في منتصف ثمانينات القرن الماضي، تَمَّ بمقرّ المجلس القومي للثقافة العربية بالرّباط تنظيم ندوة حول "إشكالية التعليم في الوطن العربي: واقع وآفاق"، شارك فيها نخبة من الجامعيين والمفكرين من ذوي الاختصاص. وإذا كنت أعود إلى تلك الندوة اليوم، فليس فقط لأنّ الإشكاليّات التي طرحها أولئك الأفاضل وتناولوها بكلّ عمق لمّا تزل قائمة حتى الآن، بل لأنّها باتت موضوعًا يخوض فيه الأراذل بكل ضحالة، ويأتيه الرُّوَيْبِضَة من كل فجّ عقيم. الدكتور محمد جسوس، السوسيولوجي المغربي المعروف، كان حاضرًا، ومداخلته كانت من أقوى لحظات الندوة تلك، فهي تلخّص واقع الحال، هنا وهناك، الآن وآنذاك... وسوف أسوق منها فقط الجزءَ الذي يشي بالكلّ: " ...ويمكن أن ألخّص المسألة التعليمية عن طريق قصة، طالما ذكرتها للطلبة. وهذه القصة تتعلّق بملك الحبشة في المنتصف الثاني من القرن 19، كان اسمه، حسب ما أتذكر كاميهاميها الثاني. وقد عُرف خاصّة باجتهاداته في مجال الإصلاح والتحديث والانفتاح على الحضارة المعاصرة له على غرار محمد علي في مصر. ويقال إنّ هذا الملك سمع يومًا أنّ هناك اختراعًا أمريكيًّا جديدًا يتعلق بتقنين طرق إعدام البشر. وهذا الاختراع هو الكرسي الكهربائي باعتباره طريقة نظيفة، سريعة ومضمونة لتحقيق غاية تنفيذ عقوبات إعدامية. فأمر وزراءه باقتناء ثلاثة كراس كهربائية، كيفما كان الثمن وكيفما كانت الظروف. وفي يوم من الأيام أخبره وزراؤه بوصول الكراسي الكهربائية الثلاثة. فذهب الملك بكل زبانيّته وأتباعه إلى الميناء لاستقبال هذه الكراسي. وعندما تَمَّ إنزالها من السفينة طلب ملك الحبشة بأن يقع هنا اختبار مباشر أمامه وأمام الجميع بإعدام شخص ما. وهنا لاحظ ارتباكًا كبيرًا في أوساط أتباعه ومساعديه. وعندما سأل عن أسباب الارتباك، أجابه وزيره الأول: لأنّنا لا نتوفّر على كهرباء يا صاحب الجلالة. وهكذا وجدت الحبشة نفسها تمتلك ثلاثة كراس كهربائية كانت مصنوعة لإعدام البشر في ظروف معيّنة وحسب شروط معيّنة، غير أن غياب الكهرباء جعل هذا النّقل للتكنولوجيا أو للمعارف أو لغيرها، في غير محلّه، وغير قابل للتطبيق. ولكي لا يقال بأن ملك الحبشة قد استعمل موارد عمومية في أهداف لم تعط أية مردوديّة، أمر أن يتمّ تحويل أحد تلك الكراسي الكهربائية إلى عرش من عروشه. ومن ذلك الوقت وهو يجلس من حين إلى آخر على أحد الكراسي التي كانت، في الأصل، كرسيًّا كهربائيًا للإعدام وأصبح أحد عروش ملك الملوك. أعتقد أن إشكالية التعليم في الوطن العربي في جزء كبير منها، تشبه إلى حدّ كبير مسألة الكرسي الكهربائي. بمعنى أنّنا أمام نُظم تعليمية مقتبسة، في جوهرها، من خارج كياننا وحضارتنا.على اعتبار أن هذه النُّظم التعليمية صاحبت إمّا عملية استعمار ونفوذ رأسمالي، أو انتشار المد الامبريالي..." معضلة التعليم في المغرب هي هذا الهوس باستيراد كل ما هو غربي دون الأخذ بعين الاعتبار مدى نضجه وملاءمة شروطه... فكما كان مُبكِيًّا سعي ملك الحبشة إلى تحديث الموت بالكرسي الكهربائي عوض حرصه على تحديث حياة شعبه أوّلًا بتزويد البلاد بالكهرباء، كان مُضحكًا منظر وزير عندنا يتحدّث في قناة وطنية عن تعميم الطّابليت في المدارس، فيما قناة أخرى تبثّ برنامجًا خاصًّا عن الإحاشة، إحاشة الخنزير البرّي الذي يعترض سُبُل التلاميذ إلى المدارس. ولعلّ من المفارقات العجيبة أن رسب ذلك الوزير، لاحقًا، في امتحان المنارة بميزة سخط ملكّي، بينما الخنزير وأضرابه البشريّة ما زالوا يسدّون كلّ مسلك إلى المستقبل. أحفاد ملك الحبشة، الذين لم تلدهم حبشيّة، بيننا بالذّات والصّفات، مثلما بيننا أحفاد بِطانته التي لم تجهر بعدم صلاحيّة الكرسي الكهربائي إلّا بعد فوات الأوان... ونخشى ما نخشاه أن يكون تعليمنا، المكهربُ أصلًا، يُساق إلى إعدام نظيف. (التّخبّط) يعاني التعليم في المغرب الآن من كلّ ما يمكن أن يعاني منه: نقص الأطر، الاكتظاظ، الاحتجاجات المتواصلة، اختلاسات غير مسبوقة، مناهج باليّة، نزيف التقاعد المبكّر، تكوين غير كاف، تجهيزات متهالكة... ومع ذلك فهو في صحّة جيّدة، حتّى أنه يحتضر فقط. أمّا الأطباء من حوله، فهم في غاية السوريالية، فعوض أن يسعفوه بالأمصال، ويدلّكوا عضلة قلبه، ويمدّوه بما يضمن النبض للجسد... فإنهم يتناقشون (عفوًا، يتوافقون) بحدّة وبأصوات مرتفعة حول اللغة التي سيعلنون بها وفاته، وكأن هذه اللغة ستدخله الجنة، فيما تلك ستزجّ به في النار. هكذا منّت علينا الحياة مرّة أخرى برؤية "انتهى الكلام" وهو يعود إلى الكلام، ورؤية من دخل الملعب في الوقت بدل الضائع وهو يعطي التعليمات لباقي الفريق بصفته عميدًا في المباراة القادمة... مثلما منّت علينا بفهمٍ عميقٍ لمعنى لغة الخشب: فكلّهم على باب طروادة، وليس أنسب لحصانها من اللغة. كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحد أئمة هذه الفرق الكلامية، ويفتي أمامنا حول لغة التدريس، ولماذا هذه اللغة وليس تلك، وأيّها يرطّب الشعر وأيّها مُزيلٌ للقشرة، وما المقصود باللغات الأجنبية، ومن سيدرّس بها، هل المتعاقدون الذين لا يعرفون بأيّ لغة يُلملِمون كرامتهم من الشارع أم متعاقدون أجانب، وهل سنعود إلى الفرنسيين والبلاجكة أم سنكتفي باليد المُدَرِّسَة الرخيصة من بلغاريا والرومان، وإذا عدنا إلى الأجانب، ألا نكون بذلك نضيّع فرص شغل على أبنائنا، وهل المجزوءة مرادف للمادة، وهل التوافق من صلب الديموقراطية... إلى غير ذلك من الأسئلة الملحّة، سوى أن أحدًا منهم لم يفعل، لا لعجز أو جهل فيهم، حاشا ومعاذ الله، وإنّما لهما معًا. كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحد المسؤولين ويقدّم للمغاربة حصيلة التعريب، فقد مرّ عليه حتى الآن أكثر من أربعين عامًا. ففي السّنة الماضيّة حصل على الباكالوريا المعرّبة الفوج الثلاثون، وبذلك فطلائع المعرّبين هم في نهاية عقدهم الخامس، وعليه فكلّ من هو دون الخمسين فهو معرّب، وهؤلاء هم الكتلة النشطة في البلاد، وكل من فوقها فهو أمّي أو على أبواب التقاعد. كنّا نتمنّى أن يطلع علينا أحدٌ ما ويطلعنا على حصيلةٍ ما، لنعرف أسباب التّراجع عن التّعريب بعد كل هذه العقود، وبعد أن استتبَّتْ له معظم ساكنة البلد. فما يعرفه الجميع هو أن عدد الأقسام التحضيرية تضاعف لأكثر من عشر مرات، وكليّات الطّب والصيدلة باتت في معظم الحواضر، والمدرسة الوطنية للعلوم التطبيقية لها فروع في أغلب المدن، والمدرسة الوطنية للاقتصاد والتسيير بدورها تغطّي معظم ربوع المملكة، ومدارس المهندسين التاريخية تتوسع وتتفرع لتستوعب أعداد المتفوّقين، إضافة إلى المدارس الفندقيّة وشعب الاقتصاد والحقوق باللغة الفرنسية، وكذا المدارس والمعاهد العليا الفرنسية التي بات تلامذتنا يَلِجونها بأعداد متزايدة... وكل طلبة هذه المعاهد والمدارس، على اختلاف تخصّصاتها، يتابعون تكوينهم العالي بالفرنسية ويتفوّقون في ذلك، حتى أن فرنسا نفسها تتهافت عليهم وتستقطبهم لكفاءتهم التي تفوق كفاءة الكثير من الفرنسيين الذين لم يدرسوا بالفرنسية فقط، بل عاشوا بها طيلة حياتهم. منذ انطلاق التّعريب، وما من بكالوريا إلّا وتطلع علينا وسائل الإعلام بالمعدّلات الخرافيّة التي يحصل عليها نجباء المدرسة العمومية... وفقط قبل الشروع في كتابة هذه الورقة، تُوِّج الفريق المغربي بالرتبة الأولى على صعيد إفريقيا في أولمبياد الرياضيات. إزاء كلّ هذا، ما هي جريرة اللغة؟ بل حتى كلمة احتضار التي بدرت منّي في مستهّل هذه الورقة، ما كان لي أن أستعملها لولا النّزيف الحادّ الذي ألمّ مؤخّرًا بالقطاع، نزيف في الرّجال، في الزمن، وفي الأموال. أمّا التخبّط، فله من التجلّيّات ما يُغني عن أيّة إشارة. ومع ذلك سوف أذكّر لعلّ الذكرى تنفع. فكيف يستقيم التّسرع في اتخاذ القرارات مع البطء في تنفيذها؟ كيف يستقيم التّذمر من الاكتظاظ مع التفريط في الوعاء العقاري للوزارة؟ كيف تستقيم الدعوة لتعريب الإدارة مع الدعوة لفَرنَسة التعليم؟ كيف يستقيم الترويج للمسالك الدّولية مع فرض فرنسا لامتحان اللغة على الحاصلين على باكالوريا (اختيار فرنسية) إن هم أرادوا الدراسة في جامعاتها ومعاهدها؟ كيف يستقيم الأسف على هجرة الأدمغة إلى هناك مع عدمه على تهميشها أو تهشيمها هنا؟ كيف يستقيم التشجيع على المغادرة الطوعية والتقاعد المبكّر، فيخسر القطاع بذلك كتلة مهمّة من مزدوجي اللغة، مع التعاقد الذي لم تضمن به الوزارة حتى وجود الأساتذة في الأقسام؟ كيف يستقيم التّباكي على تراجع مستوى التلاميذ طيلة السنة مع التّباهي في نهايتها بنِسَب النجاح في الباكالوريا وعدد الميزات المحصّل عليها؟ كيف يستقيم تأخير تشكيل حكومة لعدّة شهور مع استعجال توافق تأخّر لأيام فقط؟ (فساد العلف) تتعدّدُ معاني التربيّة ومراميها بتعدّدِ القائمين عليها: فهناك من يُربّي الدّواجن وهناك من يُربّي النّحل وهناك من يُربّي الّلحية وهناك من يُربّي الخميرة وهناك من يُربّي الخيول وهناك من يُربّي الأنعام ... ومع أنّ تربية الإنسان هي الأرقى، فإنّ بعضَ المُربّين يَحْذون حذو النماذج السيئة من غيرهم. فكما قد يُطعم هذا نحلَه سكّرًا فقط فينتج عسلًا خاليّا من نفع العسل، ويُطعم ذاك قطيعَه علفًا فاسدًا فيتكشّف صنيعُه عن جِيَفٍ حقيقيّة بعد الذبح، فإنّ المُسوخ التي تسعى في المجتمع الآن، إنّما هي فحسب نتيجة لهذا الأسلوب الخبيث في التعليف. (الأزاميل والتماثيل) ليس التعليم مهنة فحسب، بل هو فنٌّ من أرقى الفنون. فإذا كان النحّات ينحت تمثالًا خالدًا من صوّانٍ أو مرمر... فإنّ المعلّمَ ينحت تماثيل من لحمٍ ودمٍ وأحلام... وقد تخلد أكثر من أيّ صَلْدٍ. لذلك، وجب وضع الأزاميل في نفس مرتبة الأنامل. أمّا التربية فأعمق من التعليم، فهي تضيف فلسفتَها إلى فنِّه، فإذا المهنة من أنبل المهن. أقول أعمقَ، وأقصدُ أخطرَ: فعلى نفس طاولة الدّرس قد يجلس معًا، من سيصبح مهندسًا للقناطر ومن سيصبح طيّارًا ويقصف القناطر بلا هوادة. (أركَانة هلسنكي) يتمتّعُ النّظام التّعليميّ في فنلندا ببريق يُحسد عليه حتى من طرف القوى التعليمية الكبرى. لذلك فهو يُغري بالاستيراد، تمامًا كما تفعل شجرة الأركَان عندنا بسبب فوائدها الصّحيّة والتجميليّة... النظام التعليمي يتخلّق وينمو في تربة المجتمع، ويتغذّى من عمقه الثقافي والتاريخي، ويرتوي من مياهه الأرضيّة والسماويّة... لذلك، لا يمكن تصديره ولا استيراده. وحتى استنباته لا يصلح إلَّا في الجوار حيث الأرض امتداد للأرض والسماء امتداد لنفسها... يمكن لفنلندا الشقيقة أن تستورد من المغرب أشجارَ الأركَان، وأن تأخذ معها كهديّة بضعةَ أطنانٍ من التراب... لكنّها لن تستطيع أبدًا أن تستورد مناخَ الجنوب المغربي. المسافة بين فنلندا والمغرب لا تُحسب بالأميال فقط، وإنما بالماء أيضًا. فهناك، في فنلندا، آلاف من البحيرات، وهنا، ما مرّ عام والمغرب ليس فيه صلاة الاستسقاء. وكما يعلم كلّ عاقلْ، فمجزوءة الماء لا تقدّر بِمُعاملْ. (رامبو وابن زنباع) لم يعش رامبو وابنُ زنباع في نفس التاريخ ولا في نفس الجغرافيا. ومع ذلك، فهما ليسا فقط زميليْن في المدرسة، بل إنّهما يدرسان في نفس المستوى بالمغرب، أقصد يُدَرَّسانِ فيه طبعًا. كانت مفاجأتي سارّة حقًّا، قبل سنوات، حين ضبطت "القارب السّكران" لآرثور رامبو وهو يترنّح على صفحة من المقرّر الدراسيّ لأحد المستويات بالثانوي. وأيّا يكن مَنْ أدْرَجه ضمن المقرّر ذاك، فهو يستحقّ شكرًا شاسعًا على حسن الاختيار وعجيب المصادفة. ذلك أنّ رامبو كتب معظم شعره الخالد، حين كان شخصًا في نفس سن التلاميذ الذين يَدْرُسونه نصًّا. ولأن تلاميذ هذا المستوى يكونون في مستهلّ ربيع العمر، فقد أكرمتهم الحياة بمن أسعفته فصاحته ودلّته حصافته، فزيّن مقرّرهم للغة العربية بقصيدة عن الربيع لابن زنباع. ولنا أن نتخيّل مصادفةً أغرب: أن يتناول التلاميذ رامبو قبل الاستراحة وابن زنباع بعدها، مثلما لنا أن نتصوّر بأيّ انطباع سيخرج هؤلاء اليافعون عن الأدبين وعن اللغتين. لقد كنتُ في سنّ هؤلاء، وأعرف متطلّباتهم جيّدًا. لذلك، لو كان بيدي، لما تركتهم يغادرون "القارب السّكران" قبل أن أمدّهم بكأسٍ لا تنضب ولا تتهشّم، وبقطعة حشيش رفيعة مدسوسة بين رغيفين ناصعين. فصاحب المزاج الكبير هو عمّي محمد (زوج خالتي سَنِيّة). ومع أنّه لم يعش سعيدًا، فقد يسُرّه في قبره أن يشربوا في "كأسك يا وطن" ويتناولوا ممّا خلّف من "خبز وحشيش وقمر"... فلا يغادرون أسوار المدرسة إلّا وهم في وعي يُحَصِّنهم ضد تجّار المِزاج المغشوش. (الدّيتيك، الغادِس والأُسقُربوط) حين كان معظم المغاربة يتنفّسون بمقدار، مخافة أن تُفرض عليهم ضريبة الهواء الذي كان مُشبعا بالرصاص، كانت مقرّرات أبنائهم في مادّة العلوم الطّبيعيّة تتضمّن درسًا شديد الغرابة: التّنفس عند الدّيتيك.أمّا الدّيتيك هذا، فهو صرصور مائي يتنفّس من مؤخّرته وليس من أنفه. ولقد وجد فيه مدمنو القطاني من التلاميذ نِعْمَ الشّريك في المسؤوليّة عمّا يحدث للأوزون. وحين كان معظم المغاربة يأكلون سيخَ كبدٍ مرّة كلّ عام (إذا لم يتمّ إلغاء عيد الأضحى)، وكانوا يحسبون أن السّردين هو السّمك حين يكون صغيرًا، فإذا كبُر صار اسمه الشّابل، كان أبناؤهم، في نفس المادّة، يدرسون أهميّة زيتِ كبدِ سمكِ الغادِسِ لنموّهم. ومع أن هؤلاء التلاميذ كانوا يشترون أقراص صداع الرأس من عند البقّال، فلم يرحمهم أحد، إذ كان لا بدّ للدّرس من أن يشير إلى أنّ الزيت ذاك متوفّر في الصيدليّات، صيدليّات فرنسا طبعًا. وحين كانت المرأة المغربية تلد دزينة، تُرضع منهم تسعة، ويعيش منهم ستّة، فتكون بذلك قد دفعت، مقابل تحديد النّسل القسريّ، خمسين بالمائة من لحمها إلى وكلاء الموت المعتمدين آنذاك، من جُدَريّ وبوحَمَرون وتيفوس وغيرها من الأمراض المخجلة، كان أبناؤها، إذا ما استطاعت إلى المدرسة سبيلًا، يدرسون عن أمراض قارّات وأزمنة أخرى، كالبِري بِري والكُساح والأُسْقُرْبوط... وهي أمراض لا تعني المغاربة في شيء لغنى البلد بالحبوب والبقوليّات والحوامض والشّمس. هذه الدُّرَرُ، التي لا تُقدّر بثمن، وكثيرٌ غيرها، تلقّيناها بالفرنسية على أيدي أساتذة فرنسيين، وتمّ الاحتفاظ بغير قليل منها بعد التّعريب تعميمًا للفائدة التي لاترجى... ولنا فقط أن نتساءل الآن: ما الفرق بين أن يتلقّى التلميذ المغربيّ دروسًا كهذه بلغة أعجميّة أو بلغة الضّاد أو بالميم حتى. (منتخب أيسلندا) لقد كان لافتًا أن يتأهّل منتخب أيسلندا، البلد الصغير جدًّا، إلى ربع نهائي أورو 2016، بعد إقصائه للمنتخب الإنجليزي بكل تاريخه ونجومه وإنجليزيّته. وكان لافتًا أن يخوض نهائيّات كأس العالم 2018 ويتعادل مع الأرجنتين، مثبتًا للعالم أن الثلج نِدٌّ حقيقيٌّ للفضّة. لكنَّ اللافتَ أكثر هو أنّ من بين أفراد هذا المنتخب خمسة أطبّاء ومخرج ومحامٍ وموسيقيّ وطيّار، أمّا المدرّب فهو طبيب أسنان. لقد اجتمعت لهؤلاء عقولُ أطرٍ عليا يسعون بها في المجتمع، وأجساد نجوم يسعون بها في الملاعب، فيخدمون، بذلك، بلدهم إن جدّوا وإن لعبوا. والفضل في ذلك يعود طبعًا إلى التعليم. يدرس الأيسلنديّون اللغة الإنجليزية كلغة عالميّة، لكنهم لا يدرسون بها، وإنما يدرسون بلغة بلدهم غير المنتشرة خارجه، وبها وصلوا إلى ما وصلوا إليه في مؤشّر السعادة. وبهاتين اللغتين يقرأ الأيسلنديّون (فَهُمْ جميعًا قرّاء)، وبلغتهم يبدعون أدبًا عالميًّا استحقوا عليه جائزة نوبل للآداب التي حازها هالدور لاكسنس سنة 1955. ولأن الاعتداد باللغة جزء من الاعتزاز بالوطن، فمن أراد من الأجانب أن يتابع دراساته العليا في جامعات أيسلندا، عليه أن يجتاز امتحان اللغة ويحصل فيه على درجة معيّنة. وللإشارة فعدد سكان أيسلندا لا يتجاوز الآن 350 ألف نسمة، وهو نفس عدد الذين شاركوا في المسيرة الخضراء قبل عقود، وقيل ساعتها إنه يمثل عدد مواليد المغرب كلّ عام. هكذا إذن، فالمغرب منذ أكثر من أربعة عقود وهو يلد أيسلندا كل سنة. ولو كان قد أحسن تربيّة واحدة منها على الأقل، لكانت تَبَرُّ به الآن، ولكان حاله أحسن من حاله. ولنا أيضًا أن نلاحظ أن عدد من يجتازون البكالوريا في المغرب كل سنة يفوق بكثير عدد سكّان أيسلندا. ولو كان المغرب قد أحسن تكوين فوج واحد منهم، لوجدنا من يمثّلنا في كأس العالم، ومن يحلّ أزمة القراءة، بل ومن يضعنا على منصّة نوبل التي اعتلتها أيسلندا قبل حصولنا على الاستقلال. الأيسلنديّون وجدوا الحلّ في لغتهم لأنهم لم يعتبروها قطّ مشكلة، أمّا نحن فقد وجدنا المشكلة في لغتنا لأنّنا لم نعتبرها قطّ حلًّا. لذلك، ستظلُّ اللغة عندنا هي المسمار والقميص المعلّق عليه، أقصد: مسمار جحا وقميص عثمان. (العمّ هوشي منه) ما من دولة في العالم عانت من قسوة وظلم القرن العشرين أكثر من الفيتنام. ولعلّ الرقم 5 ملايين الذي فقدته من أبنائها خلاله أن يُغني عن أيّة تفاصيل. لذلك، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التعليم كان أقوى سلاح في المعركة. فحتى أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كان عدد من يجيدون القراءة والكتابة لا يتعدّى 50 ألفًا من شعب قوامه 23 مليونًا. ومع مستهلّ السّتّينيات كان هنالك 600 ألف طالب في الجامعة، معظمهم درسوا في الأكواخ وتحت الأشجار وغير بعيد عن القصف المستمر. يقول وزير التعليم الفيتنامي إبّان الحرب: إنّ شعار المدارس عندنا هو تعلّم جيّدًا وعلّم جيّدًا. ولأن اللغة مقدّسة، فقد أصرّت القيادات الفيتنامية على بعثها وحمايتها لأجل فَتْنَمَةِ التعليم في كل الأسلاك. وحين طلب أساتذة الطّب مقابلة الرئيس هوشي منه وأوضحوا له صعوبة تدريس الطّب باللغة الفيتنامية... ختم الاجتماع بالقول: يُسمح لكم هذه السنة استثناءً التدريسُ بالفرنسية، على أن تتعلّموا الفيتنامية أنتم وطلبتكم، وعلى أن تجري امتحانات نهاية السنة باللغة الفيتنامية. ما من كتابٍ سماويٍّ تنزّل بالفيتنامية، والعمّ هوشي منه كان شيوعيًّا... ومع ذلك، فاللغة، لغة البلاد، كانت مقدسة. ... في آخر تصنيف دولي للتلاميذ في عمر 15 سنة على أساس الريّاضيات والعلوم، حلّت الفيتنام في الرتبة 12 مسبوقة بسنغافورة وهونغ كونغ وكوريا الجنوبية واليابان... أمّا فرنسا فقد حلّت في المرتبة 23 بينما حلّت الولايات المتّحدة في الرتبة 28. بالتعليم انتصرت الفيتنام على فرنسا وأمريكا في الحرب، وبالتعليم هاهي تفعل في السّلم: فالتعليم هو الانتصار المستمر. (رواندا السعيدة) تحتفل رواندا في أبريل 2019 بالذكرى الفضّيّة لنهاية الحرب الأهلية والإبادة الجماعيّة التي ذهب ضحيّتها حواليْ مليون شخص، ودُمِّرت خلالها معظم مرافق الدولة، وخسرت أطرُها التعليمية التي فرّ منها خارج البلد من لم يُقتل أو يُسجن... في أصل الحرب الأهلية نجد العنصرية التي أذكاها الاستعمار بين الهوتو والتوستي (لعلّها الطبعة السوداء من الظهير البربري)، من خلال تمكين هؤلاء من تعليم جيّد يؤهّلهم للمناصب الرفيعة ورغد العيش، وعزل أولئك في مدارس مدقعة تلفظهم في أتون الضنك... لقد تداوت رواندا بالذي كان هو الدّاء: التّعليم. فبعد عشرين سنة فقط على انتهاء الحرب الأهلية، أي سنة 2014، جاء في تقرير عن جودة التعليم، صادر عن اليونسكو، أن رواندا من بين أفضل ثلاث تجارب للنهوض بالتعليم في العالم. لقد غيّرت رواندا لغة التدريس تدريجيًّا من الفرنسية إلى الإنجليزية، وطهّرت مقرّراتها من كلّ ما يذكي نزعة التّفرقة... وها هي الآن تنعم بعاصمة هي أجمل مدن القارّة... خلال عشرين عامًا انتقلت رواندا من الخراب إلى الأبراج. خلال عشرين عامًا انتقلت رواندا من المجاعة إلى السعادة، وبسبب نهايتها السعيدة، قد يلتبس الأمر على المرء لاحقًا فلا يعرف هل هي جارة تنزانيا والكونغو، أم أنّها جارة فنلندا وأيسلندا. فماذا فعلنا نحن؟ لقد كنّا نتنابز بالأحزابْ. (المدرسة العامّيّة) أثارت الدعوة إلى التّدريس بالدّارجة ما أثارت بالأمس القريب، قبل أن تعود اليوم على طبق من بغرير لتفتح الشّهيّة لتناول الموضوع من جديد. ولو أنّ البغرير دخل الفصل الدّراسيَّ بالصّوت فقط، وليس بالحرف والصورة، لما كان للموضوع من تداعيّات. فالدّارجة كانت دائمًا جزءًا من الملفوظ داخل المدارس حتى في ذلك الزمن البعيد، قبل أن تستتبّ لها باقي الأجزاء منه في كل النّواحي وكل المناحي... فإذا نحن الآن على أبواب المدرسة العامّيّة التي لا تحتاج إلى تدشين. العامّيّة ليست لغة فقط، إنّها أيضًا في الريّاضيات والفيزياء والاجتماعيّات والإسلاميّات... كما في الفكر والسّلوك ونمط الحياة... فالعامّيّة هي عدم التّفريق بين الحرارة والسّخونة، بين المنحى والاتجاه، بين الوزن والكتلة، بين الأسّ والأساس، بين القوة والشّدّة، بين الحوامض والأحماض... وليس أخيرًا، بين الاستراحة والعطلة. العامّية هي اعتبار مدرّسٍ للاجتماعيات أنّ المائتيْ ألف هي المليون، فإذا عدد المشاركين في المسيرة الخضراء يقارب المليونين، فالنَّسَمَةُ عنده بخمسة أنفاس، تمامًا كما هو الرِّيَّال المغربي بخمسة سنتيمات. ومثل هذا المدرّس كمثل ذلك الصّحافيّ أو ذاك النّقابيّ الذي ما إن تتعدّى مسيرة احتجاجيّة، في تقديره الشّخصي، المائةَ ألف حتى تُعلَن مسيرة مليونيّة. والعامّيّة هي أن يضرب شخص متعلّمٌ ثمانية في ثمانية فيحصل على ستة عشر، ويضرب هذه في إثنين فيحصل على ثلاثين، معتمِدًا الجمعَ ضربًا والاحتفاظ بالفرق كما في عقيدة الخَضَّار الحِسابيّة. والعامّية هي الاعتقاد بأن قوّة المؤمن في قاعة كمال الأجسام، وبأن ما يهلكُنا إلّا الظهر... والعامّية هي أن يطلب مدير ثانوية من أستاذ مبرّز في الرياضيّات أن يصحّحَ نقطة تلميذ وهي 12,5 بجعلها 12,50 حتّى لا يُضيِّعه في 45 نقطة. والعامّية هي أن يسأل تلميذٌ في الإعدادي أستاذَه للغة العربيّة عن ذَكَر الأفعى، فيردّ عليه بالدّارجة الفُطْحى: الجرانة كتولد لحنش. العامّيّة هي أن تخرج أستاذة في رخصة ولادة، وحين تعود بعد 98 يومًا، تجد أن من عوّضها هو حارس أمن المدرسة. والعامّيّة هي تنقيط مُدَرِّسة، من طرف المسؤول الأول عن القطاع، أمام تلامذتها، ومحاكاة تدخين السّبسي تحت قبّة البرلمان، والتّطاول على رئيس دولة عظمى، أقصد أوباما باباه طبعًا. مع أن باباه هذا، لو صحّتِ الأخبار بشأنه، سيكون أحد عظماء إفريقيا. فالرجل درس طفلًا في ظلّ شجرة في كينيا، قبل أن يغادر صوب حلمه في أرض الأحلام، حيث سيدرس ابنه في ظلّ هارفارد، ويصبح رئيسًا منتخبًا لأقوى دولة في العالم. والعامّية هي إطلاق النكات على المعلّمين في المقاهي والمجالس وحتى في وسائل الإعلام في جسارة مغشوشة، فالذي يشرب حليب السِّباعِ على الكُوعَلّيم يتخثَّر جُبنًا في نفسه عند الحديث عن الكومسير والكولونيل... والعامّيّة هي أن تعرض إحدى القنوات شريطًا مغربيًّا، يمرّ فيه تلميذ في الابتدائي إلى السّبورة، يستعمل رمزًا للترتيب بشكل خاطئ، فينفحه الأستاذ حسنًا جدًّا، ويطلب منه العودة إلى مقعده. ولا أحد من شعب الجينريك نَبَّهَ، في أثناء التّصوير، إلى أنّ أحدهما ليس في محله: الرمز المستعمل أو حسن جدًّا. والعامّية هي خروج حشود من التلاميذ إلى باب البرلمان للهتاف بحياة رئيس الحكومة ورأس أمّه، وبلغةٍ يندى لها العِنّين. والعامّيّة، ليس أخيرًا، هي هذه التي عَمَّتْ وعَمَّتْ حتى هالتْ. (خارطة الطّريق المسدود) مع مطلع الألفيّة الجديدة، ولأسباب تتعلّق بوجاهة التخطيط وبعد النظر، وحتّى لا يغادر التلاميذ المدارس في وقت مبكّر من العمر، لجأت الوزارة الوصيّة إلى العمل بما كانت قد أسمته "الخريطة المدرسية". أبرز خطوط هذه الخريطة أن يقضي التلاميذ، على الأقل، تسع سنوات على مقاعد الدّرس، وأن ينجحوا بمحض اجتهادهم أو رغمًا عنهم ليفرغوا المقاعد للناجحين، بنفس الأسلوب، من المستويات الأدنى... وهكذا بدأ معدّل النجاح في العدّ العكسي: 06، 07، 08، 09، 10... إلى أن وصل إلى 03 على عهد وزير الطّابليت، وبات الرّسوب يتطلّب واسطة لا ترسب. التلاميذ الذين فُرِض عليهم النجاح، كانوا يغادرون أسوار المدرسة، بعد تسع سنوات، برصيد معرفيّ محترم يخوّل لهم تركيب أرقام الهاتف، والتفريق بين الحافلة 13 والحافلة 31... أمّا من استطاع منهم أن يواصل، فلم يكن يعدم حيلة للحصول على الباكلوريا، بعد أن باتت التكنولوجيا ومواقع التواصل فاعلًا أساسيًّا أيام الامتحانات، ليلتحق بالجامعة ويتخرّج منها كيفما اتفق. العديد مِمّن فُرِض عليهم النجاح قبل أن يُفْرَض عليهم التّعاقد، سيُفْرَض عليهم تدريس العلوم بالفرنسية... ولكم أن تتخيّلوا نهاية طريقٍ بهكذا خريطة. (العود فرانسوا) لنعترف منذ البداية بأن الإنجليزية ليست سوى أرنبِ سباقٍ في حلبة اللغات المحموم هذه الأيام، ليس فقط لأن معظم تلامذتنا لا يعرفون من الإنجليزيّ سوى ما يقيمون به الأود على مواقع التواصل الاجتماعي، وليس فحسب لأن مواردنا البشرية، على تباين مستوياتها، أعجزُ من أن تصفّق لهذا الاختيار، فأحرى أن تضطلع بتنزيله على أرض الأقسام، وليس... وإنّما فقط لأن البّوديوم محجوز بالكامل لحصان الفرنسيّة المطهّم، حتى نضبط صهيلنا على قاموس فرنسا، مثلما فعلنا بساعاتنا مع ساعتها. لكن، هل ستكون العودة إلى الفرنسية موفّقة أم ملفّقة؟ للإجابة عن هذا السّؤال، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء. فحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، كان أساتذة اللغة الفرنسية لا يدخلون الأقسام قبل الاستحمام، أقصد، قبل أن يأخذوا حمّامًا لغويًّا في فرنسا (ومثلهم كان يفعل أساتذة اللغات الأجنبية في البلدان الأصلية لتلك اللغات). وكان تلاميذ الإعدادي يدرسون سبع ساعات في مادة الريّاضيّات ومثلها في اللغة الفرنسية، وثلاث ساعات في الفيزياء ومثلها في العلوم الطّبيعيّة، إضافة إلى ساعتين للتربية البدنية التي كانت، هي الأخرى، تُجرى بالفرنسية، فيتعلّم خلالها التلميذ أسماء الحركات والأنشطة والمُعِدّات... بلغة موليير. و هذا الغلاف الزمني كان يتغيّر في الثانوي حسب الشُّعَب. وقد كانت معظم الموادّ تعرف التّفويج، مع أنّ عدد التّلاميذ في الفصول ما كان يقتضي ذلك. وأذكر أنّ حتى أساتذة المواد العلمية من الأجانب، وقد كان بعضهم يقضي فقط خدمته المدنيّة في المدرسة المغربيّة، كانوا يصحّحون الأخطاء اللغوية ويشطبون كلّ حشو في الأجوبة، ويأخذون ذلك بقلم الاعتبار عند التنقيط، عكس ما حدث مع التعريب من تساهل قسريّ مع اللغة، فإذا العدد والمعدود على وئام تام، فلا يكون هذا عكس ذاك أبدًا، وإذا المثنّى يُرفع ويُنصب ويُجرّ ويُجرجر بما حضر، سيّان الألف والياء. أمّا الغلاف الزمني فقد تقلّص إلى النّصف تقريبًا، في تناسب عكسي مع عدد التلاميذ في الفصل الذي تضاعف فعلًا. فالصّحن أصبح أفقرَ وأصغرْ، والأيادي من حوله صارت أكثرْ. ومع ذلك، هنالك مَنْ يستغرب من الأولادِ هذا الهزالْ، ويستنكر منهم الإقبالْ على وجبات البقّالْ. تقليص الغلاف الزمني كانت له تداعيّات كثيرة، لعلّ أشهرها شيوع السّاعات التّكميليّة، المعروفة خطأً بالساعات الإضافيّة. فهذه الأخيرة كانت بهذا الاسم حين كان التلميذ يأخذ كفايته من المدرسة، ويضيف إليها تحسينًا لمستواه. أمّا الآن، فالآباء يُكملون تدريس أبنائهم، ليلًا ونهارًا، من جيوبهم في ضرب مُبرّح لمجّانيّة التعليم المفترى عليها. هل سنعود إلى زمن التدريس بالفرنسية بكل ما كان عليه، من صرامة وانضباط وعقلانية ومعدّات وأغلفة زمنية غير متقشّفة... وإذا كنّا سنفعل، فكيف وبماذا وأين وبمن؟ ...في غياب دراسة جادّة وغير مُغرضة حول موضوع فَرَنْسَةِ التعليم، وبإغلاق الآذان أمام أصوات علماء اللغة وخبراء التربية وذوي الاختصاص... ستظل تصريحات سيّاسيّينا مجرّد عبارات عروضيّة تتعثّر بالزّحافات والعلل، وتُنذر بأنّ كلّ ما نحن مقبلون عليه، إنّما هو مجرّد ترجمة مشاكل التعليم إلى الفرنسية، وأقصى طموحنا ألّا تكون ترجمة رديئة. ... في أول جمعية للأمم المتحدة بعد الاستقلال، ألقى مندوب المغرب كلمته بالإنجليزية. وحين سألته الصحافة لماذا لم يفعل بالفرنسية، ردّ قائلًا: المغرب بلد مستقل والعربيّة ليست لغة رسميّة في الأممالمتحدة. فهل المغرب الآن بلد غير مستقل؟ وهل اللغة العربية فيه غير رسمية؟ وما محلّ الأمازيغيّة من الإعراب ومن الإعجام معًا؟ أليست، هي أيضًا، لغة رسمية وتستحق أكثر من غيرها أن يتمّ التّمكين لها؟ ومتى ستحظى بذلك في أفق أن يصير لها موطئ قدم في الجامعة على الأقل من خلال شعبة تُدرِّس آدابها؟ ... ليست الفرنسيّة الآن سوى قَرْمَلَةٍ في حقل اللغات. والذي يعوذ بخالته فرنسا، إنّما هو كالفرزدق إذ يعوذ بخاله، في بيت جرير الشهير. ... ومع ذلك، قد لا يتأخّر الوقت قبل أن نسمع من يُهَلِّلُ: عُدْنا، والعَوْدُ فْرَانْسْوا، نِكاية بالحصان العربي الأصيل المعروف بالعَوْد أحمد.