المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نموذجا.. في مرحلة التحول الديمقراطي، وحيث إن "المواطنة" أضحت اليوم أحد أسس الدولة الحديثة؛ تحتاج هذه الأخيرة في عملها إلى "عقد اجتماعي"، يكون بمثابة ميثاق وطني بين السلطة والمجتمع، يحدد بدقة الحقوق والواجبات؛ المصالح والمسؤوليات، حتى يستطيع كل المتدخلين، رسميين ومدنيين، تكييف مبادئهم وكفاءاتهم مع طبيعة مهامهم ومسؤولياتهم؛ وذلك بهدف بناء مجتمع الحق والواجب؛ مجتمع الفاعلين والمسؤولين؛ فأن تكون مواطنا حقا، معناه أن تمتلك حس المواطنة، وأن تحيى على السلوك المدني الإيجابي، وأن تستشعر أهمية المسؤولية الاجتماعية وضرورة الفعل المدني، لا أن تكتفي بالتمتع بالحقوق فقط، ومن دون أي واجبات. هذه الثنائية في الأدوار وفي المسؤوليات، بين الدولة والمجتمع المدني - الذي أصبح اليوم من بين المفاهيم الأكثر تداولا، بل يكاد يكون أحد أهم المصطلحات في المعجم السياسي، عالميا، عربيا ومغربيا، من حيث كثافة الاستعمال- غالبا ما تكون معقدة، وغير واضحة، وخاضعة في الكثير من الأحيان للتفاوض، ولموازين القوى ولمجموعات الضغط السائدة في وقت من الأوقات، إذ تختلف العلاقة بين الطرفين (الدولة والمجتمع المدني) في مرحلة انتقال ديمقراطي عنها في زمن الاستقرار السياسي الواضح؛ لكن الأكيد أن المجتمع المدني أصبح ومنذ سنوات، مقرونا بالديمقراطية، والعكس صحيح كذلك؛ فلا يمكن لأحدهما أن يتحقق ويتطور ويتقوى في غياب الآخر. هذه العلاقة التبادلية التفاعلية، الجديدة في بلادنا، بين السلطة والمجتمع المدني، ستتعزز أكثر من خلال توسيع فضاءات الحوار والتشاور، وتعزيز قيم المشاركة والمسؤولية المشتركة بين الدولة وفعاليات المجتمع، خاصة بعد إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي 2015، والتي ركزت على السند "الجمعوي" لتنفيذ عدد من المشاريع التي تجري في إطار صيغ تعاقدية؛ وهو ما مكن من فتح آفاق واعدة لتطوير وبروز مجتمع مدني فاعل ومنخرط في إدارة الشأن العام، خاصة على المستوى المحلي، حيث احتل مكانة هامة، في إطار العمل على ثلاث واجهات أساسية؛ وهي: محاربة الفقر والأمية، خاصة في الوسط القروي، ومحاربة الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي في المجال الحضري، ثم محاربة الهشاشة والتهميش. هذه البرامج الثلاثة يمكن إدراجها في ما يمكن الاصطلاح عليه بالبرنامج العمودي للمبادرة؛ وهو برنامج كما يدل على ذلك محتواه يتكامل في عناصر تدخلاته، سواء بالنسبة للوسط القروي أو المجال الحضري، وأيضا في تبنيه لمقاربة التدخل، والتي تروم في الوقت نفسه إعطاء العناية الخاصة للفئات التي تعاني من الهشاشة القصوى والتهميش. إلى جانب هذا البرنامج العمودي، أوجدت المبادرة برنامجا أفقيا، يروم بالأساس إيجاد صيغة للتدخل المتعدد الأوجه، ليس فقط بالنسبة للبرامج الثلاثة السابقة، بل باعتماد المقاربة الوطنية الشاملة؛ إذ إنه سيهم مجموع التراب الوطني، وسيشكل قناة الربط والتوجيه والتأطير والمواكبة للبرنامج العمودي. فهل الدولة مستعدة اليوم للتخلي عن جزء من سلطتها، وجعل مستقبل التنمية داخلها بيد الأفراد والمؤسسات، في ظل سياق مطبوع بتنامي وتيرة الاحتجاجات؟ وإلى أي حد استطاع دستور2011 والقوانين التنظيمية تكريس ديمقراطية تشاركية حقيقية، تؤسس لدور فعلي وملموس للمجتمع المدني، خاصة بعد أن انتقل دور هذا الأخير من الطابع الثانوي إلى الطابع التشاركي، في صناعة القرار العمومي، وطنيا وترابيا؟. في خضم التحولات السياسة والاجتماعية التي شهدها المغرب، تم إقرار دستور جديد، أقر العديد من المكتسبات الديمقراطية التي تكرس دولة القانون والمؤسسات؛ كما اعترف بالمجتمع المدني، كفاعل في مسار التنمية، بل وكشريك أساسي لمؤسسات الدولة، في اقتراح التشريعات، وإعداد المشاريع، وكذا تفعيلها وتقييمها. لقد اعتبر دستور 2011، ومنذ تصديره، "الديمقراطية التشاركية" من أهم أركان الدولة، إذ تواصل "المملكة المغربية مسيرة توطيد وتقوية مؤسسات الدولة الحديثة؛ مرتكزاتها المشاركة والتعددية والحكامة الجيدة، وإرساء مجتمع متضامن".. وفي الفصل الأول منه، جعلها – أي الديمقراطية التشاركية - إحدى أسس النظام الدستوري للمملكة، والذي يقوم "على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية، وعلى مبادئ الحكامة الجيدة، وربط المسؤولية بالمحاسبة". وفي محاولة لتفسير هذه المبادئ، حثت الفقرة الثانية من الفصل السادس السلطات العمومية على "العمل على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية"؛ وهو ما يعكس بوضوح رغبة المشرع الدستوري في تجاوز احتكار الدولة لدور الفاعل الوحيد في رسم السياسات العمومية، وذلك باعتماد مقاربة تشاركية، غايتها الاستماع لأصوات المواطنات والمواطنين، والانفتاح على كافة فعاليات المجتمع المدني.