عن الشّعوذة والشِّرك والفجُور والتبرّك بالأحجَار والقبُورفى قالَبٍ قصصي الصّخورالمُدبّبة تملأ المكانَ حتى ليتعذّر على المرء المشي بمحاذاة السّاحل الذي يمتدّ عبر المدى البعيد إلاّ بحَذرٍ شديد، الأمواج الهادرة غاضبة مُزبدة، تتلاطمُ على الصّخور الكبيرةَ التي تواجهها في صمودٍ حادٍّ عنيف، يتطاير رذاذها المتناثر في كلّ إتجاه . أخذ مجموعة من الصيّادين أمكنتهم المعتادة بين النتوءات الصّخرية الحادّة ، ينظرون إلى ثبج البّحر ولججه العالية في صبر، وإصرار، وأناة، حتى ليخيّل للناظر إليهم أنّهم تماثيل حجرية منصوبة على أشكال مُجسّمات أدمية متباينة منذ أقدم العصور . عند مدخل مغارةٍ مظلمة، بالقرب من "جرف صخري" وعر التضاريس ، غير بعيدٍ عن مكان مقدّس لدى المتاجرين بعقائد الجهال والدّين يُسمّى الوليّة "لالة عيشة مولات لكاف" أو كما يطلق عليها بعض المجاذيب ب " ضريح الشريفة" يتكوّمُ زُمرة من السّكارى والمتسكّعين ، وهم يحتسون فى لا مبالاة أردأ أنواع النبيذ الرّخيص، يحدّقون في البّحر، يلتفتون بين الفينة والأخرى صوبَ ناحيةٍ من نواحي الشاطئ المترامي الأطراف مخافة أن تداهمهم سيّارة دوريّة لشرطة الآداب، على مقربة منهم تمتدّ طريق طويلة أخرى تؤدّي إلى سوق الخُضر، وإلى ضريحٍ عتيق تعلوه قبّة ناصعة البياض، يقع على بُعد بضعة أمتار من الشاطئ، أكثرُ روّاده أو زوّاره ممّن هم واقعون تحت وطأة الخرافات، والأضاليل، والشعوذة،والخزعبلات ،والشّرك، أو ممّن بهم جنون، أو مسّ، أو مروق، أو من الإناث اللاّئي يبحثنَ عن فارسٍ من فوارس الأحلام، بعد أن خانهنّ الحظّ في العثور على شريك العمر، إذ في إعتقاد السكّان القاطنين بالقرب من الضّريح أنّ مَنْ قصدته منهنّ لا يحولُ عليها الحَوْلُ حتى تصبحَ في عِداد المتزوّجات..! في هذا المكان تُقام ما يُعرف عندهم بالحضرة، وعلى أنغام موسيقى الكناوة الشعبية الصّاخبة تهتزّ، وتتمايل معها أجساد النساء من العجائز، والصّبايا، قبل أن يتبرّكن بدماء الذبائح والقرابين لطرد أعمال السّحر، أو إبطال مفعول الثقاف المعقود على أجساد الضحايا البريئات. على الجانب الأيسر من الشاطئ تنتشر دور الصّفيح، وأكواخ الخشب المختلفة الأشكال والأحجام،وقد وُضعت أحجار ثقيلة على أسطحها ، تبدو وكأنها آيلة للسّقوط بفعل هبوب الريّاح القويّة التي تأتي من ناحية البحر، وغيرُ بعيدٍ عن هذه الأكواخ يوجد الحيّ الشعبي الذي يحمل إسمَ دفين الضّريح الوليِّ الصّالحِ "سيدي موسىَ". عند كلّ مساء يخرجُ السكّان، قبيل غروب الشّمس إلى أبواب أكواخهم ليهيّئوا بعضَ الطعام، وقبالة كلِّ بيتٍ من هذه البيوت تتجمّع مجموعات من الأطفال الصّغارشبه حفاة وعراة إلاّ من سترات رثّة، وأردية بسيطة تقيهم لفحاتُ البّحر القارصة ، كلّهم تبدو عليهم الفاقة في أحلك وأحطّ صورها، مُعظمهم يصرخ لأسبابٍ أو بدونها، وقبالة هذه البيوت المتواضعة نُشرت بعض الألحفة المهترئة،والملاءات، والحُصُرالبالية منذ الصّباح الباكر لتُبعِد عنها أشعّةُ الشمس آثارَ رطوبة اللّيل، وبلله، وبرودته التي تحوِّلُ ليلَ السكّان إلى عذابٍ مقيم . بعيداً عن البحر تمتدّ بعض المراعي والحقول، التي ظلّت جرداءَ، قاحلةً، يابسة على الرّغم من أنّ الفصل كان ربيعاً..! في بعض جوانبها يرعى قطيع من الحيوانات من أبقار، ومعز، وأغنام، ودوابّ بقايا الكلإ، والحشائش الجافة، تبدو هزيلة، نحيلة ومُرهَقة.. وحول جدران أطلالبناءاتٍ بالية مهدّمة تنتشر أسراب من الدجاج ،والديوك الرّومية تنقر الثرىَ بدون انقطاع بحثاً عن حبوب أو ديدان قبل أن تهرع الى داخل الأكواخ ، من بعيد تبدو بعض الكلاب السّوقية الضّالة تتسكّع ، تشمّ الأرضَ، وتحشرُ أنوفَها أسفلَ أجداعَ الأشجار بدون إنقطاع، في عصبيّة وتوتّر وهلع، وعبر الطريق الطويلة الممتدّة نحو السّوق والضريح تمرّ بين الفينة والأخرى بعض العَرَبات المُحمَّلة بأنواعٍ مختلفةٍ من الخُضر، والفواكه الموسميّة، وبعضُ السيّارات، والدرّاجات النارية، والعَجَلات، وبعض المارّة . هذه الصّورة المتداخلة والمتعدّدة المشاهد، لا يمكنك أن تظفر بها في مختلف أرجاء هذه المدينةالبيضاء العتيقة، مدينة الأولياء والصّالحين المحاذية لوادي أبي رقراق إلاّ إذا جلستَ عند مقهى الحاج علاّل، الذي كان محظوظاً في إختيار هذا الموقع حيث نصبَ بعضَ الأخشاب المهترئة ليقيم بها شبهَ مقهى متواضعة يؤمّها بعض المارّة، وعشّاق البّحر، ولكنهم قليلون بالقياس إلى الأكوام البشرية الهائلة التي تقطع الطريقَ الطويلة كلّ يوم بدون إنقطاع منذ شفق الفجر، حتى غسق آخر النهار. أخذتُ مكاني كالعادة على مقعدٍ مُنحنٍ من المقاعد الخشبيّة القديمة الموجودة عند مدخل المقهى التي غيّرَ أشكالَها البللُ، وكستها رطوبةُ البحرلوناً رماديّاً باهتاً، وأضفتْ عليها شكلاً دامغاً بالياً مهترئاً، فإذا بالحاجّ علاّل يُهرول نحوي هاشّاً باشّاً يجرّ خطاه فى تثاقل وهو يقول بصوتٍ مبحوح : – أهلاً بالأستاذ..مَرْحْبَا فين هاد الغْبُور..شْحَالْ هَادِي مَا شُفناك ..؟ شكرته على ترحيبه بطريقته الخاصّة ، وملاطفته، وطلبتُ منه كوباً من القهوة المُرّة الخالية من السكّر أو السّكارين..عاد إلى داخل المقهى يجرّ الخطىَ بتؤدةٍ . الحاج علاّل لم يزر الدّيار المقدّسة، بل إنّه لم يبرح مدينته أو بالأحرى قريته قطّ فى حياته ومع ذلك فإنّ جميع روّاد مقهاه ينادونه ب " الحاج" ، كان رجلاً بديناً، ضخمَ الجسم، يرتدي سروالاً مغربياً تقليدياً أصيلاً " فضفاضاً يزيد من بدانته، يطلق عليه أهلُ البلد "القندريسة"، وقيصاً مزركشاً سميكاً بالياً رثّاً لا ترتاح العينُ لرؤيته من نسيج المَلف تتوسّطه أعقاد تُسمّيه العامّة " البدعيّة" ، لم أكلّف نفسي عناءَ إقتفاء أصل، أو أثل، أو جِذر هاتيْن الكلمتيْن، فى وجهه بقايا بثور برص قديم، وحول خصره يلتوي شالٌ أحمرُ اللون قانٍ بدأ البلىَ يدبّ فيه ، وتغطّي فروة رأسه قلنسوة في لون شاله تلفّها عمامة بيضاء اللّون يشبك حواشيها بدبّوس عند أعلى القلنسوة، على طريقة لبس أهل الشّام . وأوّل ما تصيب العينُ من هذا الرّجل البدين هو شاربه المعقوف الكثيف الأشيب الذي يحجبُ فمَه الصّغير، كما أنّ حاجبيْه كانا كثّيْن أشيبيْن يكادان يغطّيان عينيْه لولا أنّه يرفعهما نحو الأعلى عندما يتحدّث، ويصعبُ عليك إدراك إذا ما كان الحاج علاّل سعيداً أم حزينا إلاّ من جرّاء حركات رأسه أو ضحكه أو وجومه . عاد إلى داخل المقهى، وسرواله الفضفاض يجعله يبعد قدميْه عن بعضهما عند المشي وهو يهزّ رأسَه فرحاً جذلاً بمقدمي. لقد تعوّدتُ زيارة هذا المكان لكونه كان دائماً مرتعَ صباي وطفولتي،ومربع سنوات دراستي فى المدرسة الإعدادية الحكومية المجّانية التي لا تبعد عن هذا المكان، ويصعبُ على المرء أن يطرد من ذاكرته بقايَا الماضي، ورواسبَ الطفولة البعيدة، وأشلاءَ الزّمن الغابرالتي تظلُّ عالقةً، لصيقة بأهداب عقله الباطن وماثلةً نصبَ عينيْه إلى أن يُوارىَ التراب. إنّني لست أحسن حالاً ممّا كنتُ عليه من قبل. حتى ولو أصبحتُ أحمل لقباً أمقته لأنّه لا يمنحني صفتي الحقيقية، ولا يزيد في فتات مرتّبي الشّهري المتواضع حبّة خردل، فأينما حللتُ أو إرتحلتُ أو أقمتُ أجده أمامي، فأنا أستاذ عند الجزّار، أستاذ عند البقّال، أستاذ عند الخُضري، أستاذ عند الحدّاد، أستاذ عند الإسكافي، وأستاذ عند الحاج علاّل، جميع أهل مدينتي الصغيرة يلحقون بي هذه الصّفة، وإن أنا في الواقع إلاّ "مدرّس" بسيط يلّقّنُ الأطفالَ الصّغارَ أبسطَ المبادئ الأولى للكتابة والهجاء. كان والدي صيّاداً ماهراً، كان ذا قوّةٍ وصبرٍ عجيبين فقدهما مع مرور الزّمن، وتقدّم العمر، وبتأثير رطوبة البّحر، وصقيع الليل، وطول السّهر، وتلك السّجاير الرّخيصة اللعينة القاتلة التي كان يملأ بسمومها رئتيْه بدون انقطاع ، ولكنّه، مع ذلك، كان يوفّر لأسرتنا معيشة أكثرَ رخاءً ممّا أوفّره لها أنا اليوم..! منذ أن توفّيّ والدي أصبحتُ العائل الوحيد لأخواتي الصّبايا الثلاث اللاّئي فاتهنّ قطارالزّواج، ولوالدتي العجوز، ولزوجتي وولدي الوحيد، وحتى ولو إنتقلنا للعيش في مدينة مجاورة لهذا المكان، فإنّه كثيراً ما يحلو لي أن أزوره بين المرّة والمرّة. حضرَ الحاج علاّل وقطعَ عليّ حبلَ تفكيري بسُعاله الجريح المُحشرج الذي يخيّل لسامعه وكأنّه يُخفي مرضاً فاتكاً بين ثنايا ضلوعه. وضع الفنجانَ على الخشبة المتآكلة الموضوعة أمامي، وهزّ رأسَه معتذراً عن نوبة السّعال التي عاودته وانصرف دون أن ينبس ببنت شفة . أحسَسْتُ بنوعٍ من الإشمئزاز من القهوة التي حملها إليّ، وتخيّلتُ أنّه أصابها برضاب فمه أثناء السّعال، ولكنّي مع ذلك لم أجد بدّاً من شربها، فصرتُ أحسوها ببطء، وأشعلت سيجارة من نفس الصّنف الرّديئ الذي كان يدخّنه بشراهة والدي، وطفقتُ أسرح بنظري، وفكري، وخيالي هنا وهناك حول تلك الصّخور المُدبّبة، التي حفرها تحاتّ البّحر، ومرور الزّمن بالثقوب، وملأها بالتجاويف والندوب ، و تمتدّ على يساري المراعي البئيسة التي كانت يوماً مّا مسرحاً لطفولتي البعيدة، وملاذاً لسعادتي وأفراحي الصغيرة. ودارت بمخيّلتي أشرطة الذكريات، وأنا أهزّ رأسي أسفاً وحسرةً على فقدان تلك الأوقات التي ولّتْ، ومضتْ، وإنقضتْ وليس لها إيّاب. وعلى النقيض من ذلك تولّدتْ في نفسي فجأة سعادة غامرة عابرة دبّت كدبيب النمل في كلّ جسمي، فتناسيتُ قليلاً البيتَ ومشاكلَه، وزوجتي، وولدي، وأخَوَاتي الثلاث، ووالدتي العجوز، ونسيتُ الدّنيا وكلّ ما فوقها وحولها وسرح فكري . – آه يا والدي العزيز كيف خلّفتَ وراءك ولداً وثلاثَ بنات..؟ ألم تفكّر في المستقبل ..ولكن أنَّىَ لك ذلك..؟ ثمّ إنّ الذنب ليس ذنبك، فليس أقسى عليّ أن أرى هؤلاء البائسات القعيدات، وهنّ يسرعن الخُطىَ كلّ يوم إثنين مُهرولاتٍ لملاحقة عربة من العربات التي تجري حاملة فوقها أكواماً من النساء، والذبائح، والقرابين، من خرفان، وتيُوس، ودواجن، وسوى ذلك من الزّاد والمُؤن إلى هذا الضريح ، لعلّ الحظّ يسهّل عليهنّ أمرَ الزّواج .! مذ كنتُ صغيراً وأنا أرى ذلك المنظر الذي كنت فيما مضى أومن به إيماناً راسخاً من أعماقي. غير أنّ إيماني به اليوم إندثر وتلاشى كما تتلاشى الرّغاوي المُزبدة للأمواج الهادرة عند انكسارها على الشطّ ، حدث ذلك تماماً عندما عايشتُ تجربة أخَوَاتي الثلاث عن كثب اللاّئي أخفقنَ جميعُهنّ في العثور على زوجٍ صالحٍ أو طالحٍ، وهنّ من أكثر الصّبايا إرتياداً لهذا المكان.!. كانت الأفراح بهذه المنطقة تكتسي صبغة غريبة من الحزن والكآبة، فقد كان محظوراً على السكّان أن يَضحكوا بأصوات عالية مُجلجلة، أو أن يُغنّوا، أو يزغردوا، أو يَرقصوا بتبرّج إحتراماً لقدسية هذا المكان الذي تُقام فيه طقوس غريبة من السّحر، والشعوذة، والدّجل، والخرافات، والغيبيّات، لذا قلّتِ البّسمات فيما بينهم، وملأت الكآبةُ والحزنُ، والوجومُ والشّجنُ والترقّبُ وجوهَ الجميع . كانت الشمس آيلة نحو المغيب، وبدأ قرصُها الأحمر الذهبيّ يدنو من الأفق البعيد رويداً رويداً، وصار يختفي بين السّحب الداكنة، والغيوم الملبّدة شيئاً فشيئاً، وطفقت بعض البيوت تغلق أبوابَها الصّغيرة، وبدأ عدد الأطفال يقلّ تدريجياً، كما أنّ الأبقار، والمواشي، والدوابّ والدواجن تستعدّ هي الأخرى للعودة إلى إصطبلاتها من حيث أتت. الكلُّ في حركةٍ دائبةٍ، وفى هرولةٍ وعجلةٍ من أمره، إلاّ أنا فقد خيّل لي في تلك الهنيهة أنّني كنت أستمتعُ بأسعد لحظات عمري. بينما أنا على تلك الحال إذا بموكبٍ لجموعٍ من البشر يتراءى لي من بعيد، فَخِلتُه بحكم العادة أنّه موكبُ إحتفالٍ إمّا بعقيقة، أو إعذار، أوعرس أنهى مراسيمَ التبرّك بأعتاب الضريح الصّالح وهو عائد من حيث أتى. فتسمّرتْ عيناي محدّقتين في ذلك الحشد البشري الهائل القادم نحوي، وجالت الذكريات من جديد بخاطري، فتمثّلت أمامي أيّام الطفولة البريئة، وهنيهات الصّبا الأغرّ، أيّام مَا كنتُ صغيراً أركضُ وراء هذه الجموع الغفيرة لعلّي أظفر في الأخير ببعض الحلوى أو الأكل الذي غالباً ما كان "الكُسكُس"، وصرتُ أرقب الحشدَ عن كثب، وهو يدنو منّي رويداً رويداً ،والبسملة لا تفارق شفتيّ . كانت أصواتُ الموكب تنتهي إليّ من بعيد متداخلة، لم يتبيّن لي مدلولها بعد، ووجدتُ نفسي في حالةٍ من الذّهول، لهذه الصّدفة الغريبة التي سأزداد بها متعة لا شكّ، وَاصَلَ الحشدُ مسيرتَه البطيئة في إتّجاهي، وما أن اقترب منّي حتى داهمني صوتٌ جهوريٌّ رهيب أحال إبتسامتي إلى وجوم، وجَذلي إلى خشوع : – لا إله إلاّ الله.. محمّد رسول الله.. كان الجميع يردّدها هذه في رتابة، وفى آلية، ولا مبالاة غريبيْن، كان النعش يتوسّط عربة حصان، وكان الحصان ذميماً هزيلاً، ونحيلاً تعلو عنقه الكدمات، لابدّ أنّه كان حصاناً مريضاً أو عجوزاً، كان يمشي الهُوينى، ويهزّ رأسَه من أعلى إلى أسفل بدون إنقطاع، حول النعش إلتفّ جمعٌ غفير من المُشيّعين،والمقرئيين وقد إتكأوا بلا إكتراث على المَحمل وهم ينظرون إلى الغادي والرّائح مردّدين بشكلٍ آلي ومتوالٍ رتيب نفسَ الكلمة المُرَخّمة المألوفة : – لا إله إلاّ الله ..محمّد رسول الله.. كان الناظر إليهم يحار فيما إذا كانوا حقّا حزانىَ أم لا..! تابع الموكبُ طريقه في لامبالاة، ولم يلتفت أحد إلى الموكب الجنائزي، ظلّ الصيّادون في وضعهم السّابق، أصوات السّكارى لم تنقطع عن الوشوشة والعربدة، صيحات الأطفال بقيت كما كانت عليه من الصّراخ والصيّاح، نباح الكلاب لم يهدأ.. حتى الحاج علاّل لم يكفّ عن السّعال وعدم الإكتراث، كنت الوحيد المتتبّع للموكب الذي سيطر على مجامعي ، ظللتُ أرمقه بنظري برهةً حتى أصبح بعيداً عنّي، وخفّت أصوات الحشد . ثم غاب عن الأنظار. لم أفق من سباتي أو غفوتي، إلاّ عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي بلطف وهو يقول : – الأستاذ..الأستاذ.. واشْ نعانستي ولاّ ….؟ أدرتُ رأسي نحوه، فإذا به يبتسمُ لي وهو ينتظر الحساب، ولم أدرِعلى وجه التحديد هل كنتُ نائماً حقّاً، أم كنت في حالةِ غفوةٍ، أم صحوةٍ، أم منهمكاً فى أضغاث أحلامٍ، فى ذهول وذعر، إرتبكتُ قليلاً، نهضتُ من مكاني، دفعتُ له الحساب، ثمّ حيّيته وإنصرفت . في طريق العودة إلى البيت، إلتقيتُ بجموع النّساء الغفيرة العائدات من الضّريح الصّالح إلى بيوتهنّ، وعلامات الغِبطة والجَذل، والإنشراح تملأ وجوهَهنّ بالبِشْر، و الأمَل، والحُبور، بعد أن قمنَ بجميع الطقوس اللاّزمة للغاية التي قَدِمنَ من أجلها إلى هذا المكان، وكلّهنّ شوقٌ، وتطلّعٌ، وترقّبٌ،ورغبة، وإنتظارٌ لما سوف يأتي به الغدُ القريب من أخبار سارّة قد تنبئهنّ بقدوم فوارس الأحلام، وشركاء العمر، وهم يمتطون صَهوات جِيادهم المُسوّمة البيضاء..! عندئذٍ تذكّرتُ أخَواتي البنات الصّبايا الثلاث الحسيرات، الكسيرات، الكسيفات، وأسِفتُ لعدم قدومهنّ اليوم كذلك ليجرّبنَ حَظّهنّ، هنّ الأخريات مرّة أخرى من جديد، بعد أن سبق أن قَدِمْنَ إلى هذا المكان مرّاتٍ، ومرّاتٍ عديدة من قبل دون جدوى...! الآن، تذكّرتُ، وأيقنتُ أنّه عندما رَبَتَ الحاج علاّل بيده على كتفي، وصحوتُ من غفوتي خُيِّل لي أنني رأيتُ في منامي فيما يراه النائم وقت الظهيرة، أنّ الحشد الجنائزي الهائل المَهيب الذي مرّ أمامي قبل قليل، والذي ذهبَ بدون رِجعة، وإختفى عن الأنظار، لابدّ ولا جَرَمَ أنّه كان يحملُ معه داخلَ النعش كومة التقاليد البالية السّائدة، أو رزمة العوائد المتوارثة العتيقة لتُوارىَ التراب .؟! ..كانت بقايا أصداء أصواته الرّهيبة ،المُبهمة، والغامضة ما زالت تزدحمُ، وتتفاقمُ، وتتلاطمُ بداخلي في عنفٍ وزخمٍ، وتملأ أسماعي وأعماقي بنفس تلك النّبرة الحزينة، القويّة، الحادّة، المؤثّرة والمتواترة والرتيبة الرّهيبة إيّاها. *كاتب،ومترجم،وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكيّة للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.