سارع باحثون وصحافيون للحديث عن "موجة ثانية" من الربيع العربي، بالرغم من الحمولة السلبية التي صار الاسم يحملها على مدار السنوات الماضية لوصف ما شهدته وتشهده الجزائر والسودان من مظاهرات شعبية ضد النظامين السياسيين بالبلدين. الاحتجاجات تعيد سؤال الثورة في البلدان العربية إلى الواجهة. وهي فرصة لمناقشة أسبابها، وإن كانت تبدو بديهية، ومآلاتها في ظل واقع يؤكد بالملموس فشل الانتفاضات السابقة، مما يطرح التساؤل حول مدى فرص التجارب الحالية في النجاح. من "ارحل" إلى "يتنحاو_قاع" ما بين 2011 و2019 اختلفت الشعارات، ولكن الأسباب التي دفعت الناس إلى الخروج في هذا البلد أو ذاك للاحتجاج ضد رأس السلطة هي نفسها: حاكم بقي في الكرسي أكثر من اللازم، ورفض فسح المجال لغيره ومنح الفرصة للشعب في اختيار رئيسه بطريقة حرة، على أساس ولايات رئاسية محدودة بدل السعي إلى الخلود في المنصب. ما بين شعار "ارحل" الذي حمله المحتجون في تونس ومصر 2011، وشعارات من قبيل هاشتاغ "يتنحاو_قاع"، الذي أطلقه الجزائريون في حملة المطالبة بالتغيير التي يرفعونها في مواقع التواصل الاجتماعي وشوارع البلاد كل جمعة، جرت مياه كثيرة وتوالت الأحداث، لكن الظاهر أن الواقع السياسي للبلدان العربية يؤكد أن الديمقراطية ليست ترفا بالنسبة إلى المواطنين، وأن حالة الاحتقان وصلت مرحلة الانفجار، وأن الشعوب ليست مستعدة للمفاضلة بين ما يروج على أنه "استقرار" وما تتوق إليه من حرية، وأن التخويف من السيناريو السوري أو الليبي ليس رادعا للناس لعدم الخروج للاحتجاج. الأكيد أن أي "استقرار" في ظل نظام سياسي يفتقر إلى كثير من الشروط الديمقراطية ويرفض التناوب السلمي على السلطة هو استقرار هش، وأنه لا يحول دون هبوب رياح انتفاضة وإنما يؤجلها فحسب، مما يعني أنها ستكون أشد بعد سنوات بسبب تراكم حالة الغضب وتعمق الأزمة السياسية. الجزائر والسودان بلدان تجنبا هزات "الربيع العربي" قبل ثمان سنوات. في الحالة الأولى، اتفقت التحليلات، التي حاولت تفسير عدم خروج جزائريين بأعداد كبيرة للتظاهر في 2011، على كون ذكرى "العشرية السوداء" ما زالت حية في ذاكرة المواطنين، مما جعلهم يخشون من أن تنزلق الأمور بصورة قد تهدد دخول الجزائر في دوامة من العنف. الأكيد أن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة كان لا يزال حينها يتمتع برصيد شعبي، وكانت السلطة تملك هامشا من المناورة من خلال حزمة من "الإصلاحات الدستورية"، فضلا عن الاستمرار في سياسة شراء السلم الاجتماعي عبر ضخ أموال في مجال توظيف الشباب ومشاريع السكن وغيرها، والتي كانت عائدات فترة الفورة النفطية لا تزال تتيحها. هذه المعطيات تغيرت في ظل تراجع العائدات المالية للدولة بسبب انخفاض أسعار النفط، وإصرار الرئيس ومحيطه على بقائه في السلطة، رغم حالته الصحية المتدهورة. نجاح الاحتجاجات في الجزائر على فرض تنحي أو تنحية الرئيس بوتفليقة أعطى ولا شك دافعا للمحتجين في السودان من أجل مواصلة حراكهم لدفع الرئيس عمر البشير إلى ترك منصبه الذي عمر فيه ثلاثة عقود. فرص المحتجين في تحقيق مبتغاهم تظل ولا شك حاضرة بقوة، لكن السؤال يتجاوز لحظة سقوط البشير، التي قد تتم بعد أيام أو أسابيع، إلى فرص نجاح الثورة في المستقبل. ربيع العرب أم شتاؤهم في خضم الاحتجاجات التي شهدتها المنطقة في 2011 سارعت الصحافة الأوروبية، تحت تأثير النزعة الرومنسية التي ينظر من خلالها عادة إلى الثورات، إلى وصف تلك اللحظة التاريخية ب "الربيع العربي". نجاح الثورة في تونس في إنهاء سلطة زين العابدين بنعلي بعد أزيد من 20 سنة حكم فيها البلاد بقبضة حديدية كان بمثابة حلم جميل يعد بغد أفضل ويكون بداية لازدهار اقتصادي وثقافي ويؤشر على دخول العرب نادي الدول الديمقراطية. توالي سقوط الرؤساء الأبديين، من حسني مبارك إلى علي عبد الله صالح والعقيد معمر القذافي، مثل تأكيدا على خصوصية اللحظة الاستثنائية التي تعيشها المنطقة، وردا على من حاولوا إلصاق صورة نمطية بالبلدان العربية بأنها عصية على الممارسة الديمقراطية، وكأن العيش في ظل دكتاتوريات قدر لا مفر منه. في غمرة هاته الأحداث فرض مصطلح "الربيع العربي" نفسه. ورغم أن العرب لم يكن لديهم حتى السبق إلى توصيف ما كان يعيشونه بأنفسهم، لا شك أن كثيرين استقبلوا التسمية، بما تحمله من شاعرية تتوافق وخصوصية اللحظة، بكل أريحية. ما كان يحدث، في نظر هؤلاء، بالرغم مما أريق من دماء وما سقط من ضحايا، كان ربيعا يستحق الاحتفال والرقص والغناء. اللحظة التاريخية فرضت نفسها على الجميع، وانخرط الكل في جوقة مدح الثورة، حتى من عارضوها في البداية من صحافيين دأبوا على احتراف فن تغيير الجلد، أو مشايخ تعودوا على السباحة مع التيار، أو سياسيين أو عسكريين كانوا جزءا من النظام الذي ثار ضده المحتجون. لا أحد كان يرغب في أن يكون على هامش الثورة. لم يكن هناك مجال لمناقشة ما يجري من زاوية مختلفة، أو أخذ مسافة من أجل محاولة فهم أعمق لما يحدث أمام التسارع الجنوني للأحداث. الكائن المجتمعي الذي يطلق عليه اسم "المثقف"، والذي كان النقاش البيزنطي حول دوره في المجتمع لا يزال حاضرا، بدا معزولا عما يجري بعد أن تصدرت الآلة الإعلامية المشهد في متابعة ومناقشة ما يجري من أحداث سياسية متوالية ومتسارعة في بلدان صارت تشهد حراكا غير مسبوق بعد عقود حاولت فيها الأنظمة الحاكمة فرض جمود سياسي. تطلب الأمر مدة من الوقت لكي يتبدد حماس الثورة شيئا فشيئا، بعد توالي الخيبات في الدول التي شهدت "الربيع العربي". في سوريا تحولت البلاد إلى أكبر مصدر للاجئين الفارين من الحرب، ومختبر تجارب للأسلحة، وساحة معركة تتنافس فيها قوى إقليمية ودولية، وتتحارب فيها جماعات مسلحة ذات أيديولوجية دينية وأخرى قومية، فضلا عن قوات النظام الذي ثار ضده الشعب أملا في رحيله أسوة بغيره من الحكام الأبديين. ليبيا ما بعد القذافي صارت، حسب وصف المحللين، "دولة فاشلة" غير قادرة على بناء مؤسسات، في حين صارت اليد الطولى للميليشيات المسلحة، وبرزت أكثر من حكومة تدعي لنفسها الشرعية وتمارس سلطتها في جزء من البلاد. اليمين السعيد صار أتعس من أي وقت مضى، ونجحت فيه ميليشيا "أنصار الله" الشيعية في بسط سيطرتها على جزء مهم من التراب الوطني، مما جعل السعودية وحلفاءها يتدخلون عسكريا لمواجهة الجماعة المدعومة من إيران، في حرب تخلف اليوم أكبر كارثة إنسانية في العالم. في مصر لا يزال الجيش هو المتحكم في السلطة بعد قوس أول رئيس مدني منتخب. قوس أغلق بسرعة في انقلاب عسكري تم بتزكية قوى تسمي نفسها ديمقراطية، وتعلن اليوم معارضتها للسلطة التي قادت الانقلاب بعد أن هللت لها بالأمس. وفي المغرب لا يبدو أن المملكة راوحت مكانها بعد حراك 20 فبراير، وإن كانت المكاسب ترتبط، على ما يبدو، باتساع هامش الحرية الذي خلقته الثورة التكنولوجية وتكريس الفعل الاحتجاجي من طرف المواطنين، ولا ترتبط بتنزيل الدستور ووعود خطاب 09 مارس على أرض الواقع. أما تونس، مهد الثورات العربية، وحسب كثيرين قصة النجاح الوحيدة بين البلدان سالفة الذكر، فإن استمرار التفاوت بين الجهات، الذي كان سببا في اندلاع الثورة، والتراجع الاقتصادي الحاصل، فضلا عن المد المتشدد الذي عرفته البلاد بعد سقوط بنعلي، كلها عوامل تهدد بتقويض المكاسب الديمقراطية التي تم تحقيقها لحد الساعة. مع الثورة أو ضدها ما قد يراه البعض انزياحا ل"الربيع العربي" عن مساره شكل أكبر دافع لمعارضي هذه الثورات لشيطنتها اليوم، على اعتبار أنها لم تجلب سوى الخراب والدمار للبلدان العربية. الأكيد أن في صلب هذا الموقف رغبة في مواصلة التحكم واستمرار الوضع القائم، خاصة عندما يكون صادرا عن جهات في السلطة أو وسائل إعلام أو محللين سياسيين ناطقين باسمها. لا شك أن بعض من يعارضون الثورات لا يمثلون السلطة، ويحركهم تخوف مشروع من السقوط في "الفتنة" أو حدوث اضطرابات قد تجعل أوضاعهم الحالية، على علاتها، أفضل بكثير من وضع يضطرون فيه إلى مغادرة بلدهم أو إيجاد أنفسهم في حالة حرب أو نقص حاد في الأموال والأغذية والدواء مع تفشي الأمراض والأوبئة. جزء من المعارضين للثورة هم من مناصري "نظرية المؤامرة"، ويرون فيما حصل تجسيدا لمخطط تضلع فيه الصهيونية العالمية والماسونية وأمريكا وإسرائيل. وبغض النظر عن الصورة الكاريكاتورية لنظرية المؤامرة، لا شك أن هناك صناعة للثورات وخبرة تمت مراكمتها في هذا المجال، كما يؤكد ذلك سردجا بوبوفيتش، الناشط الصربي الذي قام بتدريب نشطاء عرب على كيفية الإطاحة بالدكتاتور. النقاش حول ما إذا كانت الثورات عفوية أو مدبرا لها، وإن كان مشروعا، إلا أنه يبدو عقيما نوعا ما لأن الآلاف والملايين ممن شاركوا في الاحتجاجات في العالم العربي سيشعرون بالإساءة من طرح هذه الفكرة لأنهم بذلوا تضحيات من أجل تحقيق التغيير ولم يفعلوا ذلك لقاء تلقي أموال أو خدمة لأجندة خارجية. بالمقابل، يرى المتحمسون للثورة أن المشكل ليس في الثورات، بل في الثورات المضادة. بالنسبة إلى هؤلاء، فإن التلويح بالسيناريو السوري أو الليبي ما هو إلا محاولات من قبل السلطة و"أزلامها" أو "الخانعين" لجبروتها من أجل تبرير استمرار بطشها، وأكبر خطر على الثورة هم المتربصون بها. هؤلاء يرون أيضا أن وقوع ضحايا وموجات عنف ما هو إلا تضحية طبيعية يجب أن يقدم عليها الشعب من أجل غد أفضل، ويستشهدون على ذلك بالثورة الفرنسية، التي استمرت في التخبط مئة سنة قبل أن تجد بوصلتها. طبعا لا يوجد ما يقدم ضمانات على أن الثورات العربية ستعيش تماما ما عاشته الثورة الفرنسية، وأن هاته البلدان ستكون في ريادة العالم، ثقافيا وسياسيا واقتصاديا، بعد مئة سنة من اليوم. من جانب آخر، فإن عددا ممن يشاركون في الثورات، خاصة من البسطاء، ويرقصون فرحا على نغمات رحيل الحاكم، يرغبون في تغيير آني وجذري لمشاكلهم، وليس لديهم أريحية انتظار مئة سنة أخرى لكي تستقر الأمور وتحل لحظة قطف ثمار الثورة وتصبح البلاد مثل فرنسا. من بين الناس من يأخذه الحماس أكثر من اللازم للجزم بأن السيناريو السوري أشرف وأكرم من العيش تحت ما يراه دكتاتورية، سواء في بلد كالمغرب يبدو، ظاهريا على الأقل، أقل سوءا من غيره، أو في بلد آخر لم تصله بعد رياح الثورة ولم تنزلق فيه الأمور إلى حد ما يقع في ليبيا أو سوريا. في مثل هذا الكلام، الذي يطلق على عواهنه، استخفاف بعواقب الصراعات المسلحة التي قد تعقب بعض الثورات، وما قد تخلفه من مآس بشرية وتدمير لوحدة البلاد وتماسك المجتمع. الاصطفاف مع الثورة أو ضدها نقطة خلاف كبيرة في العالم العربي لم يسلم منها حتى علماء الدين، الذين يفترض فيهم أن يدعوا إلى كلمة سواء بين المسلمين. اجتهادات المشايخ صارت بناء على كونهم ضمن معسكر قطر وتركيا أو السعودية والإمارات، وموقف كلا الفريقين من دعم الثورات أو محاولات إجهاضها. المطرقة والسندان العقل العربي والعالم العربي يبدو حبيس هاتين الجدليتين المرتبطتين بالثورة. في ظل الحماس الذي يرافق الحراك الجزائري، اليوم، لم تتوان وجوه مصرية بارزة في السياسة والإعلام والفن عن تقديم النصائح للمحتجين من أجل تفادي أخطاء الثورة المصرية. المتحمسون للثورة يفترضون أن الثورة القادمة ستكون أفضل لا محالة بعد الاستفادة من أخطاء الماضي. التجربة تظهر مع ذلك أن الكفة تميل لصالح السلطة في صراعها للحفاظ على الوضع القائم أمام محاولات الشعب تغيير الأمور. التعويل على عامل الزمن يصب في صالح السلطة، كما أن الفاعلين السياسيين، الذين يفترض فيهم أن يدبروا المرحلة وفق تطلعات الشعب سرعان ما ينشغلون بمكاسبهم السياسية وحساباتهم الضيقة بعد أن تتم الإطاحة برأس النظام أو إرغام السلطة على تقديم تنازلات. في مصر مثلا تحول "الإخوان المسلمون" إلى عدو لبعض القوى الليبرالية واليسارية وجزء من السلفيين، وهو ما برر لهؤلاء المشاركة في حملة الإطاحة بالرئيس الإخواني محمد مرسي، بالرغم من الكلفة السياسية الكبيرة لهذه الخطوة. بعض من برروا الانقلاب أمثال حمدين صباحي ومحمد البرادعي وعبد المنعم عبد الفتوح والمخرج خالد يوسف والكاتب علاء الأسواني، هم أنفسهم من تحولوا إلى معارضين للرئيس عبد الفتاح السيسي. الأكيد أن الأمر لم يتطلب فطنة كبيرة، ولا أن يكون المرء مصريا ليعي بأن الإطاحة برئيس منتخب، رغم كل مساوئه في إدارة شؤون الحكم، يعني إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، والتمهيد لعودة العسكر إلى الحكم. في الحالة المصرية والتونسية بالأمس والجزائرية اليوم، تدخل الجيش وفرض على الرئيس التنحي. وإن كان في الحالة التونسية يبدو أنه عاد إلى قواعده لممارسة دوره الأمني الطبيعي بعيدا عن السياسة، ففي مصر والجزائر يظل الجيش هو اللاعب السياسي الرئيسي. وفي كلا البلدين، كما في غيرهما من البلدان، للمؤسسة العسكرية مصالح وعلاقات مع دول أخرى وحسابات سياسية تؤثر في قراراتها بما لا يتوافق بالضرورة مع انتظارات الشعب. وبالتالي، حينما يتدخل الجيش لإزاحة الرئيس يطرح التساؤل بشأن الأخذ بهذا المعطى كمؤشر لنجاح الثورات. أما فشل النخبة السياسية في الاستفادة من اللحظة التاريخية لبناء ممارسة ديمقراطية فتلك قصة أخرى. في حالة اليمن وسوريا وليبيا تبرز إشكالية التدخل الإقليمي والدولي في الثورات من أجل تغيير النظام، أو قلب معادلة موازين القوى عبر التدخل العسكري المباشر أو من خلال دعم جماعات مسلحة. أمام هذا الوضع يبدو العالم العربي لا يزال متأرجحا بين السلطوية والفوضى. أما سؤال التغيير الحقيقي فيبقى مؤجلا. *صحافي