الثورة ضد الفرنسيين والشيوعيين وطرد اليهود. وانضم راديو إشبيلية إلى هذه الحملة الدعائية الموجهة إلى الفرنسيين في المغرب، حيث جاء في أحد البرامج الدعائية:»إن من مصلحة البلدان المسلمة الوقوف ضد اليهود والشيوعيين والتقارب مع الألمان، وهنا نضيف أن على المغاربة الوطنيين أن يثقوا في أنفسهم ويحافظوا على الأمل في المستقبل». وللحيلولة دون التقاط تلك البرامج الإذاعية نصبت فرنسا قاعدة للتشويش على البث بمدينة القنيطرة، التي كانت تسمى ميناء ليوطي، ثم نقلتها فيما بعد إلى مدينة فاس، من أجل التشويش على راديو إشبيلية، كما حرص الجنرال نوجيس، المقيم العام، على منح برامج «راديو المغرب» طابعا دعائيا أكثر قوة، بحيث أصبح يقدم الأخبار عن المنطقة الخليجية الخاضعة للنفوذ الإسباني، بطريقة دعائية لتحريض المغاربة ضد التواجد الإسباني، وذلك جنبا إلى جنب مع الأخبار المتعلقة بمناطق النفوذ الفرنسي. علماء المغرب والراديو لكن دخول البث الإذاعي إلى المغرب، في بداية القرن الماضي، لم يمر من دون أن يثير نقاشا واسعا بين النخبة الدينية في تلك الفترة، في إطار ردود الفعل المختلفة في تلك المرحلة على كل ما هو جديد قادم من الحضارة الأوروبية. فإلى جانب التوترات السياسية التي ارتبط بهذا البث الإذاعي في المغرب، كانت هناك توترات فكرية ودينية عكستها ردود فعل العلماء. فقد تحفظ الكثير من العلماء حول المستحدثات التقنية الواردة من الغرب، بدعوى أنها تساهم في تقريب ديار الإسلام من ديار الكفر، بينما أبدى البعض الآخر حماسهم للاستفادة من تلك التقنيات، على اعتبار أنها تتضمن جوانب ذات منفعة. ومن تلك التقنيات التي أثارت جدلا بين العلماء المطبعة ووسائل الاتصال الحديثة كالراديو والهاتف والبرق، بما في ذلك الصحافة المكتوبة. وقد تميز موقف كل من عبد الحي الكتاني ومحمد بن الحسن الحجوي في ذلك الجدل. إذ أبدى الكتاني عدم تحفظه على توظيف المذياع والمونوغراف، شرط أن يكون ذلك لسماع القرآن الكريم، حيث وضع شرطين أساسيين، الأول أن يكون ذلك الاستماع مشروطا بالاستماع إلى القرآن الكريم، والثاني أن يكون مصحوبا بآداب الاستماع الواجب للمسلم تجاه القرآن. يقول عبد الحي الكتاني (18841962): «لو اتخذ وعاء منها واحتفظ بصوت قارئ عظيم وإملاء فخيم لأستاذ حكيم ليبقى لفظه باقي الدهر عبرة، وليتخذ نقطه أسوة، لم يستعمل ذلك الوعاء ولا تلك الآلة كلها لسماع غير ذلك، لم عندي بأس في هذه الصورة». لكن الكتاني يربط تحفظه ذلك بالزمن والتطور، لمعرفة ما سيؤول إليه ذلك الاختراع، بحيث يرى أن «ذلك لا يتيسر إلا بعد مرور أزمان، لأن الحقيقة بنت البحث». أما الفقيه محمد بن الحسن الحجوي (18741956)، الذي عرف بمواقفه المؤيدة للمستحدثات التقنية في وقت مبكر، مما جر عليه غضب العلماء في ذلك الوقت، فقد رأى أن جانب المصلحة يشجع على الاستماع إلى الراديو، بحيث إنه بالرغم من سلبياته، إلا أن سماع القرآن الكريم منه قد يكون وسيلة إلى مصالح كثيرة، من جملتها إرشاد الكفار ووعظ الفاسقين وتذكير للمؤمنين. وقد كتب الفقيه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري الحسني (19011961) في بداية القرن كتابا نشر بعد وفاته تحت عنوان «مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر سيد البرية»، تعرض فيه كما هو في العنوان لمختلف الاختراعات التقنية الحديثة، حيث استنتج من خلال عرض تلك الاختراعات على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية أنه سبق التنبؤ بها سلفا في الكتاب والسنة. وقد خصص في كتابه فقرات للتلفون والتلغراف والراديو، حيث ربط تلك الكشوفات الحديثة بفشو العلم وانتشاره بين الناس ومختلف الطبقات وإقامة الشهادة عليهم، إذ كتب يقول: «ومنها التلفون والتلغراف والراديو، ويشير إلى ذلك قوله تعالى: «ويقذفون بالغيب من مكان بعيد». بل هو ظاهر فيه، وهو داخل أيضا في أحاديث تقارب الزمان وزي الأرض وطيها طيا، فإن الأرض كما طويت لاتصال الأبدان بسرعة، كذلك الزمان طوي لاتصالها كذلك، طويا معا لاتصال الأصوات والأخبار والمغيبات عن البلد، والقذف بها من بلد إلى بلد ومن قطر إلى آخر. ويشير إلى الراديو خبر وارد فيه (أي في التلغراف) وفي المطابع أيضا، رواه الدارمي في مسنده وأبو نعيم في الحلية من حديث أبي الزاهرية يرفع الحديث، إن الله تعالى قال: «أبث العلم في آخر الزمان حتى يعلمه الرجل والمرأة والعبد والحر والصغير والكبير، فإذا فعلت ذلك بهم أختهم بحقي عليهم». فانتشار العلم بهذه الدرجة، إنما حصل بسبب الدروس والمحاضرات والمقالات التي تذاع بالراديو فيسمعها الرجال والنساء والكبار والصغار والعبيد والأحرار. فرنسا تجند العلماء في «راديو ماروك» تأسس «راديو ماروك»، الذي سيصبح فيما بعد الإذاعة الوطنية المغربية، سنة 1928، على غرار»راديو فرانس»، بعد سنة واحدة من تولي الحكم من طرف السلطان محمد بن يوسف، في إطار رغبة فرنسا في البقاء على تواصل دائم مع المعمرين الفرنسيين المقيمين بالمغرب، وإدماج المغاربة في الثقافة واللغة الفرنسيتين. وقد حاولت فرنسا الاستفادة من تجربتها في الجزائر، حيث كانت الإذاعة قد ظهرت هناك عام 1925. ويقول الإعلامي محمد بن ددوش في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» إن الصوت العربي في»راديو المغرب» لم ينطلق إلا بعد خمسة أعوام، أي سنة 1933، ويشير إلى أن المرحوم الحاج محمد المريني الذي عمل أيضا في جريدة «السعادة» التي كانت تصدرها الحماية الفرنسية هو من دشن الفترة العربية بالإعلان عن هوية المحطة بالعبارة التي اشتهر بها: «آلو.. آلو.. هنا راديو المغرب». وكانت الفترة المخصصة للبرامج العربية لا تتجاوز نصف ساعة ولمدة ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، «ومع ذلك يمكن القول إن الإذاعة المغربية، ولو في هذه الوضعية، كانت من أولى الإذاعات التي ظهرت في البلاد العربية». لكن لماذا انطلق البث العربي من هذه الإذاعة سنة 1933؟ في تلك الفترة بدأت النازية في ألمانيا تتجه بأنظارها إلى منطقة شمال إفريقيا الخاضعة بعض مناطقها للاستعمار الفرنسي، في إطار مبدأ المجال الحيوي الذي عمل أدولف هيتلر على الامتداد فيه لمنافسة البلدان الأوروبية المحاربة لنشر نفوذه في المناطق التي تسيطر عليها. وكانت ألمانيا قد أنشأت إذاعة ناطقة باللغة العربية هي «راديو برلين»، الذي كان يعمل فيه صحافي عراقي هو يونس بحري، هدفه دفع الشعوب العربية بشكل عام والمغاربة بشكل خاص إلى متابعة ألمانيا في استراتيجيتها من أجل الحصول على الاستقلال، ومحاربة النفوذ الفرنسي والبريطاني في المغرب والمشرق. وكانت الدعاية الألمانية مدعومة من الدعايتين الإسبانية من شمال المغرب والإيطالية من ليبيا. لكن لم يبدأ العمل بالقسم العربي في «راديو المغرب» بشكل مكثف إلا مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، التي قاتلت فيها فرنسا التحالف الألماني الإسباني الإيطالي مع الحلفاء سنة 1939. وفي الوقت الذي كانت إسبانيا من خلال محطاتها الإذاعية الناطقة بالعربية أو الإسبانية تحرض المغاربة ضد الفرنسيين، فكرت باريس في وضع سياسة إعلامية جديدة من داخل المغرب، لصد الهجمات الإعلامية الإسبانية والألمانية وتشكيل جبهة داخلية ضد النفوذ الألماني. ويروي عبد الله الجراري، الذي عاش خلال تلك الفترة وشارك في برامج «راديو المغرب» أنه «في السنة الثانية من اشتعال الحرب فكرت الحماية في خلق وسيلة من وسائل الدعاية لقوتها وقوة حلفائها، والعمل على تحطيم أعدائها الألمان ومن لف لفهم من قوة المحور، وانتهت بها النتيجة بصدور الأمر إلى شخصيات مغربية بارزة، وزراء وكتاب وعلماء، قصد تهييئ خطب في الموضوع للنيل من قوة المحور، والتقليل من قيمة النازية بصفة خاصة، وإلزام عدد ممن ذكر وسواهم من الأدباء بالمشاركة أسبوعيا، حيث كان موعد إلقاء الخطب مساء كل خميس على جناح الأثير(الراديو)». وقد نشرت جريدة «السعادة»، التي كانت تصدر باللغة العربية قبل ذلك التاريخ بسنوات طويلة، دعوات إلى العلماء والفقهاء والأدباء للمشاركة في «راديو المغرب»، وكررت نشر ذلك الإعلان لمدة أيام. وكان ممن شارك في تلك المحطة الإذاعية بالخطابة والإرشاد محمد ملين ومحمد بن الحسن الحجوي ومحمد بن العربي العلوي والبشير بن عبد الله الفاسي وإدريس بن خضراء وأحمد سكيرج. لكن بعض العلماء الآخرين تحرجوا من المشاركة في تلك الإذاعة، مخافة نعتهم من طرف المغاربة بالعمالة للحماية الفرنسية ومساندة الاحتلال، ومن بين هؤلاء محمد المدني بن الحسني الذي طلب إعفاءه من المشاركة، لكن لم يتم قبول طلب إعفائه، بحيث كانت الحماية الفرنسية ترغم الفقهاء والأدباء على المشاركة رغما عن أنفسهم، وكان من بين هؤلاء عبد الله الجراري نفسه، الذي يؤكد في مذكراته أنه أرغم على المشاركة، فألقى محاضرات كثيرة عن الحضارة الإسلامية، كما شارك بتلاوة القرآن، الأمر الذي جعل السلطان محمد الخامس يعجب بصوته ويسعى لاستقباله.