بعد الصعود المدوي للإسلاميين في عدة دول عربية ضمن ما سمي بإفرازات الربيع العربي، انهالت عليهم الأسئلة تترى وووجهوا بسيل عارم من الإشتشكالات المتفهمة و المصنطعة التي ربما كانوا يحسبون أنفسهم قد حسموا تنظيراتهم حولها، أو على الأقل قدموا فيها إجابات افتراضية عن أسئلة بدورها افتراضية، وذلك من قبيل: إذا صعدتم إلى سدة الحكم، هل ستطبقون الشريعة؟ هل ستفرضون الحجاب على النساء؟ هل ستمنعون الخمور؟ هل ستقطعون الأيدي؟ وتجلدون الناس في الطرقات؟ هل ستمنعون الفنون وتقمعون الإبداع؟ هل ستغلقون المسارح والسينمات؟ وتكتفون بقتال الناس لجمع الزكوات؟ وإذا ركبتم موجة الديمقراطيات، هل ستعيدوننا إلى عهود المماليك وأزمنة الديكتاتوريات؟ والغريب أن الإسلاميين – على الأقل المعتدلين المتنورين منهم- قد بُحّت أصواتهم منذ عقود في الإجابة عن أمثال هذه الأسئلة التي أقل ما يقال عن بعضها أنها ساذجة، ذلك أن رواد الفكر الإسلامي السابقين والمعاصرين من أمثال محمد عمارة وسليم العوا شرقا، وراشد الغنوشى ومحمد يتيم غربا ما فتئوا يؤصلون لإجابات عن قضايا كهذه، بل عن اشكالات أعقد من ذلك بكثير، من قبيل العلاقة بين الشورى والديمقراطية... قضية الأغلبية والأقلية...قضايا الأقليات في الغرب... والذي يبدو أن الإسلاميين المغاربة لم يكونوا مقنعين بما فيه الكفاية لخصومهم والمتربصين بهم وحتى للجاهلين بتطور أفكارهم (كبعض المتفرنسين الذين يشمئزون من كل ما كتب بالعربية) – وهو ماليس عليه الأمر عند إخواننا الإسلاميين التوانسة الذين دخلوا في حوارات مبكرة مع خصومهم و طوروا أفكارا مشتركة ساهمت فيها حالة الانسداد السياسي التي كانوا جميعا ضحايا متضامنين لها، مما سهل عليهم غداة انتخابات مجلسهم التأسيسي لملمة تحالف قوي والدخول مباشرة في طور إنشاء دولة مؤسسات قائمة على مبادئ كالتوافق، الشراكة، شرعية الصناديق، الانتقال والتداول على السلطة.. – فنظام التحكم الذكي الذي فرضه النظام المغربي عبر سنين لا يسمح بحالات من التوهج كهذه، وكان دائما نزاعا إلى سحب البساط من تحت أرجل الجميع حتى لا يكون إلا هو، ولا تكون إلا انجازاته، حداثته، وتقليدانيته... ويمكن أن نعرض لبعض الأطروحات التي قال بها الإسلاميون عموما فيما يتعلق بالقضية الأشمل التي تطرح دائما ألا وهي قضية تطبيق الشريعة، وذلك من خلال ثلاث نقاط هي: المقصود بتطبيق الشريعة، قضية التدرج، ومسألة المصلحة والمفسدة. المقصود بتطبيق الشريعة: اللبس الحاصل في مسألة التعاطي مع شعار تطبيق الشريعة عند فئة غير هينة من المخالفين للإسلاميين كان دائما مقترنا بالحمولة التي تركزت في أذهانهم حول مفهوم الشريعة، إذ كان وما يزال مرتبطا عندهم بمسألة الحدود خاصة منها قطع اليد، الجلد، وغيرها من بعض العقوبات التي جاء بها الفقه الإسلامي، والحاصل أن المنظرين الإسلاميين أجابوا مرارا عن هذه القضية، ابتداء من الشيخ يوسف القرضاوي، مرورا بالشيخ أحمد الريسوني، بل حتى ليس انتهاء عند شيخ سلفي مراجع لآرائه كالشيخ الفيزازي، حيث قالوا ويقولون ما مفاده: آ عباد الله، لم يقل عالم قط أن الشريعة هي الحدود، بل إن هذه الأخيرة - أي الحدود - ليست إلا جزءا يسيرا جدا من الشريعة وفيها كلام طويل، ذلك أن الشريعة هي العدالة، بما تعنيه الكلمة من فحوى سياسي حيث العدالة هي الشورى كمبدأ عقدي، والديمقراطية كآليات اجتهادية انسانية نسبية دائمة التطور لا محيد عنها لتنزيل الشورى أو قل - إن شئت – لتنظيم مؤسسات الدولة و تدبير الاختلاف والتداول على السلطة؛ وهي أيضا العدالة بما تعنيه الكلمة من مضمون اجتماعي يحيل إلى العدل في اقتسام الثروات، وما يوازيه من مساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، ومساواة بين شتى قطاعات وشرائح المجتمع على أساس من التوازن وتكافؤ الفرص..و هي كذلك العدالة بالمعنى القضائي حيث كل المواطنين سواسية أمام قضاء مستقل كل الاستقلال، في ظل جو من الحريات العامة الفسيحة وسيادة القانون على الجميع، بمن فيهم الماسكون بزمام السلطة و علماء الشريعة أنفسهم. والشريعة هي العمران، والتقدم والمدنية، هي ازدهار العلوم، الفنون، هي التعليم أولا، والتعليم أخيرا، هي التنمية بما تعنيه من شقيها الاقتصادي والإنساني، أليست الشريعة هي خدمة الناس، قضاء حوائجحهم، القضاء على عوزهم، على جهلهم، أليست هي تعبيد طرقهم وإنشاء مدارسهم، جامعاتهم، مصانعهم ومستشفياتهم المتطورة؟ أليست هي الخضرة والحدائق والبساتين؟ فإن لم تكن الشريعة هي مزيج بهيج من كل ذلك، فما ذا تكون؟ قضية التدرج: يصر المنظرون الإسلاميون على أن رؤيتهم للشريعة وتطبيقها خاصة في بعض جوانبها التي باتت غريبة أو مستبعدة في مجتمعاتهم لا يتأتى تنزيلها وتطبيقها بالضرورة على الفور في حال وصول تنظيماتهم إلى السلطة، ذلك أن الأمر لا يتعلق بتاتا هاهنا بمجرد مناورة لتأجيل إعادة فرض أمور قروسطية في مجتمعات شبه حديثة باتت تعدها متخلفة أو مستنكرة، بل إنهم يعتبرون ذلك ضمن منهجية معلنة تعتمد مبدأ التدرج الذي ما فتئوا يبشرون به في كل المحافل، فيعزون ذلك من جهة، إلى أن هنالك أولويات تفرض نفسها بإلحاحية قصوى لا تدع لهم مجالا واسعا للاشتغال على ما يخالفهم فيه باقي الفرقاء مادامت تلك الأولويات محل اتفاق بين الجميع( كالعدل، التعليم، الصحة، التشغيل، محاربة الفقر، وقضايا التنمية...)، ومن جهة أخرى يطمئنون مجتمعاتهم أنهم لن ينزعوا إلى اتجاهات لفرض بعض مسارات الخصوصيات "الإسلامية" دون الانخراط المسبق والممنهج في حملات وبرامج من التوعية المنظمة عبر الوسائل المشكلة للرأي العام و قنوات التنشئة الاجتماعية والساسية، ومن جهة ثالثة يسعون لمزيد من بث الارتياح لدى النخب والجماهير بالقول إن ذلك إن كتب له يوما أن يكون فليس قبل أن يقوموا بتطوير الترسانات القانونية المؤطرة لتلك المجالات الشائكة عبر القنوات الشرعية التي تسمح بذلك، حتي تكون السيادة دائما للقانون. مسألة المصلحة والمفسدة: كثير من المتابعين لحقل الإسلام السياسي يعتقدون جازمين أن التيارات الإسلامية لا تتحرك إلا وفق فتاوى جاهزة من هذه المرجعية الدينية أو تلك ضمن عملية ميكانيكية تطغى عليها بصورة خاصة ثنائيات من قبيل الحق والباطل، الحلال والحرام، الطاعة والمعصية... والحال أن هذه النظرة فيها الكثير من الافتئات إن لم نقل التجني (الحُكرة بالمعنى المغربي الدارج) الذي إن دل على شيء، فإنما يدل على جهل مخز و مخيف من قبل هؤلاء المتابعين بأدبيات جزء مهم من المشهد الفكري والسياسي في الوطن العربي بات يشكل الرقم الصعب وحجر الزاوية على كل المستويات، ذلك أن المراقبين الموضوعيين لا شك أنهم يدركون أن القسم المعتدل أو المتطور ((modéré من الإسلاميين لا يَصْدُر في مواقفه السياسية عن هكذا ثقافة من البساطة والسذاجة، فمنذ الثمانينيات إن لم نقل قبل ذلك بعشرات العقود طور الفكر السياسي الإسلامي ضمن نظريات السياسة الشرعية شعارا/مفتاحا تمثل في مقولة المصلحة والمفسدة، هذا البدأ المثير للجدل الذي يؤدي الجهل بكنهه بالبعض إلى وصف مواقف الإسلاميين في كثير من الأحيان بالمتناقضة، وفي أحيان أخرى بالمنافقة، المهادنة، العميلة، المتشنجة، السمجة، المناضلة، المجاهدة...إلى غير ذلك مما لا قبل لك بعدّه أو إحصائه من النعوت المتضاربة كل حسب رؤيته وموقعه، هذا المبدأ الذي طوره الإسلاميون ضمن نظر في العلوم الشرعية عميق، و تتبع لمقاصد الشريعة حثيث، مكنهم من استنساله مولودا شرعيا لا غبار عليه مع ختم (DNA) بالأحمر القاني، وشهادات متواترة من نوع ((ISO إن شئت كذلك، فما ذاك؟ بكل بساطة، والأمر لا يحتمل قدرا هائلا من البساطة، تنطلق الحركة الإسلامية في رؤيتها التحليلية السياسية مما يسمى داخل الأدبيات الإسلامية بفقه الموازنات أو فقه الأولويات، وهي طريقة للنظر في القضايا التي يعج بها الواقع، ذلك أن اتخاذ المواقف والسير على الاختيارات يُستبق دائما عندها بنظر شرعي وموازنة بين الإيجابيات (المصالح) والسلبيات (المفاسد)، في نسق يمكن أن ننعته بالبراكماتية الإسلامية المحكومة بخلفيات "السياسة الشرعية"، ف [ العمل السياسي مجال ترجيح الراجح من المصالح والمفاسد المتعارضة: وهي قاعدة جليلة منها انطلق ابن تيمية لمناقشة القضية المعروضة وبسط الرأي الشرعي فيها. يقول رحمه الله وهو يتحدث عن الواجب في الولايات: (فالواجب إنما هو الأرضى من الموجود، والغالب أنه لا يوجد كامل، فيُفعل خير الخيرين ويُدفع شر الشرين)] 1 [ فالقواعد الشرعية تقرر أن دفع المفاسد مقدم على جلب المنافع، وأنه لا يجوز دفع مفسدة بجلب مفسدة أعظم، أو جلب منفعة بتفويت منفعة أعظم منها، كما أنها تقرر جواز بل وجوب السكوت عن المنكر مخافة وقوع منكر أكبر منه احتمالا لأهون الشرين وارتكابا لأخف الضررين.]2، [فإذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمنا لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فيُنظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من الفاسد أكثر لم يكن مأمورا به، بل يكون محرما إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.]3. نفهم من ذلك، أن العمل الإسلامي عموما، والسياسي منه على وجه الخصوص هو مجال للنظر ولتداول الرأي وتمحيص الأمور ضمن مرجعية فكرية محددة القواعد من جهة، وتسمح بهامش كبير من الاجتهاد الإنساني من جهة ثانية، مما يجعل مخرجات الفاعل الإسلامي تتسم لا محالة بالنسبية والتعددية والقابلية للتطور مثله مثل باقي الفاعلين. فهلا فقهتم؟ * مجاز في العلوم السياسية مهتم بالحركة الإسلامية. [email protected] 1- د.سعد الدين العثماني: المشاركة السياسية في فقه شيخ الإسلام ابن تيمية. سلسلة الحوار29. منشورات الفرقان.ص 12. 2- محمد يتيم: العمل الإسلامي والاختيار الحضاري. منشورات حركة الإصلاح والتجديد. الطبعة الرابعة. ص 59-60. 3- نفسه.