لكل بلد أساطيره المؤسسة؛ والولاياتالمتحدة، رغم تاريخها القصير نسبيا، لديها عدد من الأساطير المؤسسة التي ترسخت في المخيال الجمعي الأمريكي بل تجاوزت حدود البلاد الجغرافية. ومن بين أبرز هاته الأساطير ما يتعلق ب''الحلم الأمريكي'' وفكرة أن النجاح في هذا البلد، الذي بني بسواعد المهاجرين، سيكون حليف كل قادم إليه أو مقيم فيه، وأنه بالكد والمثابرة سيستطيع المرء تسلق مراتب السلم الاجتماعي وتحقيق أي حلم يراوده. لذلك، دأب الأمريكيون على النظر إلى بلادهم على أنها "أرض الفرص" (The land of opportunity) وهي الفكرة التي نجحوا في تصديرها للخارج، ما جعل الهجرة إلى الولاياتالمتحدة حلم الملايين من البشر عبر العالم من مختلف طبقات المجتمع. وبالإضافة إلى من يحاولون دخول التراب الأمريكي بمختلف الطرق المشروعة أملا في الحصول على وظيفة أو إتمام الدراسة، يخاطر آخرون يوميا بحياتهم عبر قوارب موت قادمة من كوبا صوب شواطئ فلوريدا، أو يقطعون أميالا من بلدانهم في أمريكا اللاتينية ويتسللون عبر الحدود مع المكسيك التي يسعى الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى إقامة جدار على طولها يوقف به زحف الحالمين بمستقبل أفضل لهم ولعائلاتهم. بيد أنه في السنوات الأخيرة بدأ البعض يسائل اليقينيات المرتبطة بالحلم الأمريكي الذي اتضح أنه لا يسع الكل بالضرورة، سواء من أبناء البلد أو المهاجرين إليه، خاصة من أصحاب الشهادات الجامعية من خارج الولاياتالمتحدة، حيث يجد هؤلاء وهؤلاء صعوبة في الحصول على فرص عيش أفضل. البدء من الصفر لا يراود حلم الهجرة إلى أمريكا من هم يعيشون بالضرورة صعوبات في الحياة في بلدانهم الأصلية. كثيرون ممن لديهم مسيرة مهنية ناجحة نسبيا، من مختلف أقطار المعمور ومن مجالات مختلفة من بينها العلوم والرياضة والفن، يرون أن النجاح في أمريكا لا يضاهيه نجاح في أي بقعة في الأرض. عدد من المهاجرين إلى الولاياتالمتحدة هم حاملو شهادات جامعية، مهندسون وأطباء وأساتذة وأصحاب مهن أخرى شتى، حملوا معهم أحلامهم وانتقلوا إلى بلاد العم سام طمعا في تطوير مسيرتهم المهنية. بيد أن أول وأكبر عائق يصطدم به هؤلاء هو كون سوق الشغل الأمريكية لا تعير أهمية للشهادات الجامعية خارج حدود البلد، ما يضع هؤلاء الأطر في مأزق ويدفعهم صوب نفس المهن التي يقبل عليها خريجو الثانويات، وهي مهن تتطلب بالأساس مجهودا عضليا ويتقاضى أصحابها عادة الحد الأدنى من الأجور. عدد من المقالات في صحف أمريكية تناولت هذه الحالة التي يطلق عليها "إهدار الأدمغة" (Brain Waste). صحيفة Chicago Tribune ذكرت في مقال لها نشر عام 2017 أن ولاية إلينوي بها 340 ألف مهاجر ما فوق سن 25 سنة من الحاصلين على شهادة جامعية، ربعهم عاطلون عن العمل أو يشتغلون في مهن تصنف على أنها لا تتطلب سوى مهارات بسيطة. وعرضت الصحيفة نماذج لمثل هؤلاء المهاجرين حيث نجد من بينهم رافل، وهو دكتور عراقي أمضى خمس سنوات وهو يقدم طلبات ليتم قبوله كطبيب مقيم في الولاياتالمتحدة دون نتيجة، رغم أنه مارس الطب في بلاده لمدة تسع سنوات. أما خوليو، الذي كان إطارا بنكيا في بلده غواتيمالا، حيث شغل مناصب مسؤولية في مؤسسات عدة، فقد تحول إلى عامل نظافة بمطار "أوهاير" بمدينة شيكاغو. بدورها تحولت ألكسندرا، الطبيبة النفسانية الألبانية، إلى مستخدمة في محل للأطعمة. بعض الخريجين من دول أكثر تقدما كان وضع بعضهم أفضل وإن لم يكن كما كانوا يتوقعون. صحيفة The Inquirer عرضت حالة يوجينيا، الحاصلة على ماستر في إدارة الأعمال من جامعة بن غوريون في إسرائيل. يوجينيا لم تتوفق سوى في الحصول على وظيفة محاسبة في كلية بفيلاديلفيا. وظيفة لا تتناسب وطموحاتها. الشابة الإسرائيلية قالت إنها شهادتها لا تعني شيئا للمشغل الأمريكي. باحثون في موضوع الهجرة يتفقون مع ما ذهبت إليه يوجينيا، حيث أكدوا أن المشغل الأمريكي لا يحب أخذ المجازفة وأن عددا من مسؤولي المؤسسات والشركات ليس لديهم دراية حول كيفية تقييم هذه الشهادات ومدى جودة التعليم الذي تلقاه أصحابها، لذلك فهم يفضلون التغاضي عن منح هؤلاء المترشحين فرصة لإظهار ما في جعبتهم. وتقول الصحيفة إن الأشخاص من حاملي الشهادات خارج الولايات معرضون بنسبة تصل إلى الضعف لأن يشتغلوا في مهن أقل من مستوى تعليمهم مقارنة بأولئك الحاصلين على شواهد من جامعات أمريكية. "إهدار الأدمغة" هذا له كلفة باهظة، كما تؤكد ذلك Chicago Tribune، حيث يفوت هؤلاء الأشخاص مداخيل بقيمة 39.4 مليار دولار في حين تخسر الدولة 10 ملايير دولار من العائدات الضريبية. هذه العودة إلى مربع الصفر تضع هؤلاء الأطر أمام خيارين: إما العودة إلى مقاعد الدراسة الجامعية للحصول على شهادة أمريكية أو رؤية أحلامهم تتلاشى وهم يقضون سنوات في مهن دون سقف تطلعاتهم. حلم لا يشمل الجميع في عام 2017 خلص بحث لمجلة Science إلى أن الحلم الأمريكي صار صعب التحقق أكثر من أي وقت مضى. وقالت المجلة إنه وإن اختلف تعريف الحلم الأمريكي حسب الأجيال، لكن الخيط الرابط بين تصور كل جيل لهذا الحلم هو أن الأبناء "يتوقعون أن يقوموا بأفضل- أو على الأقل أن تكون لهم الفرصة ليقوموا بأفضل مما قام به آباءهم". ووجدت الدراسة أن نسبة الأبناء الذين يحصلون على مدخول أفضل من آبائهم تقلصت من 90 بالمئة إلى 50 بالمئة. في الآن ذاته ارتفعت مداخيل الطبقة المترفة جدا في البلاد، والتي تشكل نسبة 1 بالمئة من السكان، ثلاثة أضعاف. أما مداخيل الطبقة الوسطى، حسب موقع Vox، فقد تجمدت على مدى أربعة عقود. تسليط الضوء على حقيقة الحلم الأمريكي وكون أنه لا يشمل الجميع يكشف أن الترقي الاجتماعي صار أصعب فأصعب بالنسبة لأبناء العائلات الفقيرة والأسر التي تعاني من عدم الاستقرار والمناطق التي تسود فيها تفرقة على أساس العرق، والتي تكون مرآة لفوارق اجتماعية سائدة. ويقر الكاتب كونور وليامز في مقال له بصحيفة The Guardian بأن مطاردة الحلم الأمريكي صار أصعب بالنسبة للجيل الحالي وأن المقولة المتوارثة عن أنه يكفي المرء أن يعمل بكد ويتبع القواعد المعمول بها لكي ينعم بكل الامتيازات التي توفرها له عضوية الطبقة الوسطى في أمريكا باتت غير صحيحة. مثل هذه الامتيازات، كالحصول على منزل، صار أمرا يصعب الوصول إليه بالنسبة للبعض. "أصبحنا غارقين في ديون الدراسة، وتكاليف الجامعة لأبنائنا من المتوقع أن تصبح أغلى من تكاليف تمدرسنا نحن. المنازل القريبة من مناصب الشغل ذات الأجور الجيدة مرتفعة للغاية. تكاليف التغطية الصحية باتت غير واضحة. صار لدينا فرص أقل للحصول على تقاعد عن العمل وبرامج التقاعد المدعمة من طرف الحكومة ستتقلص إن لم ستصبح منعدمة"، يكتب وليامز". الكاتب يتفق مع آخرين في كون فرص الترقي الاجتماعي في الماضي كانت حاضرة بصورة أكبر في ظل انخفاض كلفة الدراسة الجامعية والسكن، في حين كانت الفرص الاقتصادية موزعة بطريقة أكثر عدلا بين المناطق والمدن، أما اليوم فقد صارت الفرص ممركزة أكثر في المدن الرئيسية. وليامز عرض نماذج من هواجسه المادية، حيث أكد أنه وزوجته سيشرعان في دفع تكاليف دراسة أبنائهما الجامعية حتى قبل أن يسدد ديون دراسته بكاملها، وأنه كان يشتغل ثلاثة وظائف ثانوية بالإضافة إلى عمله الرئيسي في مؤسسة للأبحاث. معاناة الكاتب للبقاء ضمن دائرة الطبقة الوسطى لا شك وأنه يمكن أن يعطي نظرة حول ما قد يعانيه من هم يشتغلون في مهن أقل دخلا، ومنهم أيضا من يعمل في مهنتين أو ثلاث، للحفاظ على وضعه المعيشي، على علاته، كما هو. أما حلم تسلق السلم الاجتماعي الأمريكي فلا شك أنه بات، أكثر فأكثر، حلما بعيد المنال.