-1- الإعدام، عقوبة ارتبطت دائما بوجود البشرية، نصت عليها الصكوك القانونية القديمة والديانات الوثنية والسماوية. والإعدام، كما هو معروف، لا يعني في القوانين الجنائية، الردع القوي للمجرمين والمنحرفين الذين يشكلون خطرا على المجتمع، ولكنه يعني أيضا تغييب الجناة نهائيا عن المجتمع الذي خرجوا عن سننه وأعرافه وقوانينه. وقد ظهرت عقوبة الإعدام في القوانين البشرية الأولى، وطبقت على كثير من الأفعال، واتخذت صورة الانتقام الفردي في التشريعات الأكادية وفي قوانين حمورابي والقوانين الأشورية، وفي المدونات الهندية والمدونات الشرقية القديمة، وفي المدونات الرومانية والمصرية والفارسية. وفي الشريعة الإسلامية، طبقت عقوبة الإعدام في جرائم الزنا عند الإحصان والحرابة والردة والبغي والقتل العمد، أما في القوانين الوضعية المعاصرة، فتطبق عقوبة الإعدام في الخيانة العظمى وفي الجرائم المتعلقة بأمن وسلامة الدولة الداخلي والخارجي، وفي جرائم الجاسوسية والتخابر مع الأعداء، وفي الاعتداء على رؤساء الدول، والتآمر لقلب نظام الحكم، والاغتصاب، وقتل رجال الأمن وحراس السجون، وفي جرائم التجارة في المخدرات، وجرائم القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد. ومعروف لدى فقهاء القانون بالمغرب أن التشريع المغربي حافل بالجرائم المعاقبة بالإعدام (30 في القانون الجنائي و15 في قانون العدل العسكري)، تشمل جرائم أمن الدولة وجرائم النظام العام وجرائم الأشخاص وجرائم الأموال، إضافة إلى جرائم الإرهاب. في الماضي البشري استعملت طرق عديدة لتنفيذ عقوبة الإعدام، أشهرها الغرق والحرق والشنق والجلوس على الخازوق، وقطع الرأس والرجم بالحصى... وهي الطرق التي كانت الأكثر استعمالا قبل ظهور الرمي بالرصاص، والإعدام الكهربائي، والخنق بالغاز السام، والموت بالإبرة المميتة... وغيرها كثير في عالم اليوم. وحسب المؤرخين، فإن الإعدام الفارسي من أقدم طرق الإعدام على الأرض، ويعتبر من أكثر التقنيات إيذاء لكرامة الإنسانية وحطا من قدرها؛ إذ يعتمد على أكبر قدر ممكن من القسوة، أي على بقر البطن على مستوى الأمعاء وعلى تقطيع الجثة بعد ذلك إلى أربع لدفن كل طرف في قبر. وفي العصر الحديث، مازالت غالبية الدول (حوالي 90 دولة) تنفذ عقوبة الإعدام شنقا، التي تعتبر من أقدم أنواع عقوبات الإعدام في تاريخ البشرية والقاسم المشترك بين كل الحضارات وكل التجارب الإنسانية في مجال تنفيذ الأحكام والقوانين. -2- منذ زمن بعيد، بدأت الإنسانية تطرح الأسئلة حول جدوى الإعدام في إيقاف الجريمة أو الحد منها، وحتى الآن ما زالت هذه الأسئلة متناسلة حول جدوى أو لا جدوى عقوبة الإعدام. هل تغلق باب التوبة وتمنع الرهان الإيجابي لخلاص النفس البشرية أم إن العقاب هو الحل الطبيعي لمواجهة الإجرام؟ انطلاقا من هذا السؤال، ظهرت الدعاوى الأولى لإلغاء عقوبة الإعدام في القرون الوسطى، حيث اعتبرها القديس بيرنارد مخالفة للروح المسيحية، وأمرا خارقا للعادة، لا شرعية لها، ولا تستمد قوتها من القوة الإلهية، وحاولت الكنيسة استبدالها في الكثير من الأحيان بعقوبات أخرى سالبة للحرية مع الأخذ بفكرة التوبة والتكفير، على اعتبار أن الإنسان كائن مقدس لا يجوز لأحد أن يزهق روحه غير الخالق الذي وهب له وحده الحياة. وخلال القرن السادس عشر، عادت من جديد فكرة المطالبة بإلغاء عقوبة الإعدام إلى الواجهة العلمية والفلسفية والثقافية، حيث وصفها الفقيه "بيكاريا" في كتابه الشهير "في الجرائم والعقوبات" بالعقاب الوحشي عديم الفائدة، ورأى بعض المفكرين المسيحيين أن مشروعية هذه العقوبة تتنافى والتعاليم المسيحية الصادرة عن السيد المسيح، التي تقول إن الله لا يبتغي فقط إعدام المذنب، ولكنه يأمر المشرع بإصلاح حاله وتقويم اعوجاجه وفتح باب التوبة أمامه. وفي العصر الحديث، وفي أعقاب الثورة الفرنسية، وجدت دعوة إلغاء عقوبة الإعدام آذانا صاغية في العديد من الدول الأوروبية، حيث ذهب أنصار هذه الدعوة إلى التأكيد على عدم مشروعية أية عقوبة تتعدى حدود عالمنا الإنساني بحجة أنها تنفذ الإرادة الإلهية، معتبرين أن المشرع الذي يقرر عقوبة الإعدام يعتدي في حقيقة الأمر على قدرة الله وسلطانه، وأنه لا يجوز لأي كائن أن يسلب حياة إنسان وهب الله له هذه الحياة. إن الحق في الحياة يعتبر من أقدس حقوق الإنسان لارتباطه بغريزة حب البقاء المتأصلة في النفس البشرية، وباعتبار عقوبة الإعدام جزاء يحرم الإنسان من حقه في الحياة. وقد أثارت هذه العقوبة منذ بداية القرن الماضي (بل منذ أن صدر كتاب "في الجرائم والعقوبات" للفقيه الايطالي سيزار بيكاريا سنة 1964) زوبعة من ردود الفعل، تمخض عنها ظهور تيارين كبيرين، تيار يعارض هذه العقوبة ويندد بها ويدعو إلى الغائها، وتيار مضاد يدافع عنها ويحاول تبرير الابقاء عليها. في خضم هذين التيارين وما آثاراه في الرأي العام العالمي من تحيز لهذا الموقف أو لذلك، كان لا بد لهذا النقاش أن يخرج تدريجيا من إطاره الأصلي- ونعني بذلك الإطار الفقهي والفلسفي-إلى رحاب المجال القانوني والتشريعي على صعيد الدول، حيث بادرت بعضها إلى الغاء هذه العقوبة ومحو آثارها من قوانينها الوطنية، بينما اكتفى البعض منها بتقليص عدد الجرائم المعاقبة بالإعدام، في حين أبانت مجموعة كبيرة من الدول، معظمها من العالم السائر في طريق النمو، عن لا مبالاة مطلقة فيما يخص هذا الموضوع، لأنها تعتبر في صمت عقوبة الإعدام من أنجع الوسائل لفرض هيبة الدولة وحماية أنظمة الحكم. لأجل ذلك، نجد أنصار إلغاء عقوبة الإعدام يدافعون عن حياة الإنسان مهما كانت طبيعته، يؤكدون بمختلف الوسائل على المسؤولية الجماعية للمجتمع تجاه أفراده مهما كانت الأفعال التي يرتكبونها. ويقول أنصار الإلغاء إن المجتمع ليس في حاجة إلى عقوبة الموت للدفاع عن نفسه، فالقتل لا يمكن اعتباره هدفا لتحقيق العدالة... ويقولون: إذا كانت عقوبة الإعدام تحمي عدوى الجريمة باعتبارها أحد الأمراض التي تصيب هذا المجتمع أو ذاك، فلماذا لا تطبق أيضا على مرضى السل والكوليرا وغيرهم من المصابين بالأمراض المعدية، بحجة نقلهم العدوى إلى هذا المجتمع الطاهر السليم؟ ويقول أنصار الإلغاء أيضا إن عقوبة الإعدام يخشاها الناس الأسوياء الذين لا علاقة لهم بالجريمة أو العنف، إلا أنها لا أثر لها بالنسبة للمجرمين ومرضى العقول وغير الأسوياء، ومن هنا تفقد هذه العقوبة أي أثر لها. -3- حتى الآن، يكون النضال الإنساني من أجل إلغاء عقوبة الإعدام قد حقق بعض أهدافه، حوالي 108 دول ألغت عقوبة الإعدام في القوانين أو في الممارسة، 75 دولة منها ألغت هذه العقوبة في جميع أنواع الجرائم، و13 منها ألغتها في جرائم الحق العام فقط. في الاتجاه المعاكس لهذه الدعاوى، هناك رفض اجتماعي ديني لإلغائها. من جهة، يرى العديد من المفكرين والفلاسفة وعلماء الاجتماع أن الإعدام عقوبة توارثتها البشرية عهدا عن عهد، وحضارة عن حضارة، ودينا عن آخر، وإلغاؤها يتطلب شرطا يكاد يكون مستحيلا في الأرض، وهو تعميم الأمن والسلام في العالم، وإيقاف الحروب، وتمتيع كل البشرية بالحق في الغذاء والدواء والسكن والعيش الكريم... في الصين وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإيران والسعودية والولايات المتحدة%85 من مجموع الاعدامات في عالم اليوم. إن منظمة العفو الدولية أحصت 3847 شخصا صدرت أحكام إعدام في حقهم في 63 دولة خلال السنة الأخيرة من القرن الماضي. وقالت المنظمة إن العدد الاجمالي لعمليات الإعدام في العالم خلال سنة 1999 كان 2258، وإن دولا مثل إيران والولايات المتحدة كثفت عمليات الإعدام خلال تلك السنة. أما الصين فقد شهدت عمليات إعدام يفوق عددها مجموع عمليات الإعدام في دول العالم الأخرى مجتمعة خلال سنة 1999، وكان أحد المعدومين أدين بجريمة ارتكبها عندما كان قاصرا. وأفادت منظمة العفو بأن البلد الوحيد الآخر الذي أقدم على إعدام شخص ارتكب فعلته قبل سن الثامنة عشرة كان إيران، حيث أعدم 165 شخصا في سنة 1999 مقابل 99 سنة 1998. وتلقت المنظمة تقارير عن إعدام المئات في العراق، وقد وسعت دول مثل كوبا وعمان والامارات العربية المتحدة نطاق عقوبة الإعدام ليشمل أيضا الجرائم المتعلقة بالاتجار بالمخدرات والاعتداءات المسلحة أو إدخال سلع محظورة إلى البلاد. تبعا لهذه الوضعية، يرى العلماء والفقهاء والمختصون أنه من الصعب إلغاء هذه العقوبة في زمن تتوسع فيه مساحات الجريمة على الجسد الاجتماعي الإنساني بتوسع وسائل التواصل والمعرفة، فإضافة إلى جرائم الفساد المالي والأخلاقي والسياسي التي تنشط في خلايا هذا الجسد بكثافة وقوة، هناك جرائم الإرهاب، جرائم الأعراق والطوائف، جرائم الاعتداء على الأصول، سرقات الأبناك والمؤسسات المالية، الجرائم الناتجة عن استعمال المخدرات والكحول، الجرائم الناتجة عن الشعوذة، التي تشترط مواجهتها والتحكم فيها بعقوبة الإعدام. -4- وخارج مواقف العلماء والحكماء، هناك الموقف الصارم للإسلام من مسألة العقاب بالإعدام، حيث يصعب على دولة المؤمنين أن تلغي من شرائعها وقوانينها أمرا إلهيا، لقد نص الإسلام على حدود هذه العقوبة في: النفس بالنفس/ الزنى/ المفارق لدينه/ التارك للجماعة، وبذلك تتحول هذه العقوبة، إلى واجب ديني. يقول تعالى في كتابه العزيز: {ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب} صدق الله العظيم. ويقول سبحانه: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا، إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم أو أرجلهم من خلاف، أو ينفوا من الأرض} صدق الله العظيم. السؤال: هل ستتمكن الدول العربية والاسلامية من إلغاء هذه العقوبة المثيرة للجدل؟ وكيف؟ لا أحد يستطيع الجواب، ولكن مع ذلك، هناك مؤشرات تقول إن حوارا في الموضوع يجري اليوم وبعمق بين جمعيات هذه الدول ومنظماتها الحقوقية التي تطالب بإلغاء عقوبة الإعدام، وبين الحكومات التي كشف بعضها مؤخرا عن وجود توجه نحو تعديل مجموعة من التشريعات لتتلاءم مع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان... والتي تحاول الملاءمة بين الأحكام المتصلة بعقوبة الإعدام في هذه التشريعات، وبين آراء ونظريات الفقهاء وعلماء الدين وأساتذة علوم الشريعة التي ترفض الخروج عن ثوابت الإسلام. إن الآراء والنظريات المتنافرة والمتداخلة في هذه المسألة جعلت عبارة الكاتب الفرنسي لإمارتين حول الإعدام مرجعية لدعاة الرفض والقبول مرة واحدة: "إنه ليس الموت الذي يجب أن نتعلم كيف نخشاه، وإنما هي الحياة التي يجب أن نتعلم كيف نحترمها".