كتب أحد الفضلاء ردا على تجربة شخصية لي مع البنوك الإسلامية غامزا في علمي وقدري مجترا لما حفظه من متون فقهية محفوظة من قبيل أنني لم أفهم المرابحة في الفقه الإسلامي مع أنني لم أقصد في مقالتي فقها ولا شرعا وإنما كان القصد عرض تجربة مريرة لي مع الفوائد الربوية التي ألبسها الكثيرون زي الإسلام ليعبروا بها عن حسن نية او سوئها إلى جيوب الناس باسم الدين. ولأنني تخرجت من جامعة عريقة مثل القرويين على يد شيوخ أفاضل مثل الحسن وجاج والمرحوم إدريس الخرشي وعزالدين المعيار والشيخ المغراوي فإن الغمز واللمز في علمي بأنني مجرد شاعر يشير إلى ثقافة التشويه التي يمتح منها أستاذ جامعة ابن زهر ولربما لم يتجشم قراءة أبحاثي في الشريعة والفقه ولربما آنس في نفسه فقها فذهب يجتر علينا معلومات كنت أدرسها لطلابي في جامعات متعددة قبل أن أبدأ في نقد تجارب البنوك الإسلامية خدمة لديني من جهة وللحقيقة العلمية التي لم تعد مهمة لدى الإيديولوجيين أصحاب الثقافة الحزبية من الإسلاميين. رماني بالشعر ونزع عني العلم بالشريعة وحجته المتينة هي أنني طبعت دوواوين شعر؟؟؟ وكأنني بالكاتب ينزع عن الفقهاء صفة الفقه لمجرد نظمهم للشعر فما رأيه في الشافعي وابن حزم وعبد الله كنون والقرضاوي وغيرهم ؟؟ أقول للكاتب الكريم قبل المرور إلى صلب الموضوع إن الفرق بيني وبينك ليس فرقا بين إسلامي وعلماني يغمز في التجربة "البريئة" للبنوك الإسلامية ، ليس بين محب للدين وكاره له ولكن الفرق بيني وبينك هو الفرق بين المسلم المقلد والمسلم الناقد إنه الفرق بين الاجترار والمعرفة . ولست انزلك من مكان تدعيه ولكنني أصفك بما وصفت به نفسك وأنزلت به قدرك. الفرق بيني وبينك سيدي كالفرق بين الغزالي والقرضاوي فلو طلبت من الأول أن يحتل منصبا في أي هيئة شرعية لبنك إسلامي لرفض ولو طلبت من الثاني ذلك لقبل بصدر رحب مع أن الأول أستاذ الثاني ولكن فكرهما مختلف مع أنهما عالمان مسلمان فقيهان. ولو بقي الإمام العزالي حيا ليرى مآل البنوك الإسلامية لقال فيها بسبب حسه النقدي ما لم يقله مالك في الخمر. المقالة الأولى: أسس الإقتصاد الإسلامي: لا يمكن الفصل بين الدين والاقتصاد لأن الدين بوصفه حركة اجتماعية لا بد أن يفرز علاقات اقتصادية ونمطا من تبادل المنافع فللحج في الإسلام بعد اقتصادي مهم (ليشهدوا منافع لهم) وللصلاة بعدها الاجتماعي والاقتصادي وكذلك غيرهما من العبادات. أما الاقتصاد فيحتاج إلى أطار أخلاقي وضمير ديني أو إنساني ليبتعد أهل المال عن الغش والغرر والاستغلال. ولقد كاد يجمع أهل الاقتصاد والمال الآن على أن الأزمة المالية المعاصرة وخصوصا في البورصات كان سببها الحقيقي أخلاقيا (مثلا الإعلان عن أرباح خيالية من أجل الرفع من قيمة الأسهم في الوول ستريت، كما أن شركات مالية في دبي أفلست بسبب النفخ في أرقام المعاملات مما أدى إلى ارتفاع غير معقول في قيمة أسهم معينة). وإذا كان للدين بصفة عامة بعده الاقتصادي فإن للإسلام فوق ذلك نظرية متكاملة في الاقتصاد وتوزيع الثروة وإنتاجها. وإذا كان الفعل الاقتصادي قائما على نشاطين وهما إنتاج الثروة وتوزيع الثرة فإن الإسلام من خلال كتاب الله العزيز وضع للمنشطين اسسا فلسفية كبرى يكون الوفاء لهما مؤشرا على إسلامية الفعل الاقتصادي وخيانتهما انحرافا عما أراد الإسلام مهما أطلق ذلك الفعل على نفسه من أسماء والعبرة بالمعنى وليس بالإسم وليس كل من تسمى سعيدا سعيد في واقع أمره ولقد قالت الأعراب آمنا فقال لهم الله تعالى وجل لستم كذلك مهما سميتم أنفسكم. فالمهم كما قال الفقهاء هو مقصد الفعل وليس مسماه. - إنتاج الثروة: حث الإسلام على إنتاج الثروة فامر بالهجرة من أجل المال (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) كما امر بالعمل وعمارة الأرض والبحث عن المنفعة الدنيوية وجعل من فطرة الإنسان حب المراكب والنساء والمال . ولقد وضع الإسلام لإنتاج الثروة أساسا عاما وشاملا وهو: الإنتاج من أجل العمران لا من أجل التكبر والصلف والتخريب والفتنة ولهذا يمكن تلخيص نظرية إنتاج الثروة في الإسلام بانها نظرية عمرانية من جهة ومجتمعية من جهة أخرى بدليل أن الثروة العامة مثل المعادن والجمارك وصناعات الحرب لا مجال فيها للتملك الفردي. ومن عظمة الإسلام أنه حرم كنز الأموال وشنع على من يكنز الذهب والفضة ولا ينفقها في سبيل الله (وهنا سبيل الله هو العمران بصفة عامة) مما يفيد أن المجتمع الإسلامي الذي يريده الله هو مجتمع مغامر ومستثمر اقتصاديا تتحرك فيه الرساميل حركة دائمة لا يوقفها سوى شح الأنفس والخوف من الخسارة وهما أمران حث القرآن الكريم على تجاوزهما من خلال عقيدة التوكل الإيجابي وعقيدة العطاء والكرم. والجميل أن العالم الاجتماعي ماكس فيبر (والذي لم ينتقص أحد من قدره لأنه سوسيولوجي ويكتب في الاقتصاد) أشار في أطروحته الشهيرة بان العقيدة البروتستنتية المسيحية هي التي أدت إلى نشأة الرأسمالية والأمر يطول لو أردنا التفصيل في أطروحة فيبر) وكذلك الإسلام فلا نشك بانه قادر على خلق حركة إقتصادية إيجابية من خلال مبادئه وشرائعه. - توزيع الثروة: وهذا مجال نقاشنا وسنتوسع فيه بقدر المستطاع. يقوم توزيع الثروة في الإسلام على أساسين: o منع تركز الأموال في أيد معينة او ما يسمى بالانتقال الأفقي لرؤوس الأموال داخل طبقة محددة قي مقابل الانتقال العمودي لرؤوس الأموال عن طريق التوزيع العادل للمواريث وبناء المساهمة في الاقتصاد على أساس الكفاءة بدل القرابة. (وإذا حضر القسمة أولوا القربي واليتامى.....) (لكي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) o منع الاستغلال : يرى الشرع الحنيف أن أي معاملة اقتصادية فيها طرفان أحدهما لا يغامر بجزء من رأس ماله ويكون ربحه مضمونا بخلاف شريكه أو المتعامل معه فإن هذه المعاملة باطلة لأن الربح والخسارة ضمان لمنع الاستغلال ممن يملك لمن لا يملك. وقبل أن أتطرق إلى القضايا الفقهية لشرح بعض أوجه تحايل البنوك الإسلامية على الشريعة السمحة وأوجه موافقتها للإسلام فإنني أود أن أقدم قراءة جديدة للنجاح الاقتصادي الباهر للمسلمين في المدينةالمنورة اقتصاديا لكي نقيس على تجربة النبي الكريم. أليس هو القدوة المتبعة والنموذج الأمثل؟؟ الواقع الاقتصادي في المدينة قبل الهجرة: يمكن تلخيص الكيانات القبلية المهمة في المدينةالمنورة قبل هجرة النبي الكريم إليها إلى: - عرب الأوس - عرب الخزرج - يهود موالون للأوس - يهود موالون للخزرج كان النشاط الاقتصادي للعرب أوسا وخزرجا هو الزراعة أما اليهود فقد سيطروا على صناعة السلاح والذهب والحلي وكذا على بيع حصاد المزارعين من الأوس والخزرج في الأسواق المختلفة وخصوصا في سوق اليهود المعروفة آنذاك. وبسبب فائض السيولة لدى اليهود فقد كانوا يشترون المنتوج الزراعي قبل حصاده من العرب بثمن بخس ثم يعيدون المتاجرة فيه بعد قطافه. فكان دور الوساطة التجارية كافيا ليجعل من اليهود طبقة مترفة لا غنى للعرب عنها. وبعد هجرة النبي الكريم إلى المدينة كان من المهاجرين من رحل بمبالغ مالية كبيرة مثل أبي بكر وعثمان وغيرهما ممن لم تذكرهم كتب التاريخ والسير المهم أن المهاجرين توجهوا إلى المتاجرة فبدؤوا يشترون من إخوانهم من الأنصار بأسعار أكثر من أسعار اليهود ويبيعونها في سوق المسلمين بأسعار أقل من سعر اليهود ولهذا فقد توفرت في السوق الإسلامية النبوية خصال اقتصادية مهمة وهي: - الجودة : بسبب الصدق ومنع الغرر والتدليس quality - التنافسية: بسبب تخفيض الأسعار مع الحرص على الربح المعقول competitiveness - التكافل الاجتماعي : من خلال دعم التجار الصغار أو التجار بدون رؤوس أموال (حالة الصحابي عبد الرحمن بن عوف) social cooperation - الإطار الأخلاقي: الأمن للقبائل والأفراد داخل السوق – الصدق – المرونة في الأداء business ethics ومن هنا نخلص إلى أن أي فعل اقتصادي توفرت فيه الخصائص الأربعة المذكورة تحول إلى فعل اقتصادي ناجح ولهذا أستغرب من الأستاذ الفاضل كيف يغمض عينيه عن تجارب الناس فإذا كانت الفائدة في البنك الإسلامي أعلى من غيره فقد سقطت منه فضيلة التنافسية وهو ما سيؤدي به إلى الفشل عاجلا أم آجلا . كما أن أساس المغامرة أساس منعدم في التمويل الإسلامي (في مجال الإجارة المنتهية بالتمليك تحديدا) مما يجعل البنك رابحا في كل الأحوال ولكي لا نتسرع ونقفز إلى النتائج دعونا نخصص المقالة المقبلة لبعض المفاهيم الفقهية مثل المرابحة والمضاربة والمشاركة علنا نصل بالقاريء الكريم إلى ربط مباديء الشريعة بالتطبيقات المعاصرة حتى يستوي معنا على جودي المعرفة ويميز بالعلم بين من ختم الله على قلبه بالتقليد ومن فتح على قلبه بالتجديد. وإلى المقالة المقبلة