جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    أحمد الشرعي مدافعا عن نتنياهو: قرار المحكمة الجنائية سابقة خطيرة وتد خل في سيادة دولة إسرائيل الديمقراطية    مؤامرات نظام تبون وشنقريحة... الشعب الجزائري الخاسر الأكبر    الاعلام الإيطالي يواكب بقوة قرار بنما تعليق علاقاتها مع البوليساريو: انتصار للدبلوماسية المغربية    الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز بوينغ 787-9 دريملاينر    مؤتمر الطب العام بطنجة: تعزيز دور الطبيب العام في إصلاح المنظومة الصحية بالمغرب    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    السلطات البلجيكية ترحل عشرات المهاجرين إلى المغرب    الدفاع الحسني يهزم المحمدية برباعية    طنجة.. ندوة تناقش قضية الوحدة الترابية بعيون صحراوية    وفاة رجل أعمال بقطاع النسيج بطنجة في حادث مأساوي خلال رحلة صيد بإقليم شفشاون    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    مع تزايد قياسي في عدد السياح الروس.. فنادق أكادير وسوس ماسة تعلم موظفيها اللغة الروسية    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضّريح..
نشر في هسبريس يوم 12 - 10 - 2019

الصخور المدببة تملأ المكانَ حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل الذي يمتدّ عبر المدى البعيد إلاّ بحَذرٍ شديد، الأمواج الهادرة غاضبة مُزبدة، تتلاطمُ على الصّخور الكبيرةَ التي تواجهها في صمودٍ حادٍّ عنيف، يتطاير رذاذها المتناثر في كلّ اتجاه. أخذ مجموعة من الصيّادين أماكنهم المعتادة بين النتوءات الصّخرية الحادّة، ينظرون إلى ثبج البّحر ولجاجه العالية في صبر، وإصرار، وأناة، حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال مُجسّمات آدمية متباينة منذ أقدم العصور.
عند مدخل مغارةٍ مظلمة، بالقرب من جرف صخري وعر التضاريس، غير بعيدٍ عن مكان مقدّس لدى المتاجرين بعقائد الجهال والدّين يُسمّى الوليّة "لالة عيشة مولات لكاف" أو كما يطلق عليها بعض المجاذيب ب " ضريح الشّريفة" يتكوّمُ زُمرة من السّكارى والمتسكّعين، وهم يحتسون في لا مبالاة أردأ أنواع النبيذ الرّخيص، يحدّقون في البّحر، يلتفتون بين الفينة والأخرى صوبَ الطريق المحاذية للشاطئ المترامي الأطراف مخافة أن تداهمهم سيّارة دوريّة لشرطة الآداب، على مقربة منهم تمتدّ طريق طويلة أخرى تؤدّي إلى سوق الخُضر، وإلى ضريحٍ عتيق تعلوه قبّة ناصعة البياض، يقع على بُعد بضعة أمتار من الشاطئ، أكثرُ روّاده أو زوّاره ممّن هم واقعون تحت وطأة الخرافات، والأضاليل، والشعوذة، والخزعبلات، والشّرك، أو ممّن بهم جنون، أو مسّ، أو مروق، أو من الإناث اللاّئي يبحثنَ عن فارسٍ من فوارس الأحلام، بعد أن خانهنّ الحظّ في العثور على شريك العُمر، إذ في اعتقاد السكّان القاطنين بالقرب من الضّريح أنّ مَنْ قصدته منهنّ لا يحولُ عليها الحَوْلُ حتى تصبحَ في عِداد المتزوّجات..! في هذا المكان تُقام ما يُعرف عندهم بالحضرة، وعلى أنغام موسيقى الكناوة الشعبيّة الصّاخبة تهتزّ، وتتمايل أجساد النساء من العجائز، والصّبايا، قبل أن يتبرّكن بدماء الذبائح والقرابين لطرد أعمال السّحر، أو إبطال مفعول الثقاف المعقود على أجساد الضحايا البريئات.
على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح، وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام وقد وُضعت أحجار ثقيلة على أسطحها، تبدو وكأنها آيلة للسّقوط بفعل هبوب الريّاح القويّة التي تأتي من ناحية البحر، وغيرُ بعيدٍ عن هذه الأكواخ يوجد الحيّ الشعبي الذي يحمل اسم دفين الضّريح الوليِّ الصّالحِ "سيدي موسىَ". عند كلّ مساء يخرجُ السكّان، قبيل غروب الشّمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعضَ الطعام، وقبالة كلِّ بيتٍ من هذه البيوت تتجمّع مجموعات من الأطفال الصغار شبه حفاة وعراة إلاّ من سترات رثّة، وأردية بسيطة تقيهم لفحاتُ البّحر القارصة، كلّهم تبدو عليهم الفاقة في أحلك وأحطّ صُوَرها، مُعظمهم يصرخ لأسبابٍ أو بدونها، وقبالة هذه البيوت المتواضعة نُشرت بعض الألحفة المهترئة، والملاءات، والحُصُر البالية منذ الصّباح الباكر لتُبعِد عنها أشعّةُ الشمس آثارَ رطوبة اللّيل، وبلله، وبرودته التي تحوِّلُ ليلَ السكّان إلى عذابٍ مقيم.
بعيداً عن البحر تمتدّ بعض المراعي والحقول، التي ظلّت جرداءَ، قاحلةً، على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعاً...! في بعض جوانبها يرعى قطيع من الحيوانات من أبقار، ومعز، وأغنام، ودوابّ بقايا الكلإ، والحشائش الجافة، تبدو هزيلة، نحيلة ومُرهَقة. وحول جدران أطلال بناءاتٍ بالية مهدّمة تنتشر أسراب من الدجاج والديوك الرّومية تنقر الثرىَ بدون انقطاع بحثاً عن حبوب أو ديدان قبل أن تهرع الى داخل الأكواخ، من بعيد تبدو بعض الكلاب السّوقية الضّالة تتسكّع، تشمّ الأرضَ، وتحشرُ أنوفَها أسفلَ أجذاع الأشجار بدون انقطاع، في عصبيّة وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العَرَبات المُحمَّلة بأنواعٍ مختلفةٍ من الخُضر، والفواكه الموسميّة، وبعضُ السيّارات، والدرّاجات النارية، والعَجَلات، والمارّة.
هذه الصّورة المتداخلة والمتعدّدة المشاهد، لا يمكنك أن تظفر بها في مختلف أرجاء هذه المدينة البيضاء العتيقة، مدينة الأولياء والصّالحين المحاذية لوادي أبي رقراق إلاّ إذا جلستَ عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان محظوظاً في اختيار هذا الموقع حيث نصبَ بعضَ الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبهَ مقهى متواضعة يؤمّها بعض المارّة، وعشّاق البّحر، ولكنهم قليلون بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريقَ الطويلة كلّ يوم بدون انقطاع منذ غسق الفجر حتى شفق آخر النهار.
أخذتُ مكاني كالعادة على مقعدٍ مُنحنٍ من المقاعد الخشبيّة القديمة الموجودة عند مدخل المقهى التي غيّرَ أشكالَها البللُ، وكستها رطوبةُ البحر لونا رماديّاً باهتاً، وأضفتْ عليها شكلاً دامغاً بالياً مهترئاً، فإذا بالحاجّ علاّل يُهرول نحوي هاشّاً باشّاً يجرّ خطاه في تثاقل وهو يقول بصوتٍ مبحوح:
– أهلاً بالأستاذ. مَرْحْبَا والله مشتاقين...؟
شكرته على ترحيبه وملاطفته، وطلبتُ منه كوباً من القهوة المُرّة الخالية من السكّر أو السّكارين. عاد إلى داخل المقهى يجرّ الخطىَ بتؤدةٍ. الحاج علاّل لم يزر الدّيار المقدّسة، بل إنّه لم يبرح مدينته أو بالأحرى قريته قطّ في حياته ومع ذلك فإنّ جميع روّاد مقهاه ينادونه ب " الحاج"، كان رجلاً بديناً، ضخمَ الجسم، يرتدي سروالاً مغربياً تقليدياً أصيلاً " فضفاضاً يزيد من بدانته، يطلق عليه أهلُ البلد "القندريسة"، وقميصاً مزركشاً سميكاً بالياً رثّاً لا ترتاح العينُ لرؤيته من نسيج المَلف تتوسّطه أعقاد تُسمّيه العامّة " البدعيّة"، لم أكلّف نفسي عناءَ اقتفاء أصل، أو أثل، أو جِذر هاتيْن الكلمتيْن، في وجهه بقايا بثور برص قديم، وحول خصره يلتوي شالٌ أحمرُ اللون قانٍ بدأ البلىَ يدبّ فيه، وتغطّي فروة رأسه قلنسوة في لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللّون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة، على طريقة لبس أهل الشّام. وأوّل ما تصيب العينُ من هذا الرّجل البدين هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجبُ فمَه الصّغير، كما أنّ حاجبيْه كانا كثّيْن أشيبيْن يكادان يغطّيان عينيْه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث، ويصعبُ عليك إدراك إذا ما كان الحاج علاّل سعيداً أم حزينا إلاّ من جرّاء حركات رأسه أو ضحكه أو وجومه.
عاد إلى داخل المقهى، وسرواله الفضفاض يجعله يبعد قدميْه عن بعضهما عند المشي وهو يهزّ رأسَه فرحاً جذلاً بمقدمي. لقد تعوّدتُ زيارة هذا المكان لكونه كان دائماً مرتعَ صباي وطفولتي ومربع سنوات دراستي في المدرسة الإعدادية الحكومية المجّانية التي لا تبعد عن هذا المكان ويصعب على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايَا الماضي، ورواسبَ الطفولة البعيدة، وأشلاءَ الزّمن الغابر التي تظلُّ عالقةً، لصيقة بأهداب عقله الباطن وماثلةً نصبَ عينيْه إلى أن يُوارىَ التراب.
إنّني لست أحسن حالاً ممّا كنتُ عليه من قبل. حتى ولو أصبحتُ أحمل لقباً أمقته لأنّه لا يمنحني صفتي الحقيقية، ولا يزيد في فتات مرتّبي الشّهري المتواضع حبّة خردل، فأينما حللتُ أو ارتحلت أو أقمتُ أجده أمامي، فأنا أستاذ عند الجزّار، أستاذ عند البقّال، أستاذ عند الخُضري، أستاذ عند الحدّاد، أستاذ عند الإسكافي، وأستاذ عند الحاج علاّل، جميع أهل مدينتي الصغيرة يلحقون بي هذه الصّفة، وإن أنا في الواقع إلاّ "مدرّس" بسيط يلّقّنُ الأطفالَ الصّغارَ أبسطَ المبادئ الأولى للكتابة والهجاء.
كان والدي صيّاداً ماهراً، كان ذا قوّةٍ وصبرٍ عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن، وتقدّم العمر، وبتأثير رطوبة البّحر، وصقيع الليل، وطول السّهر، وتلك السّجاير الرّخيصة اللعينة القاتلة التي كان يملأ بسمومها رئتيْه بدون انقطاع، ولكنّه، مع ذلك، كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثرَ رخاءً ممّا أوفّره لها أنا اليوم...!
منذ أن توفّيّ والدي أصبحتُ العائل الوحيد لأخواتي الصّبايا الثلاث اللاّئي فاتهنّ قطار الزواج، ولوالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي الوحيد، وحتى ولو انتقلنا للعيش في مدينة مجاورة لهذا المكان، فإنّه كثيراً ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة.
حضرَ الحاج علاّل وقطعَ عليّ حبلَ تفكيري بسُعاله الجريح المُحشرج الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يُخفي مرضاً فاتكاً بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجانَ على الخشبة المتآكلة الموضوعة أمامي، وهزّ رأسَه معتذراً عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف دون أن ينبس ببنت شفة .
أحسَسْتُ بنوعٍ من الاشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ، وتخيّلتُ أنّه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال، ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّاً من شربها، فصرتُ أحسوها ببطء، وأشعلت سيجارة من نفس الصّنف الرديء الذي كان يدخّنه بشراهة والدي، وطفقتُ أسرح بنظري، وفكري، وخيالي هنا وهناك حول تلك الصّخور المُدبّبة، التي حفرها تحاتّ البّحر، ومرور الزّمن بالثقوب، وملأها بالتجاويف والندوب، و تمتدّ على يساري المراعي البئيسة التي كانت يوماً مّا مسرحاً لطفولتي البعيدة، وملاذاً لسعادتي وأفراحي الصغيرة. ودارت بمخيّلتي أشرطة الذكريات، وأنا أهزّ رأسي أسفاً وحسرةً على فقدان تلك الأوقات التي ولّتْ، ومضتْ، وانقضت وليس لها إيّاب. وعلى النقيض من ذلك تولّدتْ في نفسي فجأة سعادة غامرة عابرة دبّت كدبيب النمل في كلّ جسمي، فتناسيتُ قليلاً البيتَ ومشاكلَه، وزوجتي، وولدي، وأخَوَاتي الثلاث، ووالدتي العجوز، ونسيتُ الدّنيا وكلّ ما فوقها وحولها وسرح فكري.
– آه يا والدي العزيز كيف خلّفتَ وراءك ولداً وثلاثَ بنات...؟ ألم تفكّر في المستقبل. ولكن أنَّىَ لك ذلك...؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك، فليس أقسى عليّ أن أرى هؤلاء البائسات القعيدات، وهنّ يسرعن الخُطىَ كلّ يوم إثنين مُهرولاتٍ لملاحقة عربة من العربات التي تجري حاملة فوقها أكواماً من النساء، و الذبائح، والقرابين، من خرفان، وتيُوس، ودواجن، وسوى ذلك من الزّاد والمُؤن إلى هذا الضريح، لعلّ الحظّ يسهّل عليهنّ أمرَ الزّواج .!
مذ كنتُ صغيراً وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به إيماناً راسخاً من أعماقي. غير أنّ إيماني به اليوم اندثر وتلاشى كما تتلاشى الرّغاوي المُزبدة للأمواج الهادرة عند انكسارها على الشطّ، حدث ذلك تماماً عندما عايشتُ تجربة أخَوَاتي الثلاث عن كثب اللاّئي أخفقنَ جميعُهنّ في العثور على زوجٍ صالحٍ أو طالحٍ، وهنّ من أكثر الصّبايا ارتيادا لهذا المكان.!.
كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظوراً على السكّان أن يَضحكوا بأصوات عالية مُجلجلة، أو أن يُغنّوا، أو يزغردوا، أو يَرقصوا بتبرّج احتراما لقدسية هذا المكان الذي تُقام فيه طقوس غريبة من السّحر، والشعوذة، والدّجل، والخرافات، والغيبيّات، لذا قلّتِ البّسمات فيما بينهم، وملأت الكآبةُ والحزنُ، والوجومُ والترقّبُ وجوهَ الجميع.
كانت الشمس آيلة نحو المغيب، وبدأ قرصُها الأحمر الذهبيّ يدنو من الأفق البعيد رويداً رويداً، وصار يختفي بين السّحب الداكنة، والغيوم الملبّدة شيئاً فشيئاً، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابَها الصّغيرة، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجياً، كما أنّ الأبقار، والمواشي، والدوابّ والدواجن تستعدّ هي الأخرى للعودة إلى إصطبلاتها من حيث أتت.
الكلُّ في حركةٍ دائبةٍ، وفى هرولةٍ وعجلةٍ من أمره، إلاّ أنا فقد خيّل لي في تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتعُ بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكبٍ لجموعٍ من البشر يتراءى لي من بعيد، فَخِلتُه بحكم العادة أنّه موكبُ احتفال إمّا بعقيقة، أو إعذار، أو عرس أنهى مراسيمَ التبرّك بأعتاب الضريح الصّالح وهو عائد من حيث أتى. فتسمّرتْ عيناي محدّقتين في ذلك الحشد البشري الهائل القادم نحوي، وجالت الذكريات من جديد بخاطري، فتمثّلت أمامي أيّام الطفولة البريئة، وهنيهات الصّبا الأغرّ، أيّام مَا كنتُ صغيراً أركضُ وراء هذه الجموع الغفيرة لعلّي أظفر في الأخير ببعض الحلوى أو الأكل الذي غالباً ما كان "الكُسكُس"، وصرتُ أرقب الحشدَ عن كثب، وهو يدنو منّي رويداً رويدا والبسملة لا تفارق شفتيّ. كانت أصواتُ الموكب تنتهي إليّ من بعيد متداخلة، لم يتبيّن لي مدلولها بعد، ووجدتُ نفسي في حالةٍ من الذّهول، لهذه الصّدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ. وَاصَلَ الحشدُ مسيرتَه البطيئة في اتجاهي، وما أن اقترب منّي حتى داهمني صوتٌ جهوريٌّ رهيب أحال ابتسامتي إلى وجوم، وجَذلي إلى خشوع :
– لا إله إلاّ الله. محمّد رسول الله..
كان الجميع يردّدها هذه في رتابة، وفى آلية، ولا مبالاة غريبيْن، كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميماً هزيلاً، ونحيلاً تعلو عنقه الكدمات، لابدّ أنّه كان حصاناً مريضاً أو عجوزاً، كان يمشي الهُوينى، ويهزّ رأسَه من أعلى إلى أسفل بدون انقطاع، حول النعش التف جمعٌ غفير من المشيعين والمقرئين وقد اتكأوا بلا اكتراث على المَحمل وهم ينظرون إلى الغادي والرّائح مردّدين بشكلٍ آلي ومتوالٍ رتيب نفسَ الكلمة المُرَخّمة المألوفة :
– لا إله إلاّ الله. محمّد رسول الله..
كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقّا حزانىَ أم لا...! تابع الموكبُ طريقه في لامبالاة، ولم يلتفت أحد إلى الموكب الجنائزي، ظلّ الصيّادون في وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة، صيحات الأطفال بقيت كما كانت عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال، كنت الوحيد المتتبّع للموكب الذي سيطر على مجامعي، ظللتُ أرمقه بنظري برهةً حتى أصبح بعيداً عنّي، وخفّت أصوات الحشد. ثم غاب عن الأنظار.
لم أفق من سباتي أو غفوتي، إلاّ عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي بلطف وهو يقول :
– الأستاذ.. الأستاذ.. هل أنت نائم...؟
أدرتُ رأسي نحوه، فإذا به يبتسمُ لي وهو ينتظر الحساب، ولم أدر على وجه التحديد هل كنتُ نائماً حقّاً، أم كنت في حالةِ غفوةٍ، أم صحوةٍ، أم منهمكاً في أضغاث أحلامٍ، ارتبكت قليلاً، نهضتُ من مكاني، دفعتُ له الحساب، ثمّ حيّيته وانصرفت.
في طريق العودة إلى البيت، التقيت بجموع النّساء الغفيرة العائدات من الضّريح الصّالح إلى بيوتهنّ، وعلامات الغِبطة والجَذل، والانشراح تملأ وجوهَهنّ بالبِشْر، والأمَل، والحُبور، بعد أن قمنَ بجميع الطقوس اللاّزمة للغاية التي قَدِمنَ من أجلها إلى هذا المكان، وكلّهنّ شوقٌ، وتطلّعٌ، وترقّبٌ، وانتظار لما سوف يأتي به الغدُ القريب من أخبار سارّة قد تنبئهنّ بقدوم فارس الأحلام، وشريك العمر، وهو يمتطي صَهة جواده المُسوّم الأبيض...! عندئذٍ تذكّرتُ أخَواتي البنات الصّبايا الثلاث الحسيرات، الكسيرات، وأسِفتُ لعدم قدومهنّ اليوم كذلك ليجرّبنَ حَظّهنّ، هنّ الأخريات مرّة أخرى من جديد، بعد أن سبق أن قَدِمْنَ إلى هذا المكان مرّاتٍ، ومرّاتٍ من قبل دون جدوى.!
الآن، تذكّرتُ، وأيقنتُ أنّه عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي، وصحوتُ من غفوتي خُيِّل لي أنني رأيتُ في منامي فيما يراه النائم وقت الظهيرة، أنّ الحشد الجنائزي الهائل المَهيب الذي مرّ أمامي قبل قليل، والذي ذهبَ بدون رِجعة، واختفى عن الأنظار، لابدّ ولا جَرَمَ أنّه كان يحملُ معه داخلَ النعش كومة التقاليد البالية السّائدة، أو رزمة العوائد المتوارثة العتيقة لتُوارىَ التراب.؟!..كانت بقايا أصداء أصواته الرهيبة المبهمة، والغامضة ما زالت تزدحمُ، وتتفاقمُ، وتتلاطمُ بداخلي في عنفٍ وزخمٍ، وتملأ أسماعي وأعماقي بنفس تلك النّبرة الحزينة، القويّة، الحادّة، المؤثّرة والمتواترة والرتيبة إيّاها.
* عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكيّة للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.