، رجاءً لا تقتلوها بتعريبكم المجنون لا شك أن كل من هو في عمري الستيني أو يتجاوزه، وعايش مسار المدرسة المغربية منذ الاستقلال إلى اليوم (2013)، وعاصر مختلف مراحل تطور النظام التربوي، وخبر هذا النظام عن قرب بفعل انخراطه فيه معلما ثم أستاذا فمفتشا، (لا شك) أنه يتوفر على معطيات، واقعية وتجريبية وتاريخية، تجعله يقف على حقيقة مرة، وهي أن مستوى إتقان تلاميذ ما قبل منتصف الثمانينيات من القرن الماضي للغة العربية، كان أفضل بكثير من إتقان تلاميذ ما بعد هذه الفترة لنفس اللغة. هذا الفرق، بين الفئتين من التلاميذ في مستوى التمكّن من اللغة العربية، لا يتعلق فقط بحالة التلاميذ المتفوّقين الذين توفّقوا في متابعة دراستهم حتى المستوى الثانوي التأهيلي أو الجامعي، بل هو حاضر أيضا، وبشكل لافت، لدى الذين انقطعوا عن الدراسة قبل حصولهم على شهادة التعليم الإعدادي (بروفي سابقا) بسبب ضعف مستواهم وعدم قدرتهم على مواصلة الدراسة. وهكذا نجد أن تلميذ السبعينيات من القرن الماضي، الذي توقف عن مواصلة الدراسة في المستوى الثالث من التعليم الإعدادي (يقابله المستوى التاسع في النظام الحالي) بعد رسوبه مرتين أو ثلاثا، وهو اليوم ابن الخمسين سنة أو يزيد، لا يزال يمتلك كفاءات لغوية لا بأس بها في الفرنسية والعربية وهي التي تهمنا في المقام الأول في هذه المناقشة ، تمكّنه من قراءة النصوص العربية وفهمها، مثل فهم مضمون الورقة المكتوبة بالعربية، المصاحبة لعلبة الدواء المقتنى من الصيدليات، الشارحة لطبيعة الدواء وكيفية استعماله، وفهم البيانات الخاصة بملف جبائي ومعرفة كيفية تعبئتها بطريقة سليمة، وكتابة طلب أو شكاية إلى السلطات المعنية بشكل مفهوم ومقبول، وقراءة الجرائد العربية وفهم ما تحويه من إخبار، وملء خانات الكلمات المتقاطعة بشكل ملائم وموفّق... بل قد يكتب نصا إبداعيا بالعربية، مفهوما وواضحا. أما نظير هذا التلميذ، من الفئة الثانية، فيصعب، بل قد يستحيل، عليه القيام بمثل هذه العمليات البسيطة، لأنه يفتقر إلى الكفاءة اللغوية الضرورية لذلك، كما لو كان أميا لم يسبق له أن قضى أزيد من تسع سنوات في المدرسة. وهذا ما شخّصه واعترف به "تقرير الخمسينية للتنمية البشرية"، الذي نقرأ فيه: «ومع بداية الثمانينيات، بدأت المنظومة التربوية في التراجع، لتدخل بعد ذلك، في أزمة طويلة من بين مؤشراتها: الهدر المدرسي، وعودة المنقطعين عن الدراسة إلى الأمية». هذه الحقيقة، التي تكشف لنا أن تلميذ ما قبل الثمانينيات، من القرن الماضي، كان يتقن العربية أحسن، وبمسافات كبيرة، مما يتقنها تلميذ ما بعد هذه الفترة، بقدر ما هي علامة حمراء عن التراجع المخيف في أداء النظام التعليمي المغربي، فهي كذلك علامة عن مفارقة غريبة، تكذّب كل التوقعات التي خططت لها سياسة تعريب التعليم. لماذا مفارقة غريبة؟ لأن لغة التدريس، منذ الاستقلال حتى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، كانت هي اللغة الفرنسية، ليس فقط بالنسبة للمواد العلمية، بل حتى لموادَّ أدبية، في حين أن العربية كانت تدرّس كمجرد لغة. أما بعد ثمانينيات القرن الماضي، وبعد بلوغ التعريب مستواه الجنوني المطلق، فإن العربية ستصبح هي لغة التدريس لكل المواد، أدبية وعلمية، بالتعليم الابتدائي والثانوي. المنطق يقتضي إذن أن تكون معرفة تلاميذ الفئة الثانية باللغة العربية، التي درسوها ودرسوا بها كلغة أساسية وأولى، أفضل بكثير من معرفة تلاميذ الفئة الأولى بنفس اللغة، التي درسوها كمجرد لغة ثانوية فحسب. لكن الواقع، وفي مفارقة غريبة كما قلت، يكذّب هذا النتيجة، ويقلب هذا المنطق. ففي الوقت الذي كان المنتظر، والمفترض والمنطقي، أن يجيد تلميذ ما بعد ثمانينيات القرن الماضي، بسبب تعميم التعريب الذي تقرر لصالح العربية، هذه الأخيرة أفضل من تلميذ ما قبل هذه الفترة، الذي لم يكن يدرس العربية إلا كلغة ثانوية، حصل، ضد كل التوقعات والتخطيطات، العكس. كيف نفسر هذه المفارقة؟ هي حقا مفارقة. لكن في الظاهر فقط. فالمنطق الذي تحكّم في فرض التعريب لدى أصحاب القرار، بهدف تنمية اللغة العربية كما يزعمون، هو التالي: بما أن التلاميذ يجيدون الفرنسية أفضل من العربية لأنهم يدرسون الأولى كلغة للتدريس، أي كلغة أساسية أولى عكس الثانية التي يدرسونها كمجرد لغة ثانوية وليست كلغة تدريس أساسية، فإنه يكفي إذن قلب الأدوار، للفرنسية والعربية، بجعل الأولى مجرد لغة ثانوية، والثانية لغة التدريس الأساسية، حتى يصبح تمكّن التلاميذ من العربية أفضل من تمكّنهم منها عندما كانت الفرنسية هي لغة التدريس، مما ينمّي ويعمّم استعمال اللغة العربية، ويرد لها الاعتبار ويرفع من قيمتها ومكانتها، وفقا لما تهدف إليه وتتوخاه سياسة التعريب. إذا كان هذا المنطق صحيحا، فإن ذلك ليس بالمطلق وبالنسبة لجميع اللغات. بل هو صحيح فقط بالنسبة للغات الحية التي تستعمل في التخاطب اليومي فضلا عن الاستعمال الكتابي. وهكذا سيكون هذا المنطق صحيحا بالنسبة للغة حية مثل الإسبانية، التي إذا وضعناها مكان العربية، فانتقلنا بها من لغة ثانوية إلى لغة للتدريس، فإن التلاميذ سيجيدونها أفضل مما كانوا عليه عندما كانت مجرد لغة ثانوية. لكن إذا كانت هذه اللغة هي اللاتينية، التي لا تستعمل إلا في الكتابة، وانقلنا من تدريسها كلغة ثانوية إلى استعمالها كلغة التدريس الأساسية، فإن مستوى تمكّن التلاميذ من هذه اللغة، في مرحلة استعمالها كلغة للتدريس، يكون أقل وأسوأ من تمكّنهم منها عندما كانت تدرّس كمجرد لغة ثانوية. وهذا ما حصل للغة العربية عندما أصبح التلاميذ المعرّبون لا يتقنونها كما كان يتقنها نظراؤهم الذين درسوا بالفرنسية كلغة تدريس أساسية، بجانب العربية كمجرد لغة ثانوية. فكانت، كنتيجة عكسية لسياسة التعريب التي تقررت لصالحها، هي الضحية الأولى لهذه السياسة. لقد انطلق التعريبيون من نظرة ميكانيكية وكمّية وعامّية إلى اللغة، نجدها شائعة لدى الأمّيين وغير المتعلمين. فتصرّفوا، في ما يخص تعريب التعليم، كما يفعل ذلك المريض الذي وصف له الطبيب علبة من الدواء تحتوي على 30 قرصا، يستعمل واحدا في اليوم طيلة شهر كامل. وهو ما استنتج منه هذا المريض أن مدة العلاج، إذا كانت ثلاثين يوما بمعدل قرص واحد في اليوم، فإنه يمكن تسريع وتيرة الشفاء بتقليص هذه المدة إلى ثلاثة أيام، بتناول 10 أقراص في اليوم بدل قرص واحد حسب وصفة الطبيب. النتيجة، طبعا، هي أن مرضه، عوض أن يتراجع، سيشتدّ ويتضاعف إلى أن أشرف على الهلاك الذي تسبب فيه هو نفسه. هكذا يتعامل التعريبيون مع اللغة العربية انطلاقا من تصور عامّي مبسّط وميكانيكي، كما قلت، أدى إلى تراجع مريع لمستوى معرفتها وإتقانها لدى تلامذتنا وطلبتنا، مثلما أدت الزيادة في كمية الأقراص العلاجية للمريض، الذي مثّلنا به، إلى تدهور خطير في صحته، مع أنه كان يعتقد أن في ذلك شفاءً عاجلا له. هذه الحالة من المفارقة، المكذّبة لتوقعات التعريبيين، لا يمكن فهمها إلا في ضوء اللسانيات التطبيقية وليس العامة وعلوم التربية الخاصة بتعلّم اللغات، اللتيْن تلقناننا المبادئ التالية: 1 إن التدريس بلغة الأم هو الحالة المثلى لنجاح عملية التدريس، ولتعلّم لغات أخرى بسهولة ودون مشاكل بيداغوجية تعيق هذا التعلّم. 2 أما عندما يتعذّر استعمال لغة الأم كلغة للتدريس، كما هو الشأن بالنسبة للمغرب حيث لا تزال الأمازيغية، وبِنْتُها الدارجة، لم تؤهلا لترتقيا إلى مستوى اللغة المدرسية، فإن أية لغة حية، أي تلك التي تمتلك وضع لغة الأم ببلدها الأصلي حيث تستعمل في الحياة اليومية أولا بجانب استعمالها الكتابي، تكون أفضل للتكوين الفكري والمعرفي للتلميذ، ولتعلّمه لغات أخرى جديدة، مما لو كانت لغة التدريس لغة نصف حية مثل العربية أو اللاتينية، اللتيْن أصبحت وظيفتهما مقصورتين على الاستعمال الكتابي بعد أن لم تعودا تستعملان في التخاطب اليومي. 3 تعلّم التلميذ للغات أخرى جديدة، مشروط بإتقانه مسبقا للغة أولى، والتي يحسن أن تكون هي لغة الأم. لكن في غيابها، عندما لا تكون مؤهلة بعدُ للاستعمال المدرسي، فإن تمكّن التلميذ من لغة حية كلغته المدرسية الأولى، والتي من خلالها سيتعلم لغات أخرى، هو أفضل ألف مرة لنجاح عملية التدريس، وللتكوين الفكري والمعرفي الجيد لهذا التلميذ، ولقدرته على تعلّم لغات أخرى بكل سهولة، أفضل ألف مرة مما لو كانت اللغة المدرسية الأولى لهذا التلميذ هي لغة نصف حية مثل العربية أو اللاتينية. 4 عندما تكون اللغة المدرسية الأولى للتلميذ لغة حية (تستعمل في التخاطب اليومي)، يسهل على هذا التلميذ أن يتعلّم، انطلاقا من هذه اللغة، ليس اللغات الحية فحسب، بل حتى اللغات نصف الحية، كالعربية واللاتينية، كما سبقت الإشارة، ويتمكّن من إتقانها بشكل جيد وسليم. وهذه هي حالة الفئة الأولى من التلاميذ الذين كانوا يتقنون العربية بشكل جيد عندما كانت الفرنسية هي لغة التدريس الأساسية، والعربية مجرد لغة ثانوية. 5 أما عندما يتم الانتقال، من استعمال لغة حية كلغة تدريس أساسية بجانب لغة نصف حية في دور ثانوي، إلى استعمال هذه الأخيرة كلغة تدريس أساسية وإعطاء الأولى دورا ثانويا، فإن التلميذ لن يتمكّن من إتقان تلك اللغة، نصف الحية، التي أصبحت لغة التدريس الأساسية، فضلا عن عدم تمكّنه كذلك من إتقان أية لغة أخرى، حية أو نصف حية، يتعلمها انطلاقا من لغة التدريس الأساسية التي هي لغة نصف حية، مع كل ما يتسبب فيه هذا الوضع اللغوي غير السليم من ضعف في التحصيل والتكوين، لضعف في أداة هذا التحصيل والتكوين، التي هي اللغة النصف حية. فما تنقصه الحياة لا يمكن أن ينتج الحياة، لأن فاقد الشيء لا يعطيه. هذه الحالة الأخيرة هي حالة تلميذنا، وتكويننا، وتعليمنا بعد تعريب هذا التعليم. لقد كانت إذن اللغة العربية بألف خير عندما كانت الفرنسية هي لغة التدريس الأساسية والأولى. لماذا؟ لأن لغة التدريس، الأولى والأساسية للتلميذ، كانت لغة حية وهي الفرنسية، الشيء الذي سهّل على هذا التلميذ، كما يقضي بذلك المبدأ الرابع المذكور أعلاه، تعلّم العربية وإتقانها بشكل جيد وسليم. في حين أن العكس، أي تعلّم أولا العربية كلغة للتدريس، يعيق، طبقا للمبدأ الخامس السابق، تعلّم أية لغة أخرى بشكل جيد وسليم، لأن العربية، التي بواسطتها سيتعلّم، كما يقرر المبدأ الثالث المشار إليه، تلك اللغات الأخرى، ولأنها لغة نصف حية، لا تيسّر هذا التعلم لدى التلميذ، الذي لا يتوفق، لنفس الأسباب، حتى في إتقان العربية هي نفسها بشكل جيد وسليم، وذلك وفقا لمضمون المبدأ الخامس الذي تحدثنا عنه. هذا ما يفسّر المفارقة التي انطلقنا، والمتمثلة في كون التلاميذ المعرّبين هم أقل تمكّنا من العربية من نظرائهم "المفرنسين" في الفترة السابقة عن تعميم التعريب، قبل ثمانينيات القرن الماضي عندما كانت الفرنسية هي لغة التدريس. ما يرفضه ولا يفهمه أو لا يريد أن يفهمه التعريبيون، هو أن اللغة العربية لغة نصف حية، تستعمل في الكتابة ولا تستعمل في التخاطب في الحياة. وعندما نقول بأنها لغة نصف حية، فليس تحقيرا لها أو انتقاصا منها، بل هو وصف يطابق واقعها. وكل تخطيط لتنمية اللغة العربية يقفز عن هذا الواقع، ويتعامل معها مثل اللغات الحية كالفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية أو التركية أو الفارسية أو الكورية...، يكون مصيره الفشل الأكيد، كما أثبتت ذلك أزيد من أربعة عقود من تعريب التعليم. تشخيص هذا الواقع والاعتراف به يقتضيان، إذا أردنا أن يتقن تلامذتنا اللغة العربية، كدليل على عنايتنا بها، أن لا تكون لغة تدريس في المستوى الابتدائي والثانوي. بل تكون لغة التدريس، إلى حين تأهيل لغة الأم للمغاربة التي هي الأمازيغية وبِنْتُها الدارجة، لغة حية، مثل الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية أو الألمانية... لكن، نظرا للعلاقة التي تجمعنا باللغة الفرنسية، ولاستعمالها الواسع بالمغرب، فمن الأفضل، ربحا للوقت والمال، أن تكون هي لغة التدريس الأولى والأساسية. بجانب هذه اللغة الأولى والأساسية، تكون هناك اللغة العربية كلغة يدرسها ويتعلّمها التلميذ، ولكن لا يدرس ولا يتعلّم بها. فماذا ستكون النتيجة؟ ستكون أن التلميذ سيتمكّن جيدا من اللغة العربية، التي ليست هي لغة التدريس، لأنه متمكّن مسبقا من لغة حية هي لغة التدريس الأساسية، وذلك حسب ما ينص عليه المبدأ الرابع. وهذه حالة تجريبية وواقعية نقف عليها بمجرد المقارنة، كما سبق أن رأينا، بين مستوى التمكّن الجيد من اللغة العربية لتلاميذ ما قبل ثمانينيات القرن الماضي، أي ما قبل تعميم التعريب، ومستوى التمكّن الضعيف جدا من نفس اللغة لدى تلاميذ ما بعد الثمانينيات، أي ما بعد تعميم التعريب الذي جعل من العربية لغة التدريس الأساسية. إذا كان التلميذ الذي يدرس بالفرنسية أو أية لغة حية أخرى كلغة تدريس أساسية، ويدرس العربية كمجرد لغة، يتفوق في هذه الأخيرة على التلميذ الذي يدرس بها كلغة تدريس أساسية، فذلك لأن هذه الحالة هي النتيجة الحتمية التي يفرزها ويفضي إليها واقع وطبيعة لغة نصف حية مثل العربية، التي تحتاج إلى لغة أخرى كاملة الحياة، تكون هي الداعمة لتعلّمها، والمساعِدة على إتقانها والتمكّن منها. فالعربية الحالية، العصرية، المستعملة في المدرسة وفي الكتابة، هي اليوم عربية اصطناعية، فاقدة للتلقائية والطبيعية، لأنها لغة مترجمة في مجمل الأفكار والمفاهيم المصطلحات الحديثة التي تعبّر عنها. وبالتالي فلا يمكن فهمها إلا بردّها إلى النص غير العربي الذي ترجمت منه. أي لا بد لفهمها وإتقانها من لغة أجنبية كشرط لذلك. فمن يفهم مثلا عبارات وألفاظا من قبيل: "وبالتالي"، "إذا وفقط إذا" (المستعملة في الرياضيات)، "الهشاشة الاجتماعية"، "الشبكات الاجتماعية"، "ممارسة الجنس"، "المقايسة"، "السيولة"، "المقاصّة"، "الإركاب"، "حصريا"... ما لم يردها إلى معانيها الأصلية في لغتها الأصلية الفرنسية أو الإنجليزية؟ وبالتالي، فإنه بقدر ما يكون المتعلم متمكّنا من لغة أجنبية حية، بقدر ما يسهّل عليه ذلك التمكنَ من العربية، التي أصبحت شبه ترجمة خارجية لمفاهيم ومصطلحات هذه اللغة الأجنبية. ولهذا نجد أن الذين طوّروا العربية وهذّبوها وحدثّوها، في بداية القرن العشرين، هم مسيحيو الشرق الذين كانوا يتقنون اللغات الأجنبية الحية، الفرنسية والإنجليزية. فالأفيد إذن للغة العربية، هو أن يتمكّن التلميذ أولا من لغة أجنبية حية في غياب لغة الأم تستعمل كلغة تدريس أساسية، لتساعده بعد ذلك على تعلّم وإتقان العربية، التي أصبحت تابعة في مصطلحاتها ومفاهيمها لهذه اللغة الأجنبية. فاختصار الطريق لتعلّم العربية بشكل جيد وسليم يمر إذن عبر تعلّم، مسبقا، لغة أجنبية حية تستعمل كلغة للتدريس. هذا في حالة تعذر استعمال لغة الأم كلغة لهذا التدريس. بالنظر إلى واقع وطبيعة العربية كلغة نصف حية، الحلّ المناسب لتنميتها والعناية بها دون أن تكون لذلك أية آثار سلبية على نجاعة المنظومة التربوية، وعلى جودة تكوين التلميذ، هو أن تُدرّس، وبحصص كافية ومعامل محفّز، كمجرد لغة في المستوى الابتدائي والثانوي. أما لغة التدريس، في هذين المستويين، فينبغي أن تكون لغة الأم إذا كانت جاهزة، أو لغة أجنبية من اللغات الحية كالفرنسية التي تلائم حالة المغرب، حسب ما سبق شرحه. وهذا يعني إلغاء التعريب بالمفهوم الذي مورس به، والذي كان كارثة على التعليم بالمغرب. وإذا كانت اللغة العربية، بفرضها لغة للتدريس في الابتدائي والثانوي، سببا لا يمكن إنكاره في تدنّي مستوى التلاميذ وضعف مردودية التعليم، فذلك لأنها، عندما تكون لغة للتدريس في هذين المستويين، اللذيْن ترسى فيهما لدى التلميذ أصول وقواعد التفكير، فإن طبيعة هذا التفكير ستتحدد بناء على طبيعة هذه اللغة، أي أن هذا التلميذ سيفكّر بهذه اللغة ومن خلالها. وبما أن هذه اللغة نصف حية، فإنها لن تنتج لدى هذا التلميذ إلا تفكيرا ناقصا، أي نصف تفكير، وذلك بسبب ما يجمع بين الفكر واللغة من علاقة قوية ومتداخلة إلى درجة يمكن اعتبارهما وجهين لشيء واحد. وإذا كان "تقرير الخمسينية للتنمية البشرية" قد ذكر، وهو يعدّد مؤشرات تراجع النظام التعليمي ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي، «محدودية الفكر النقدي...»، فذلك لأن تعريب التعليم أدى إلى هذه المحدودية، وذلك لأن لغة محدودة في وظائفها واستعمالاتها وحياتها، لا يمكن أن تنتج إلا تفكيرا محدودا لدى التلميذ الذي يستعمل هذه اللغة ليتعلّم بها التفكير. كل هذا يعني أن اللغة العربية قد تصلح لكل شيء إلا أن تكون لغة للتدريس في مراحل التكوين الأساسية للتلميذ، بالمستويين الابتدائي والثانوي. الخلاصة أن تمكّن المتعلمين من اللغة العربية يشترط أن تكون لغة التدريس، في الابتدائي والثانوي، غير اللغة العربية التي يتوقف إتقانها، بسبب طبيعتها كلغة نصف حية، على إتقان أولا لغة أخرى حية، أي تستعمل في التخاطب في الحياة اليومية وفي المدرسة. أما الاستمرار في فرضها كلغة للتدريس، فهو استمرار في الإساءة إليها، والحدّ من فرص إتقانها وانتشارها واستعمالها. فرِفْقا باللغة العربية أيها التعريبيون، رجاءً لا تقتلوها بتعريبكم المجنون ! تعقيب على ردود: أعرف أن تناول موضوع اللغة العربية في علاقتها بالتكوين والتعليم، في إطار هذا النوع من الطرح والتحليل، يفتح "شهية" فئة من القراء لاتهامي بالحقد على العربية، كما يلاحظ ذلك من خلال تعليقاتهم على مقالاتي، ذات العلاقة بالهوية والعربية والتعليم بصفة عامة، والمنشورة بموقع "هسبريس". مع أنه إذا كان هناك من له المصلحة في أن تكون العربية هي اللغة الأولى في العالم، فهو أنا وأمثالي ممن يتقنون هذه اللغة، لأن الرفع من مكانتها وجعلها لغة عالمية، يجعلنا نملك شيئا نفيسا وذا قيمة. فلماذا أحقد على لغة قضيت أزيد من ستين سنة في دراستها والتدريس بها، وتعلّمها وتعليمها، وقراءتها والكتابة بها؟ إن هؤلاء الذين يتهمونني بالحقد على العربية، إنما يحقدون في الحقيقة على الواقع واقع اللغة العربية الذي لا يطابق أهواءهم ورغباتهم. هناك كذلك أولئك الذين ينفون أن تكون العربية لغة نصف حية، لا تستعمل إلا في الكتابة وليس في التخاطب والتواصل الشفوي بين الناس. فيردّون بأن هذه الحالة ليست خاصة باللغة العربية، بل هي حالة عامة، تعرفها جميع اللغات كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية...، حيث نجد لغة الشارع ليست هي لغة المدرسة والصحافة. رغم أن هذا الموضوع سبق أن ناقشته في مقالات سابقة، إلا أنه يحسن تذكير هؤلاء بمضمون تلك المناقشة، وأخص منهم ذوي النية الحسنة. أقول ذوي النية الحسنة لأن الكثير من التعريبيين مجرد منافقين وانتهازيين، لا يقدّرون العربية ولا يحترمونها ولا يكنّون ودّا لها، وإنما يتاجرون بها للحصول على نصيبهم من الريع اللغوي. أصحاب هذا الردّ يخلطون بين الفرق، الموجود في جميع اللغات، بين مستوى الكتابة ومستوى الاستعمال الشفوي، وبين الفرق الموجود بين الدارجة المغربية وبين العربية الفصحى. الفرق الأول هو فرق بين مستويين لاستعمال نفس اللغة. أما الثاني فهو فرق، ليس بين مستويين لاستعمال نفس اللغة، بل فرق بين لغتين قائمتين بذاتهما ومستقلتين إحداهما عن الأخرى. ثم يكفي أن نذكّرهم أن الفرنسية التي ندرسها بالمغرب هي فرنسية مدرسية وأكاديمية، وليست هي المستعملة في الشارع الفرنسي. لكن عندما نذهب إلى فرنسا، ونتحدث، في المطعم والفندق والشارع، بالفرنسية المدرسية والأكاديمية التي تعلمناها في مدارسنا وجامعاتنا، يفهم الفرنسيون، في المطعم والفندق والشارع، ما نقول ونفهم ما يقولون. مما يعني أن لغة المدرسة ولغة الشارع لغة واحدة. اما الذين يرفضون الاعتراف بأن العربية هي أحد أسباب تراجع تعليمنا وضعف مستوى تلامذتنا، فهم ينطلقون مما هم عليه الآن، ومن أنفسهم كمجيدين للعربية التي يقرأون بها الكتب، ويكتسبون بها معارف جديدة، ويستمعون بها إلى نشرات الأخبار... صحيح أن أية لغة، مهما كانت معقدة وصعبة التعلم، فعندما نجيدها ونتملّكها، تبدو لنا لغة جميلة وسهلة وصالحة لكل الميادين. ومن هنا فهم يتساءلون مستنكرين: لماذا تكون العربية عائقا لتكوين التلاميذ مع أنهم (المتسائلون) يتقنونها ويستعملونها في قراءة الكتب وتطوير أفكارهم ومعارفهم، دون أن يشعروا أنها عائق لذلك؟ هذا قياس فاسد وخاطئ، ويعطي طبعا نتائج فاسدة وخاطئة كذلك. فالأمر لا يتعلق بصلاحية العربية وقدراتها بالنسبة لنا، بعد أن أصبحنا راشدين واستكملنا تكويننا وأنهينا مسارنا التعليمي، بل الأمر يتعلق بمدى صلاحيتها كلغة للتدريس في المستويين الأساسين للتكوين، وهما الابتدائي والثانوي. فإذا صحّ أن إتقاننا للعربية واستعمالها في قراءة الكتب واستيعاب مجموعة من المعارف والعلوم، دليل على صلاحيتها أن تكون لغة للتدريس أيضا في مراحل التكوين الأساسية بالنسبة للتلميذ، فإنه سيكون صحيحا كذلك أن إتقان اللغة اللاتينية (ويوجد الآلاف ممن يتقنونها) واستعمالها في قراءة الكتب واستيعاب مجموعة من المعارف والعلوم، هو دليل على صلاحيتها لتكون لغة للتدريس بالمستوى الابتدائي والثانوي. من الاعتراضات المتكررة على موقفنا من التعريب، باعتباره سبب تخلف نظامنا التربوي، وتفضيلنا، في انتظار تأهيل لغة الأم للمغاربة، استعمال الفرنسية كلغة للتدريس، القول بأنه لا توجد دولة حققت تقدمها ونهضتها بغير لغتها الوطنية، مع الاستشهاد بكوريا والصين واليابان وفنلندا... لو كان أصحاب هذا الاعتراض من الأميين أو من المتعلمين بمستوى متواضع، لما وقفنا عند رأيهم الذي يندرج ضمن الأفكار العامّية المنتشرة لدى هذه الفئة من المواطنين. أما أن نجد لسانيين وأساتذة جامعيين، مثل الأستاذ موسى الشامي والأستاذ فؤاد بوعلي (وليس صدفة أن الأول رئيس "الجمعية المغربية لحماية اللغة العربية"، والثاني رئيس "الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية")، يتبنون هذا الرأي العامّي ويستشهدون به للرد على من يرى أن الفرنسية أفضل من العربية كلغة للتدريس بالمغرب، فتلك مصيبة كبرى. لماذا مصيبة كبرى؟ لأن هؤلاء الأساتذة لم يدركوا، رغم بداهة المسألة، أنهم يستشهدون، للدفاع عن العربية، بما يدعم موقف خصومهم، لسبب بسيط وهو أن العربية ليست لغة وطنية إلا لدى العامّة، أو ذوي المستوى الثقافي المحدود. فاللغة الوطنية، ليست اللغة التي تقررها القرارات السياسية كلغة وطنية، بل، كما يعرّف ذلك اللسانيون، هي اللغة التي يتخاطب بها المواطنون في وطن ما. فهل يوجد بالمغرب، أو كل الدنيا، من يتخاطبون باللغة العربية؟ فتعليمنا متخلف لأن لغة التدريس بالفعل ليست لغة وطنية. كانت فرنسا قد شرعت في تدريس الأمازيغية في فترة الحماية. فلو أن "الحركة الوطنية" كانت وطنية حقا، لحافظت على هذا التدريس ونمّته وطوّرته، ولكانت لدينا، بعد مدة معقولة، لغة وطنية مؤهلة للاستعمال المدرسي وهي اللغة الأمازيغية. لكن هذه "الحركة الوطنية" لم تجد شيئا تبرهن به على "وطنيتها" إلا محاربة ما يشكل روح هذا الوطن ولبابه، وهو الأمازيغية. وإذا كنا ندعو إلى استعمال الفرنسية كلغة للتدريس، فذلك ريثما تصبح الأمازيغية ولم لا الدارجة أيضا؟ ، كلغة وطنية، مؤهلة للاستعمال المدرسي. هناك اعتراضات أخرى، متكررة كذلك في الكثير من التعليقات على مقالاتي بموقع "هسبريس"، تقول بأن سوريا فرضت العربية لغة للتدريس حتى في الشعب العلمية بجامعاتها، التي تخرّج منها أطباء ومهندسون وعلماء تلقوا تكوينهم بالعربية. هذا الاعتراض، مثل سابقيه، يدعم موقف المعارضين للتعريب وللتدريس بالعربية. فنحن نرفض التعريب لأننا بالفعل لا نريد أن يكون المغرب مثل سوريا، التي لم تنتج، بتعميمها للعربية في التعليم العالي، سوى التخلف والاستبداد والنظام الجمهوري الملكي الفريد والوحيد في التاريخ، وقمع الحريات، وترهيب الشعب وتقديس الحاكم... هل استطاعت سوريا أن تسترد بعربيتها أرضها التي استولت عليها إسرائيل؟ هل استطاعت أن تمنع طائرات إسرائيل من التحليق فوق قصر بشار الأسد وتصويره؟ هل أطلقت قمرا اصطناعيا للتجسس على إسرائيل كتلك الأقمار التي تطلقها هذه الأخيرة؟ هل كونّت وخرّجت بعربيتها علماء معروفين باكتشافاتهم في مجال الفيزياء النووية والبيولوجيا الجزئية؟ كم "ماركة" من السيارات أنتجتها سوريا بعربيتها؟ لم تنتج سوريا، في الحقيقة، بلغتها العربية سوى الاستبداد الداخلي، والمهانة الخارجية التي تتلقاها يوميا من إسرائيل التي يتبختر جنودها فوق الأراضي السورية بالجولان، وتزمجر طائراتها فوق القصر الرئاسي بدمشق. إن أحسن مثال على إخفاق سياسة التعريب، وعلى نتائجها الكارثية، هو سوريا التي يستشهد بها المدافعون عن التعريب دون أن يدركوا، بفعل العمى الإيديولوجي الذي أصاب بصيرتهم، أنهم إنما يدعمون موقف معارضي سياسة التعريب. ولإدراك دور اللغة العربية، كلغة نصف حية، في عجز الدول العربية عن تحقيق نهضة علمية وتنموية حقيقية، تكفي المقارنة بين هذه الأخيرة، وجارتيْها إيران وتركيا، اللتيْن تعرفان مثل هذه النهضة بفعل المستوى التعليمي الجيد لمتعلميها نتيجة استعمال لغة حية (تستعمل كلغة للتخاطب وكلغة مدرسية) للتدريس والتكوين. اعتراضات أخرى على الدعوة إلى إلغاء التعريب والعودة مؤقتا إلى الفرنسية، تردّ بأن العديد من الدول الإفريقية، التي تستعمل في التدريس اللغات الأجنبية لمستعمرها السابق، لا زالت تتخبط في الجهل والتخلف والأمية، ولم تنفعها تلك اللغة في تحقيق النهوض والتنمية. وهو ما يستنتجون منه أن الفرنسية ليست هي الحل للتنمية والتقدم وإصلاح التعليم. هذا استدلال، مرة أخرى، عامّي، يعتمد على تصور ميكانيكي مبسّط للعلاقة بين لغة التعليم والتنمية. ذلك أنه لا يكفي أن تكون لغة التدريس متقدمة ومتطورة ومنتجة للعلم والمعرفة، حتى يتحقق، وبشكل أوتوماتيكي، هذا التقدم والتطور والإنتاج للعلم والمعرفة لدى الدولة التي اختارت استعمال هذه اللغة للتدريس. بل لا بدّ أن تتوفر الشروط السياسية لإمكان الاستفادة من المكاسب المرتبطة باستعمال تلك اللغة في التدريس. والحال أن غالبية تلك الدول الإفريقية المستشهد بها، حديثة النشأة، ولا تزال في طور تأسيس دولها وبناء مؤسساتها، فضلا عما تعرفه العديد منها من حروب أهلية وصراعات سياسية وإثنية، عكس المغرب الذي كان يتوفر منذ الاستقلال بل منذ زمن بعيد على دولة قائمة بمؤسسات قارة وموجودة. لهذا لا يمكن مقارنة هذه الدول الإفريقية، التي تستعمل اللغة الأجنبية، بالمغرب الذي يستعمل العربية، إلا بعد مدة قد تقدّر بأزيد من عشرين سنة. وآنذاك سندرك أن تجاوزها للمغرب ربما أصبح أمرا واقعا لا مجال لإنكاره. إن المهم ليس: هل هذه الدول متقدمة عن المغرب أم لا؟ بل المهم إمكانية التقدم التي تتيحها أنظمتها التعليمية التي تستعمل اللغة الأجنبية. فاستعمال اللغات الحية، ذات الإنتاج المعرفي والعلمي الغزير، كلغات للتدريس، لا ينتج التقدم والتطور والتنمية على شكل علاقة سببية مباشرة، بل ينتج وهذا هو الأهم إمكانية هذا التقدم والتطور والتنمية. ومن جهة أخرى لا يمكن مقارنة هذه الدول الإفريقية بالمغرب، على مستوى مردودية التعليم، لأنها لم تنفق حتى واحد على المائة من الميزانية الضخمة التي ابتلعها التعليم بالمغرب، ولعدة عقود، ورغم كل ذلك لم يؤدّ هذا الإنفاق إلا إلى ضعف في المستوى وتدنٍّ في النتائج والحصيلة. ومع ذلك فهناك دول، مثل كينيا والسينغال وجنوب إفريقيا، هي في طريق تجاوزها للمغرب على مستوى التنمية وتأهيل الموارد البشرية بفضل نظامها التعليمي الذي يستعمل اللغة الأجنبية. هذا دون الاستشهاد بالهند التي أصبحت كفاءاتها في مجال تكنولوجيا الإعلاميات معروفة ومطلوبة على الصعيد العالمي. ومعلوم أنها هي كذلك تعتمد على اللغة الإنجليزية رغم أن لها لغة وطنية عريقة. من بين التعليقات الكثيرة الأخرى على موضوعاتي الخاصة بالتعريب، تلك التي تقول ما معناه: إذا كنت ترفض العربية وتفضّل الأمازيغية، فلماذا تكتب بالعربية ولا تستطيع كتابة مقال واحد بالأمازيغية حتى تبرهن أنها لغة صالحة للمدرسة؟ هذه، أيضا، من الأفكار العامّية الشائعة بالمغرب حول الأمازيغية: فلأننا نكتب بالعربية ولا نستطيع الكتابة بالأمازيغية، فذلك يعني أن الأمازيغية لا تتوفر على شروط اللغة المدرسية، وإلا لكانت مثل العربية تستعمل في الكتابة. أصحاب هذه "الأفكار" العامّية، ولأن الأمازيغوفوبيا أعمت بصائرهم كما سبق أن قلت، فهم عاجزون عن استيعاب حقيقة بسيطة تعرفها حتى العجائز، وهي أننا نستطيع أن نتعلم أية لغة حية، مثل الإنجليزية والألمانية والفرنسية والكورية والفارسية...، في البيت أو الشارع أو المعمل أو المقهى... (أما العربية فلا تدخل ضمن هذه اللغات التي تتعلم في هذه الفضاءات لأنها لغة ليست حية، لهذا فهي تحتاج دائما إلى المدرسة لتعلمها). لكن لا يمكن أن نتعلم الكتابة بأية لغة، مهما كان انتشارها عالميا مثل الإنجليزية أو الصينية أو الإسبانية، إلا عبر المدرسة أو ما يقوم مقامها. فهل تعلّمنا كتابة الأمازيغية في المدرسة حتى نقول بأنها لا تصلح للكتابة والمدرسة؟ وحتى الذين بذلوا مجهودا ذاتيا لتعلّم الكتابة بالأمازيغية، فإنهم لا يستطيعون النشر بها، لأن لا أحد سيقرأ هذا الذي ينشر بالأمازيغية إذا لم يكن قد سبق له أن تعلّم قراءتها وكتابتها في المدرسة. عندما نحلل مضمون هذه الأفكار العامّية، التي من خلالها يناقش مجموعة من المثقفين قضايا اللغة والهوية بالمغرب، ندرك حجم الاستلاب والتضليل والتجهيل واحتقار الذات و"الشذوذ الجنسي" (بمعناه القومي الهوياتي)، الذي (حجم) وقعوا ضحيته بسبب سياسة التعريب نفسها. فإذا كان هناك شيء نجحت فيه هذه السياسة، فهي تضليل الشعب المغربي وتجهيله، وتحويله إلى "شاذ جنسيا" (دائما بالمعنى القومي الهوياتي وليس الأخلاقي)، ومحتقر لذاته، ومستلب لغويا وثقافيا وهوياتيا. فوقف سياسة التعريب، بالشكل الذي مورست به، وبالأهداف التي طبّقت من أجلها، هو أولا وقف لسياسة "الشذوذ الجنسي"، وسياسة الاستلاب والتجهيل والتضليل واحتقار الذات.