أجل كنت من المقاطعين للتسجيل والتصويت، أنا من المقاطعين للانتخابات بشتى أنواعها، لكنني تابعت العملية لحظة بلحظة، وشاركت في نقاشات وسجالات عدة، البعض كان يعتبر موقفي سلبية وعدمية، البعض الآخر اعتبرها تخلي عن الشهادة التي حملنا الشرع أمانتها ومسؤوليتها، آخرون اعتبروها عزوفا عن السياسة، آخرون اعتبروا الأمر دعم غير مباشر لقوى الفساد، وآخرون راحوا يفسرون موقفي تفسيرات فقهية بل وحتى عقدية. لكنني متشبث برأيي، وأعتبر المقاطعة، موقفا سياسيا ناضجا، وممارسة سياسية بامتياز، وليست عزوفا، ولا سلبية أو عدمية، موقفي من العملية سياسي وليس عقدي، ورغم أني لم أصوت، إلا أن قلبي كان مع حزب العدالة والتنمية، قد تكون قولة "قلوبنا معكم وسيوفنا ضدكم"، معبرة في حالتي وحالة كثير من المقاطعين، و سأضرب مثالا، لتقريب وجهة نظري من العملية، بقصتين من الموروث الشعبي، فيهما العبرة البالغة. قبل ذلك، لعل من نافلة القول، التذكير بأن السلطة الماسكة بزمام الحكم والأمر في البلاد، لها واجهتان، رئيسية وثانوية. أما الثانوية فهي السلطات المنتخبة والمختارة من طرف الشعب، يسائلها ويراقبها ويحاسبها (نظريا على الأقل). و أما الرئيسية فهي تلك السلطة غير الخاضعة لا لاختيار ولا لمراقبة أو محاسبة الشعب. القصة الأولى لها علاقة بالواجهة الثانوية، حيث تقول: "كان في ما مضى من الأزمان، صديقان حميمان، شلح وعربي، يقصدان الأسواق الأسبوعية، لأجل النصب على البسطاء، واستغلال سذاجتهم، وجني الأموال بأقل جهد، يقوم الصديقان باختيار مكان استراتيجي داخل السوق، فيصيح العربي، بعد أن يتحلق المتفرجون، أعطوني ريالا، وسأركب على هذا الشلح وأقوده كالحمار، فما يكون من العرب المغفلين، إلا أن يبادروا بإخراج ما بجيوبهم من ريالات، للتمتع برؤية صاحبهم العربي، يركب على ظهر الشلح ويقوده، بعد انتهاء الجولة، يصيح الشلح في بني قومه، أعطوني ريالا، وسأركب على العربي وأقوده كالحمار، فتثور ثائرة الشلوح، ويتوقون للانتقام ورد الصاع صاعين، فيبادروا لإعطاء صاحبهم ما بجيوبهم، ويتم العرض، في أجواء من الحماسة والتصفيق والتشجيع، وفي ختام العرض، ييمما وجهيهما شطر منطقة أخرى، فتارة تكون حصيلة الشلح ورصيده من الأموال كبيرا، حسب المنطقة، ثم تدور الدائرة للعربي، لتعوض عجزه منطقة بني قومه، لكن المهم أن الصديقان كانا يقتسمان ماجنياه بالتساوي". أما القصة الثانية فتقول: "كان أيضا في سالف الأزمان، قبيلة تعيش المشاكل والقلاقل، ولم يستطع أي من شيوخها المتعاقبين، ضبط أمورها ولا حل مشاكلها، حتى بقيت بلا رأس يقودها ردحا من الزمن، فذهب وفد من أعيانها، لأحد الحكماء يطلبون منه تولي أمرهم وفض نزاعاتهم، فقبل منهم، ورحل إليهم بأولاده وأمواله وماشيته، وفي أول يوم له قام بجولة استطلاعية، لمعرفة المكان والناس والمشاكل، عند الفجر، تسلل الحكيم، يسوق قطيعا من ثيرانه، وأطلقه في حقول القبيلة، وعاد أدراجه، عاث القطيع فسادا في الحقول، أفاق سكان القبيلة صباحا على الكارثة، وتجمهروا وسط حقولهم المخربة، لكن احترامهم لشيخ قبيلتهم (المتظاهر بالتفاجؤ) جعلهم يصمتون ويتظاهرون باللامبالاة، قرر الشيخ، معاقبة ثيرانه بذبحها كلها وتوزيع لحمها على السكان، ووسط اعتراضهم، استل سكينه، وأتى عليها واحدا واحدا، ثم أعلن أن هذا مصير كل شاة أو بقرة أو ثور، يضبط في حقول الغير، فعبر عن إرادة قوية وحزم وحسم، لإصلاح الأوضاع، وأعطى النموذج العملي، لينزجر كل صاحب نفس مريضة، وكل متهاون، فصلحت أحوال القرية وأوضاعها، بقرار حكيم وشجاع". فحين تقرر الواجهة الرئيسية، للسلطات الحاكمة، ذبح عجلها، سينزجر، أمثال الشلح والعربي، (رمز الواجهة الثانوية) الذان يمارسان مسرحيتهما على البسطاء، ولن يعود لهما من دور يقومان به، وسيخاف صاحب القطيع على قطيعه، وصاحب الدجاجة على دجاجته، وستنصلح أمور كثيرة. كان هذا عن موقفي ورؤيتي للعملية، أما عن مشاعري وعاطفتي، فقد كانت مع الحزب، وهذا أمر طبيعي لأنه الأقرب لي وجدانيا، وإن اختلفت مع تقديراته وتحليلاته. حسب الحزب، عملية ذبح العجل، تمت بتغيير الدستور، والشلح والعربي فرا لغير رجعة، وإذا أضفنا لكل ذلك، الفوز الكاسح للحزب، فإن الظروف الآن مواتية لتغيير حقيقي، وما على الشرفاء إلا منح الوقت والفرصة لهذه التجربة، وتقديم المساعدة لها في خطواتها الأولى، ودفع قاربها بلين وهدوء، حتى يستقر على صفحة الماء ليمخر عبابه، قارب تنتظره العواصف والزوابع، والأمواج العاتية، لكن تحتاج الانطلاقة لجو هادئ مشمس، هذا الجو قد نوفره ، بتجميد دعوات المقاطعة والتظاهر والاحتجاج والتشكيك، لأننا فعلا أمام تجربة جديدة، نحتاج لمنحها بعض الوقت، أتمنى على كل أصحاب المطالب السياسية والاجتماعية والحقوقية، التريث وإحسان الظن، ونتمنى من الحزب أن يبادر بوضع تلك المطالب على رأس أولويات برنامجه، ومباشرة وضع حلول جذرية ونهائية، لتلك القنابل الموقوتة، كالاعتقال السياسي، والاختطاف، والتعذيب، والبطالة، والحقوق والحريات، وغيرها.