جاء الهجوم على مسجدين بمدينة كرايست تشيرتش النيوزلندية في 15 مارس الجاري ليؤكد مرة أخرى أن صعود التيارات اليمينية العنصرية في الدول الغربية أصبح مشكلا حقيقيا ينذر بإمكانية حدوث أعمال عنف مشابهة، يكون ضحاياها من الأقليات الدينية والعرقية في هاته البلدان. يمكن تسجيل مجموعة من النقط، سواء المرتبطة بالجريمة وتبعاتها أو الجماعات اليمينية المتطرفة وكذا وضعية المسلمين في البلدان الغربية. من دخل المسجد فهو غير آمن؟ كان للجوانب الأمنية نصيب مهم من النقاش الذي أعقب الهجوم الذي أودى بحياة 50 شخصا أصغرهم عمره ثلاث سنوات. لا شك في أن هول الجريمة ووقعها في الأنفس خلق حالة من الخوف لدى الجالية المسلمة. من الأمور التي لفتت وسائل الإعلام الانتباه إليها هو أن هجوم نيوزلندا، وقبله الهجوم على البيعة اليهودية بمدينة بيتسبرغ بولاية بنسلفانيا الأمريكية في أكتوبر 2018، أن دور العبادة أصبحت أهدافا سهلة (soft targets) لهذا النوع من الجرائم بسبب ضعف الحضور الأمني حولها، وأيضا ما توفره للمجرمين من إمكانية الإيقاع بأكبر عدد من الضحايا؛ لأن الناس يحجون إليها بكثرة من أجل أداء واجباتهم الدينية. وقع الهجوم الذي نفذه برنتون تارانت تجاوز صداه حدود نيوزلندا وحالة الخوف عمت في صفوف مسلمي الغرب. في حوار مع إذاعة CBC الكندية، ذكر إمامان أن أفراد الجالية المسلمة في كندا عرضوا إمكانية تسليح أنفسهم تحسبا لهجوم مماثل، على الرغم من كل ما يثيره هذا الاقتراح من إشكالات بخصوص حمل السلاح في مكان مقدس يقصده الناس من أجل الشعور بالطمأنينة والسلام. من بين التدابير التي جرى الاتفاق بشأنها ما يرتبط بالقيام بعمليات تدريب على كيفية التصرف في حالة وقوع هجوم، وتعزيز الحماية للمساجد وإضافة ما يكفي من المنافذ يمكن للمصلين الهروب من خلالها بدل أن يظلوا عالقين كما حدث مع المصلين في مسجدي كرايست تشيرتش. بالإضافة إلى هاته التدابير العملية، يبدو أنه من المهم أيضا بالنسبة إلى المسلمين تجاوز حالة الخوف والعودة إلى الحياة الطبيعية بما فيها أداء الفرائض الدينية في المساجد، وإلا شكل ذلك انتصارا معنويا لمرتكب الجريمة الإرهابية والتيارات العنصرية التي يحمل فكرها. بث الخوف في الأنفس هو سلاح مختلف التنظيمات الإرهابية، بما في ذلك التي ترتكب أعمالا إجرامية باسم الإسلام. تسمية الأشياء بمسمياتها ما زالت الجرائم من هذا النوع تثير إشكالا مهما في الخطاب الرسمي والإعلامي بالدول الغربية. الإصرار على تسميتها "جرائم كراهية" يجعل عددا من المسلمين يشعرون وكأن هناك إمعانا في جعل الإرهاب حكرا عليهم دون غيرهم. هناك مقولة يحلو لمستعملي وسائل التواصل الاجتماعي في الولاياتالمتحدة مشاركتها كلما وقع هجوم نفذه منتم لأحد التيارات اليمينية العنصرية، وهي تلخص هذا الإشكال بطريقة رائعة. المقولة مفادها أنه كلما نفذ شخص مسلم جريمة ذات طابع إرهابي بالخصوص تلصق التهمة بدينه. وحين ينفذ شخص أسود جريمة، تلصق التهمة بعرقه بالنظر إلى الصورة النمطية التي ترى أن السود لديهم جنوح نحو ارتكاب الجرائم أكثر من البيض؛ وهو ما يفسر أعدادهم الكبيرة في السجون الأمريكية، حيث يشكلون نسبة 33 في المائة من عدد السجناء في حين أن نسبتهم من عدد السكان لا تتجاوز 12 في المائة. بالمقابل، حينما يقترف شخص أبيض جريمة إطلاق نار بسبب دوافع عنصرية يتم الحديث عن كونه "ذئبا منفردا'' أو شخصا يعاني من اختلال نفسي. في القضية جانبان. الأكيد أن أي شخص، سواء كان مسلما أو أسود أو أبيض، يقترف جرائم مماثلة هو ذئب منفرد أو جزء من قطيع ذئاب يشاركونه الأفكار نفسها ولا يمثل ديانته أو عرقه؛ غير أن ما تصر وسائل الإعلام الأجنبية على تجاهله هو أن الدافع السياسي حاضر في الجرائم المرتكبة من قبل أفراد اليمين العنصري في الغرب. وبالتالي فهي تنطبق عليها صفة الإرهاب. كما أن هؤلاء الذئاب المنفردة هم جزء من تيار موجود في الواقع، بعض أفراده منضوون تحت لواء حركات لها اسم وحضور وشعارات وينظمون تجمعات على الأرض، وبعضهم الآخر يتفاعل مع من يشاركهم الأفكار نفسها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي وتكون لديه قابلية الانتقال إلى الفعل الإجرامي في أي لحظة، تماما كما هو الشأن بالنسبة إلى عدد من مرتكبي الجرائم الإرهابية التي تبنتها ''داعش'' أو القاعدة. هذا التيار اليميني العنصري هو عابر للحدود، وهي خاصية أخرى تشترك فيها هاته الحركات مع الجماعات الإرهابية الإسلامية. ويظل أخطر ما يجمع بينها هو شيطنة الآخر وبالتالي استباحة دمه باسم قضية كبرى، سواء كان ذلك ما يرونه إعلاء لراية الإسلام أو الحفاظ على نقاء البلدان الغربية وجعلها حكرا على العرق الأبيض وطرد الدخلاء منها. صحيفة ''ذا غارديان'' أشارت إلى تزايد حالات الكراهية ضد المسلمين في بريطانيا، خلال الأسبوع الذي تلا هجوم نيوزلندا. لا بد أن الجريمة أعطت دافعا لمن يحملون الأفكار نفسها التي يعتنقها برنتون تارانت للتحرك؛ وهو ما يعني إمكانية حدوث أعمال إرهابية مشابهة. قيام وسائل إعلام غربية بوصف هجوم نيوزلندا بأنه عمل إرهابي خطوة في الاتجاه الصحيح، كي لا يتم الاستهانة بالمد الذي يشهده هذا التيار والمنحى الإجرامي الذي يسير فيه. ليس صراع المسلمين وحدهم الهجوم المسلح على المسجدين لا يعني أن المسلمين هم الفئة المستهدفة الوحيدة من قبل هاته التيارات العنصرية، خاصة أن جريمة نيوزلندا وقعت بعد أشهر على الهجوم الذي استهدف البيعة اليهودية ببيتسبورغ. هذا لا ينفي أن المسلمين قد يكونون معرضين أكثر من غيرهم لعنف هاته الحركات. لا شك في أن التيارات اليمينية المتطرفة تكن العداء للمهاجرين، والمسلمون في الغرب هم بالأساس جاليات مهاجرة انتقلت إلى العيش هناك في فترات مختلفة. في أسترالياوأمريكا الشمالية حل المسلمون بصورة متأخرة مقارنة بالأوروبيين البيض أو الصينيين أو اليابانيين أو اليهود. هذا ما يجعل التيارات اليمينية العنصرية ترى في هؤلاء دخلاء، على الرغم من الحقيقة التاريخية التي مفادها أن الأوروبيين هم في الأصل مهاجرون للقارتين، وأن استيطانهم بها جاء على حساب سكان أصليين ارتكبت في حقهم جرائم إبادة يعد ضحاياها بعشرات الملايين. في أوروبا، تريد التيارات العنصرية أن تتجاهل حقيقة أخرى وهي أن بلدان القارة العجوز صارت متنوعة عرقيا وثقافيا، وأن عددا من أبناء الجاليات المسلمة أو غير المسلمة من المهاجرين هم بدورهم مواطنون أوروبيون، ويجب أن يتمتعوا بالتالي بكامل الحقوق التي يضمنها لهم القانون بغض النظر عن أصلهم أو ديانتهم. لا شك في أن الخطاب اليميني الذي يروجه كثيرون من أن مبادئ الإسلام تتعارض مع القيم الغربية، والأعمال الإرهابية التي تتم باسم الدين ويقترفها منتمون إلى جماعات من طينية ''داعش'' كلها أمور تذكي العداء تجاه المسلمين، وتعطي لهاته التيارات ما تراه مسوغا لاستهداف المسلمين، سواء عبر تدنيس المساجد أو محاولات نزع حجاب النساء بالقوة أو الاعتداءات الجسدية واللفظية على المسلمين أو استخدام العنف المسلح في حقهم. مع ذلك، فالأكيد أن هاته التيارات لا تعادي المسلمين وحدهم، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار خصوصية بعض البلدان مثل الولاياتالمتحدة. قبل سنة من هجوم بيتسبرغ، صدم جزء من الرأي العام الأمريكي من الحشد الذي قام به في غشت 2017 أفراد يؤمنون بتفوق العرق الأبيض (White Supremacists) بمدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا. المشاركون تحلقوا حول تمثال الجنرال روبرت إدوارد لي، قائد قوات الولايات التي سعت للانفصال إبان الحرب الأهلية الأمريكية )1865−1861 ( من أجل استمرار مؤسسة العبودية التي كانت تخشى من أن يقوم الرئيس أبراهام لنكولن بإلغائها، اعتراضا على قرار لنزع التمثال. خلال التجمع، ردد هؤلاء شعارات ضد اليهود والمهاجرين، وفي اليوم التالي دخلوا في مواجهات بالعصي مع محتجين مناوئين لهم، ضموا في صفوفهم شبابا أمريكيين بيضا وسودا، ممن يرون في هؤلاء أشخاصا حاملين لإرث أمريكي مخز، ارتبط بالرق والميز العنصري. في خضم المواجهات، دهس أحد عناصر التيار اليميني معارضيهم بسياراته، مخلفا مقتل الشابة هيذر هاير، والتي تحولت إلى رمز لأمريكيين يؤمنون بأن لديهم واجبا من أجل التصدي لخطاب الكراهية والعنف الذي تمارسه هاته الحركات العنصرية. من أجمل الصور التي أعقبت هجوم كرايست تشيرتش هو حالة التضامن التي عبّر عنها سكان نيوزلندا ومواطنون غربيون من أوروبا وأمريكا الشمالية مع المسلمين من خلال إيقاد الشموع ووضع أكاليل الورد أو التطوع من أجل حماية المساجد أو ارتداء الحجاب وزيارة دور العبادة رغبة في التعرف أكثر على الإسلام. من بين هؤلاء كان عدد من اليهود الذين شعروا بالامتنان للمسلمين بعد التضامن الذي أبدوه معهم عقب الهجوم الإرهابي ضد بيعة ''ذا تري أوف لايف'' ببيتسبرغ. تقوية اللحمة مع باقي سكان البلدان الغربية من مسيحيين ويهود ولا دينيين ومنتمين إلى أقليات دينية أو جنسية أخرى هي من الخطوات التي تؤكد مرة أخرى أن المسلمين جزء من النسيج الاجتماعي لهاته البلدان، وأنهم منخرطون في المجهود الجماعي للحفاظ على تنوعها الثقافي. الحركات العنصرية المؤمنة بتفوق العرق الأبيض هي في جانب منها تمظهر للمخاوف من تغير التركيبة الديمغرافية للبلدان الغربية. في الولاياتالمتحدة، تشير التوقعات إلى أن نسبة عدد السكان البيض بالولاياتالمتحدة ستصبح، بحلول عام 2045، في حدود 49 في المائة؛ وهو ما يعني أن الغالبية ستكون خليطا من المنحدرين من أمريكا اللاتينية، السود، الآسيويين وباقي العرقيات. هذا التحول قد يعني تغيرا في موازين القوى، وربما زوال بعض الامتيازات التي يقول عدد من الأمريكيين إن البيض يتوفرون عليها مقارنة مع أبناء العرقيات الأخرى. هذه التحولات تطرح أيضا تساؤلات بخصوص المنحى الذي يمكنه أن يتخذه خطاب ونشاط الحركات العنصرية. في مواجهة الجهل وخطاب الكراهية الجاليات المسلمة تبدو واعية بدورها في مجال الانصهار في النسيج المجتمعي؛ بيد أن الجهد الأكبر ولربما ينبغي أن ينصب على مد جسور التواصل مع جزء من الساكنة التي تحمل أفكارا مغلوطة عن المسلمين. عدد من هؤلاء لم يسبق لهم التحدث مع مسلمين، أو زيارة مسجد أو الاطلاع على كتب جدية تتناول الإسلام وتعاليمه. جزء كبير من المعلومات التي شكلت تصورهم عن الإسلام قد يكونون استقوها من الإنترنيت أو بعض وسائل الإعلام اليمينية والتي أذكت لديهم مشاعر الخوف والتوجس من المسلمين. قد يصدم المرء مثلا حينما يسمع أن أمريكيين يعتقدون أن المسلمين لديهم مخطط للاستيلاء على السلطة في البلاد وإلغاء الدستور وفرض الشريعة الإسلامية. المسألة مضحكة للغاية، وتظهر مدى سذاجة تفكير أصحابها. هؤلاء لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء طرح سؤال منطقي، وهو أنه كيف يمكن لجالية يشكل أفرادها نسبة أقل من 2 في المائة من السكان، ولا يستأثرون بأي من مراكز القوى السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية أن يستولوا على الحكم في أقوى دولة في العالم. الجهل والأفكار النمطية عن المسلمين وإن كانت حاضرة بقوة في صفوف السكان الأمريكيين البيض، خاصة في جنوب البلاد وبعض ولايات الوسط الأقل تنوعا من الناحية العرقية والثقافية ممن صوتوا بكثافة لصالح ترامب؛ لكنه قد يكون حاضرا أيضا في مخيلة أفراد من مجموعات عرقية أخرى مثل المهاجرين من أمريكا اللاتينية والسود، كما أظهرته شهادات لأشخاص من الفئتين اعتنقوا الإسلام وتحدثوا عن كيف قوبلوا بالرفض من أبناء عرقيتهم بسبب الربط الحاصل بين الإسلام والعنف، والصورة المغلوطة عن ما يرونه وضعية دونية للمرأة في الدين الإسلامي. الاضطلاع بمهمة مواجهة خطاب الجهل والكراهية تجاه المسلمين ليس بالأمر الهين بالنسبة إلى الجاليات المسلمة في ظل قلة العدد والإمكانات. دخول مؤسسات دينية رسمية وبلدان إسلامية على الخط قد يكون له من السلبيات أكثر من الإيجابيات في ظل ما يثار عن محاولات هاته البلدان بسط سيطرتها على المؤسسات الدينية بالغرب، كما هو الشأن بالنسبة إلى الصراع الحاصل بين المغرب والجزائر في فرنسا مثلا، أو نشرها لخطاب متزمت لا يتناسب مع خصوصية البلدان الغربية، ناهيك عن التوجس الغربي من المنظمات الإسلامية ومصادر تمويلها. هذا الأمر يفرض ضغوطا إضافية على الجاليات المسلمة، التي باتت تواجه تحديات من كل حدب وصوب. *صحافي مغربي مقيم بالولاياتالمتحدة الأمريكية