(3/4) دعوى أن التعريب لا دخل له في فشل نظامنا التعليمي: في ردّه على من يقول بأن التعريب خرّب تعليمنا، يقول الدكتور شحلان: «الذي خرب تعليمنا هو الجهل بوجود المخزون المصطلحي (يقصد للغة العربية)، هو التكوين الأجنبي لمن يضع المخططات الدراسية أو من يأمر بفعلها، هو صعوبة تلقين العلوم بالعربية على من قل زادهم فيها. افتحوا أقساماً جامعية تجريبية في تعليم العلوم المذكورة، يشرف عليها أساتذة أكفاء في اللغة العربية، وبهذه المعاجم التي ذكرنا، وسترون أي الأقسام أكثر استيعاباً، التي تعلم بالعربية أم تلك التي تعلم بلغة غيرها». رغم أن مسؤولية التعريب على فشل المنظومة التربوية في المغرب شيء مؤكد، تكفي لإثباته المقارنة البسيطة والدكتور شحلان مؤهل لإجراء هذه المقارنة لأنه عايش كل مراحل تطور النظام التعليمي المغربي بين مستوى تلميذ لسنوات السبعينيات بالسنة الأولى من التعليم الثانوي (يقابله الجذع المشترك)، وتلميذ في القرن الواحد والعشرين بالسنة النهائية من التعليم الثانوي التأهيلي (السنة الثانية باكالوريا). وستكون النتيجة صاعقة وصادمة، قد لا يصدّقها من لم يعايش تدهور النظام التعليمي منذ ثمانينيات القرن الماضي إلى اليوم، كما خبره وعايشه الدكتور شحلان وكاتب هذه السطور، وهو ما يسمح لنا، نحن الاثنين، بإجراء المقارنة التي أشرت إليها، لأننا نتوفر على كل عناصرها الخاصة بالمجموعتين من التلاميذ: المجموعة لما قبل تعريب التعليم، والمجموعة لما بعد هذا التعريب. تُبرز هذه المقارنة أن الكفاءات اللغوية للتلميذ الأول، في الكلام والقراءة والكتابة، بالفرنسية والعربية واللغات الأجنبية المدرّسة، وفهم نصوصها المكتوبة وتحليلها ومناقشتها، تفوق كفاءات التلميذ الثاني المتقدم في مستواه التعليمي عن الأول بسنتين. نكتفي بالاستشهاد بالكفاءات اللغوية دون غيرها، لأننا، أولا، بصدد مناقشة موضوع لغوي وهو لغة التدريس، وثانيا لأن من يملك كفاءات في اللغة فهو، باعتبار اللغة الوجه الآخر للفكر، يملك بالتأكيد أو يسهل عليه أن يملك كفاءات أخرى في مجالات معرفية أخرى. وعندما نبحث عن سبب هذا التدهور للتعليم، والذي تكشف عنه هذه المقارنة، سنجده يكمن في متغيّر بارز يشكّل الفارق بين ما كان عليه التعليم من مستوى جيد ومتقدّم، وبين ما هو عليه اليوم من رداءة وتخلّف. هذا المتغيّر هو فرض العربية كلغة للتدريس في الابتدائي والثانوي بسلكيه الإعدادي والتأهيلي. فكان ذلك بداية للسقوط بل للسقطة الحر للتعليم في المغرب. نعم نعترف أن هناك عوامل أخرى لهذا السقوط، لكن دورها كان ثانويا وغير مباشر، عكس التعريب الذي كان بمثابة الضربة القاضية والقاصمة، والسببَ الفوري المباشر. أما التعريبيون، ومنهم الدكتور شحلان والدكتور الكنبوري، فيرجعون، كما هو معلوم، تدهور التعليم، ليس إلى لغة التدريس، بل إلى قرارات تخص سياسة التعليم يتخذها مسؤولون فرنكوفونيون ومعادون للعربية، حسب رأيهم. ويُستنتج من كلام الدكتور شحلان عندما يقول: «افتحوا أقساماً جامعية تجريبية في تعليم العلوم المذكورة، يشرف عليها أساتذة أكفاء في اللغة العربية، وبهذه المعاجم التي ذكرنا، وسترون أي الأقسام أكثر استيعاباً، التي تعلم بالعربية أم تلك التي تعلم بلغة غيرها»، أنه لا يفرّق بين الدور الحاسم للغة التدريس في مرحلة التعليم الابتدائي والثانوي ودورها العادي في مرحلة التعليم الجامعي. ولهذا فهو يطرح تدريس العلوم بالعربية على مستوى التعليم الجامعي. مع أن العربية ليست مشكلا أن تُدرّس بها العلوم في الجامعة ولا أن يكوّن بها الأطباء والمهندسون في هذا المستوى من التعليم العالي. هي مشكل فقط في مرحلة التكوين الأساسية، التي تشمل التعليم الابتدائي والثانوي. لماذا؟ «لأن في هذه المرحلة، الممتدة من التعليم الأولى حتى نهاية مستوى التأهيلي (الباكالوريا)، يتشكّل تفكير التلميذ ويكتسب المهارات المعرفية الأساسية، وتتبلور رؤيته للعالم وفهمه للأشياء والمجتمع والتاريخ... وعندما تتدخّل لغة نصف حية في إنتاج هذا التفكيرَ، وصنع هذه المهارات وصوغ هذه الروية والفهم، فإن كل هذه المقوّمات، من تفكير ومهارات ورؤية وفهم، تكون هي نفسها نصف حية، أي قاصرة وناقصة ومتخلفة ومتجاوزة وغير صالحة، نظرا لتأثير اللغة على تشكّل الفكر ونموّ التفكير. وهذا ما يجعل العربية غير ملائمة أصلا لاكتساب العلوم الحقة، من فيزياء وكيمياء وفلك وطب وبيولوجيا وهندسة... نعم يمكن لعالِم تلقى تكوينه العلمي بلغة حية ومتداولة، أن يستعمل العربية في مرحلة لاحقة، كأن يدرّس بها في المستوى الجامعي، لأنها لن تعيقه عن اكتساب العلم الذي سبق أن حصّله باستعمال غير اللغة العربية» (من مقال: "لِمَ التدريس بالعربية...؟) ولهذا فإن ما يدعو إليه الدكتور شحلان من مقارنة بين نتائج تدريس العلوم بالعربية بأقسام جامعية، وبين نتائج أقسام من نفس المستوى تُدرّس تلك العلوم بلغات أخرى، غير مجدٍ وخارج الموضوع الذي يخص لغة التدريس الأنسب والأفضل، حتى لو أثبتت مقارنة النتائج أن الأقسام العربية متقدّمة عن الأقسام التي تستعمل غير اللغة العربية. ستكون المقارنة مجدية بين أقسام جامعية لتدريس العلوم بالعربية أو بغيرها، وبطلبة درسوا في المرحلة الابتدائية والثانوية بغير العربية، وبين أقسام أخرى من نفس الشعبة ونفس المستوى الجامعي ونفس لغة التدريس، لكن بطلبة درسوا في المرحلة الابتدائية والثانوية باللغة العربية. فالأكيد أن نتائج الطلبة الذين كانت لغة دراستهم الابتدائية والثانوية هي العربية، ستكون أضعف من نتائج الذين كانت لغة دراستهم الابتدائية والثانوية هي غير العربية. فالعربية قاصرة، لكونها ليست لغة أم ولا تُستعمل في التخاطب، فقط كلغة أساسية للتكوين الأساسي، الذي يشمل المرحة الابتدائية والثانوية. أما بعد هذه المرحلة، فهي تصلح، مثل اللغات الأخرى، لتدريس العلوم في الجامعة وتكوين الأطباء والمهندسين. وفي دفاعه عن التعريب والعربية الفصحى يقول الدكتور الكنبوري في إحدى تدويناته على "الفايسبوك": «من عناصر هذا الخطاب (يقصد الخطاب الداعي إلى الاستعمال المدرسي للدارجة) أن فشل سياسة التعريب في المغرب دليل على فشل الفصحى. [...] نحن نقول إن سياسة التعريب ليست وحدها من فشلت. فشلت سياسات كثيرة منها سياسة التصنيع وسياسة التقويم الاقتصادي وغيرها من السياسات. فشل سياسة التعريب سببه "السياسة" لا التعريب». نعم، صحيح أن سياسة التصنيع وسياسة التقويم الاقتصادي وغيرها من السياسات فشلت. لكن لماذا فشلت؟ لأن التعليم، الذي هو الصانع للإنسان الكفء والمؤهل لإنتاج أسباب الثروة والتنمية الاقتصادية، والذي (الإنسان) هو شرط لكل سياسة تصنيع ناجحة، ولكل تخطيط اقتصادي ناجح، فشل فجرّ معه، كتداعيات لفشله، فشلَ كل السياسات ذات الارتباط بما هو اقتصادي وتنموي. ولماذا فشل التعليم في صنع هذا الإنسان الكفء المؤهل؟ لأن لغة التدريس التي هي العربية، غير كفأة ولا مؤهلة لتكوين إنسان بكفاءات ومهارات ومعارف يتوقف عليها نجاح سياسات التنمية والتقدم لبلد ما. ويضيف الدكتور الكنبوري في نفس التدوينة، وبشأن نفس الموضوع، ليٌقنعنا أن الدعوة إلى الدارجة مشروع فاشل: «سياسة التعريب فشلت، رغم أن العربية الفصحى موجودة من قديم، ولنقل فقط منذ 1956 [...]. كيف فشلت سياسة تعليمية لغتها قائمة من زمان وتنجح سياسة لغتها مجرد مشروع؟». إذا كانت سياسة التعريب قد فشلت رغم أن العربية قائمة منذ زمان، أفليس ذلك بكافٍ لوحده لإعطاء المشروعية لتجريب الدارجة كبديل عن العربية الفاشلة؟ الدكتور الكنبوري يستغرب من الدعوة إلى الدارجة لإنقاذ التعليم الذي أفشلته العربية الفاشلة، مع أن ما كان سيثير الاستغراب حقا هو الإصرار على الاستمرار في ممارسة ما ثبت فشله، ورفض اللجوء إلى حلول ممكنة للخروج من هذا الفشل. فحسب هذا الموقف للدكتور الكنبوري، لا ينبغي إذن على الإنسان أن يتعلّم من الأخطاء ويعمل على تصحيحها وتجاوزها، بل عليه الحفاظ على نفس الأخطاء ومواصلة تكرارها وإعمالها. وهذا ما حدث بالفعل مع تعريب التعليم بفرض العربية لغة للتدريس: فجميع المسؤولين والسياسيين يعرفون ويعترفون أن ذلك كان خطأ قاتلا للتعليم. ولكن لا أحد يمتلك الشجاعة لتصحيح هذا الخطأ. ولتبرئة العربية كلغة للتدريس من مسؤوليتها في تدنّي مستوى أداء النظام التعليمي في المغرب، يقول الدكتور الكنبوري في تدوينة أخرى: «لنكن صرحاء. اللغة لم تكن مشكلة أبدا ولن تكون. الطفل لديه قدرات للتعلم بأي لغة كانت. في المرحلة الاستعمارية كانت فرنسا تذهب إلى الأطفال في البوادي النائية وتدخلهم إلى المدرسة وهم لا يعرفون كلمة واحدة بالفرنسية. لذلك كان الجيل الأول والثاني أكثر تعليما وأكثر كفاءة. في مرحلة الاستقلال كان التعليم بالعربية الفصحى. وكان الطفل لا يعرف كلمة واحدة بالفصحى، لكن التعليم كان قويا وأعطى نتائج. أنا درست على يد أحمد بوكماخ في مقرراته العبقرية الفذة وبدأت كتابة الشعر في السنة الأولى إعدادي، وكان معي تلاميذ جهابذة في الشعر والأدب والمسرح. لم نسمع أبدا أن هناك مشكلة في اللغة». كل هذا صحيح، لكن بعد تصحيحه: نعم الطفل لديه قدرات للتعلم بأية لغة. لكن بشرط أن يكون متمكّنا من لغته الفطرية الأولى (لغة الأم) كلغة أساسية للتعلم أو عند غيابها من لغة ليست لغته الفطرية ولكن لها أصلا وضع لغة أم ، والتي عبرها وانطلاقا منها يسهل عليه تعلم أية لغة أخرى والتعلم بها. وغياب لغة مثل هذه، أي كلغة أم للتلميذ أو كلغة لها وجود كلغة أم لغير التلميذ، تكون لغة التدريس والتعلم بالنسبة للتلميذ المغربي، هو الذي يفسّر ضعف تعلّمه بالعربية وباللغات الأجنبية الأخرى، لأن لغته الأساسية، التي هي العربية، لا تتمتع بوضع لغة أم لأحد في كل الدنيا، ولا لغة التخاطب في الحياة، بل هي لغة الكتابة فقط، مما يجعل منها لغة نصف حية أو نصف ميتة، كما قلت وكررت، وهو ما يفسّر إعاقتها وقصورها اللذيْن تنقلهما إلى من يتلقّى تكوينه الأساسي بها. نعم، في فترة الاستعمار الفرنسي كانت فرنسا تذهب إلى الأطفال في البوادي النائية وتدخلهم إلى المدرسة وهم لا يعرفون كلمة واحدة بالفرنسية. لذلك كان الجيل الأول والثاني أكثر تعليما وأكثر كفاءة. وهذا صحيح لأن لغة التدريس، التي هي الفرنسية التي ليست لغة أم للتلميذ إلا أنها، كما سبق أن شرحت، موجودة أصلا كلغة أم بالنسبة للفرنسيين، وموجودة كلغة تخاطب في الحياة، وهو ما يجعل التعلّم بها لا يختلف إلا قليلا، من حيث دور اللغة وفاعليتها، عن لغة الأم حتى بالنسبة للتلميذ غير الفرنسي. والشاهد على ذلك، كما سبق شرح هذه المسألة، أن التلميذ المغربي الذي يتقن الفرنسية يستطيع استعمالها في التخاطب مع مغاربة آخرين يتقنونها. في حين أن المغاربة الذين يتقنون العربية الفصحى لن يستعملوها في التخاطب في ما بينهم، لأنها لم تعد تقوم بوظيفة التخاطب، بعد أن أصبح استعمالها محصورا ومقصورا على ما هو كتابي فقط. أما أن «في مرحلة الاستقلال كان التعليم بالعربية الفصحى. [...] لكن التعليم كان قويا وأعطى نتائج»، فهذا غير صحيح إطلاقا. فالمشكل لا يتعلق بالعربية كلغة تدرّس، وهو ما كان متاحا وممارسا منذ الاستقلال. وإنما المشكل هو لغة التدريس، والتي كانت، كما يعرف الدكتور الكنبوري، هي الفرنسية منذ السنة الثالثة ابتدائي في كل نظام التعليم العمومي العصري، والتي كانت تدرّس بها ليس المواد العلمية فقط كالرياضيات (الحساب كما كان يُسمّى في ذلك الوقت) والعلوم الطبيعية، وإنما حتى المواد الأدبية مثل الاجتماعيات والفلسفة في التعليم الثانوي. ولهذا لا بد من التدقيق والتوضيح والتصحيح أن التعليم إذا كان «قويا وأعطى نتائج»، في تلك الفترة التي تلت الاستقلال، كما يقول الدكتور الكنبوري، فذلك لأن لغة التدريس كانت هي الفرنسية وليس العربية التي لم تكن سوى لغة تُدرّس. ونفس الشيء يقال عن فترة مقررات أحمد بوكماخ. فطيلة هذه الفترة التي كانت تُستعمل فيها كتب بوكماخ، كانت لغة التدريس هي الفرنسية وليس العربية. وإذا كان هناك «تلاميذ جهابذة في الشعر والأدب والمسرح»، فذلك لأن العربية كانت تُدرس كلغة بجانب الفرنسية كلغة للتدريس. وهو ما جعل التلاميذ يستوعبونها كلغة، عكس تلاميذ اليوم الذين هم أقل تمكّنا في العربية من نظرائهم لتلك الفترة، رغم أن العربية هي اليوم لغة التدريس. لماذا؟ لأن العربية تُدرّس اليوم، ليس كلغة كما كانت في تلك الفترة، بل كإيديولوجيا وهوية مفروضة كلغة للتدريس، ترمي ليس إلى جعل التلميذ يتقن هذه اللغة ويعبّر بها كتابة، بل إلى جعله عربيا، انتماء وهوية، قلبا وعقلا، شعورا ووجدانا. فضاعت اللغة العربية، رغم كونها لغة التدريس، ونجحت العروبة ونجح التحويل الجنسي للمغاربة من جنسهم الأمازيغي الإفريقي إلى جنس عربي أسيوي من خلال فرض العربية كلغة للتدريس، أي كهوية عربية وإيديولوجيا تعريبية تمارس عملية التحويل الجنسي على المغاربة. وقمة الجهل الأكاديمي عند العديد من هؤلاء الأكاديميين التعريبيين، والذي تغذّيه نظرية المؤامرة، هي أنهم يقولون إن الدعوة إلى تبنّي الأمازيغية والدارجة كلغتين مدرسيتين هي دعوة فرنكوفونية، ترمي إلى التمكين للغة الفرنسية عندما لا تجد لها ندّا ولا منافسا في مستوى اللغة العربية. مع أن الحقيقة هي أن التدريس بالعربية هو الذي يمكّن للفرنسية ويرفع من قيمتها في السوق اللغوية بالمغرب. لماذا؟ لأن العربية، بعد أن فقدت وظيفة التخاطب في الحياة، فقدت ما كان سيجعل منها ندّا حقيقيا ومنافسا يهدّد بجدية الفرنسية. ولهذا نجد أن التلميذ المغربي، ورغم أنه يدرس الفرنسية كلغة والعربية كلغة للتدريس، إلا أنه يستطيع استعمال هذه الفرنسية في التخاطب في السوق والمقهى مع من تعلّموها من المغاربة، والتحدّث بها كذلك في الشارع بفرنسا إذا سافر إليها. لكنه لا يستطيع، كما سبقت الإشارة، التخاطبَ في الشارع بالعربية مع من يتقنونها قراءة وكتابة، لا في المغرب ولا في بلد عربي. وهنا يظهر تفوّق الفرنسية، كلغة حية تُستعمل في التخاطب، على العربية كلغة تستعمل في الكتابة فقط ولا تستعمل في التخاطب، مما يجعل منها لغة معاقة، نصف حية أو نصف ميتة، وعاجزة بالتالي على أن تكون ندّا ومنافسا للفرنسية. وهذا ما يوفّر كل الفرص والشروط لهيمنة الفرنسية. ولهذا فإن اللغتين الوحيدتين القادرتين على منافسة الفرنسية وطردها وإزاحتها من عرشها اللغوي في المغرب، هما الأمازيغية والدارجة. لماذا؟ لأنهما، مثل الفرنسية وعكس العربية، تؤدّيان وظيفة التخاطب الشفوي في الحياة. فإذا توفرت الإرادة السياسة لاستعمالهما كلغتين مدرسيتين وكتابيتين، فإن الفرنسية ستختفي تلقائيا من المغرب كلغة مهيمنة في أجل قد لا يتعدّى ثلث قرن من الزمن. لماذا؟ لأن وظيفة التخاطب التي تقوم بها الفرنسية كلغة حية، والتي لا تستطيع أن تقوم بها العربية، مما يجعل الأولى مهيمنة ومتفوّقة، ستقوم بها الأمازيغية والدارجة اللتان ستكتسبان، بولوجهما المدرسة والتعليم، وظيفة الاستعمال الكتابي، مما سيؤهّلهما لأن تقوما بكل وظائف الفرنسية، من تخاطب وكتابة. كل هذا يبيّن ويؤكّد أن التعريب سياسة فرنكوفونية تخدم اللغة الفرنسية، وأن المناوئين للأمازيغية والدارجة باسم الدفاع عن العربية، هم مدافعون عن الفرنسية. والخطير في هذا الدفاع عن الفرنسية هو أن أصحابه، التعريبيين المتحوّلين، يمارسونه دون وعي بذلك في الغالب، لأن الإيديولوجية التعريبية أعمت أبصارهم وبصائرهم. دعوى أن الدارجة لا تملك مصطلحات علمية: كذلك يقول هؤلاء الرافضون لولوج الدارجة إلى المدرسة إن هذه الدارجة لا تملك مصطلحات علمية، ولا تراكما ثقافيا، ولا غنى معجميا ليسمح ذلك باعتمادها لغة مدرسية. يقول الدكتور شحلان: «وهذا لا يصدق على "الدوارج" المصطبغة بصبغة المحلية، الخالية تماماً من مدونات المصطلح العلمي بطبيعتها الوظيفية المياومة. وإنما يصدق على اللغة الموَحَّدَة المقعَّدة ذات التراكم المعرفي الشامل». ويقول الدكتور الكنبوري: «إن الدارجة في المغرب لا يمكن أن تكون "لغة" للتدريس للأسباب المعروفة، أنها تفتقر إلى معجم مستقر ولا تتوفر على قواعد منضبطة يمكن الجريان عليها وليست لديها قابلية للارتفاع إلى مستوى الأداء المعرفي». وقد سبق للأستاذ العروي أن قال بأن الدارجة لا تتوفر على نصوص لتدريسها للتلميذ. التذرع، لرفض تدريس الدارجة والتدريس بها، بفقرها المعجمي والمصطلحي وعدم توفّرها على تراكم ثقافي، يعبّر عن نظرة سكونية ولا زمانية إلى اللغة الدارجة، تساوي بين زماني ما قبل وما بعد تدريسها واستعمالها الكتابي، أي تنظر إليها حتى بعد تدريسها واستعمالها الكتابي، ليس كما ستكون بعد هذا التدريس والاستعمال الكتابي وبسببهما، بل كما هي الآن، أي كلغة شفوية، محرومة من المدرسة ومن الاستعمال الكتابي. ومن الطبيعي أن لغة بهذا الوضع لا يمكن إلا أن يكون معجمها فقيرا وتراكمها الثقافي منعدما وغائبا. وهذا ما كانت عليه العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية (الفشتالية) والكورية واليابانية ووو، قبل أن تدخل عالم الكتابة والتعليم. فما يجعل اللغة تكتسب مصطلحات جديدة وتُراكِم إنتاجا ثقافيا هو تعليمها المدرسي قصد استعمالها الكتابي، الذي يفتح لها الباب الواسع للإنتاج الثقافي والفكري، مع ما يصاحبه ويؤدي إليه من تهذيب معجمها وإغناء مصطلحاتها، والارتقاء بها إلى لغة لنقل وإنتاج الفكر والمعرفة والعلم والثقافة. فلا معنى إذن للقول، لرفض تدريس الدارجة، إنها لا تملك مصطلحات علمية ولا تراكما ثقافيا، ذلك أن وضعها هذا، كلغة بلا مصطلحات علمية ولا تراكم ثقافي، هو الذي يعطي الشرعية والمشروعية لإدماجها في التعليم وجعلها لغة كتابية ليمكّنها ذلك من إنتاج واستعمال المصطلحات العليمة، والإبداع في المجال الثقافي والفكري بفضل ارتقائها إلى وضع لغة كتابية. ولهذا لا يمكن الحكم على الدارجة كما هي اليوم، بدون مصطلحات ولا تراكم ثقافي. فلا معنى لهذا الحكم إلا بعد أن تستفيد من المدرسة والكتابة لمدة كافية لأن تجعلها تعيد إنتاج نفسها كلغة مدرسية وكتابية. وباستعمالها المدرسي والكتابي المتواصل، ستخضع تلقائيا لعملية تهذيب وتطوير يؤديان، تلقائيا كذلك، إلى الاحتفاظ على ما هو أنسب وأصلح، معجما ومصطلحا وتعبيرا، وهو ما سيسمح لها بإنتاج واستعمال مزيد من المصطلحات والمفاهيم حسب مجالات المعرفة التي ستُستعمل فيها الدارجة كلغة مدرسية وكتابية. فإذا كانت المدرسة لن تصنع لغة دارجة جديدة، لأن هذه موجودة خارج المدرسة، إلا أنها، كما يجري العمل مع كل اللغات الحية (المستعملة في الكتابة وفي التخاطب في الحياة)، ستصنع مستواها الكتابي، بإكراهاته الإملائية والتعبيرية والمصطلحية، دون أن يعني ذلك أن هذا المستوى الكتابي هو لغة جديدة تختلف عن الدارجة الشفوية، كما في حالة اللغة العربية التي لا تملك إلا مستوى واحدا هو المستوى المدرسي الكتابي، بسبب فقدانها النهائي والأبدي لوظيفة التخاطب الشفوي في الحياة. ولهذا فإن تساؤل الدكتور مصطفى بنحمزة (انظر مقاله ب"هسبريس") «عن ألفاظ عامية بإمكانها أن تنوب مناب كلمات من مثل الذمة والأهلية والسبر والتقسيم وتنقيح المناط وغيرها من كلمات المعجم الأصولي»، لا معنى له إلا بالنسبة للوضعية الحالية التي توجد عليها الدارجة كلغة محرومة من المدرسة ومن الكتابة. أما عندما تلج المدرسة والكتابة، فإن الممارسة المدرسية والكتابية ستجعلها، كما أشرت، تنتج الألفاظ التي تحتاج إليها للتعبير عن المفاهيم الجديدة الخاصة بمجال معرفي معيّن. وفي هذه الحالة، المتعلقة بالمفاهيم الأصولية التي مثّل بها الدكتور بنحمزة، يمكن للدارجة أن تنحت ألفاظا جديدة تنتمي إلى معجمها الأصلي، للتعبير عن هذه المفاهيم الأصولية، أو تكتفي بالاحتفاظ على تللك الألفاظ العربية نفسها وتتبنّاها كألفاظ جديدة تغني معجمها ومصطلحاتها، كما فعلت العديد من اللغات، كالعربية نفسها التي تبنّت، حديثا، ألفاظا أجنبية مثل: ديموقراطية، برلمان، ديكتاتورية، تكنولوجيا...، وكما فعلت قديما بالنسبة لألفاظ مثل: شيطان، جهنم، زمهرير، برنامج، سلسبيل... فمشكلة المفاهيم والمصطلحات لا تُطرح إذن إلا بالنسبة لأصحابنا الذين يتصوّرون أن الدارجة ستدخل إلى المدرسة بوضعها الحالي، الذي هو وضع غير مدرسي وغير كتابي، لتستمر على نفس الوضع، أي كلغة غير مدرسية وغير كتابية. التناقض هنا ناتج عن النظرة السكونية واللازمانية إلى الدارجة، والتي تجعل أصحابها ينظرون إلى هذه الدارجة، وهي تدرّس وتُكتب، على أنها نفس الدارجة المحرومة من المدرسة ومن الكتابة. مع أنهم لو استطاعوا النظر إلى الموضوع أبعد من الأرنبة التعريبية لأنوفهم، لأدركوا أن جميع اللغات، التي تستعمل اليوم في إنتاج العلم والثقافة والفكر والتكنولوجيا، بدأت كالدارجة، أي كلغات شفوية وفقيرة في مفاهيمها ومصطلحاتها. لكن بفضل التعليم والكتابة، وصلت إلى ما هي عليه اليوم. ويكفي أن نذكّرهم، مرة أخرى، أن اللغة المالطية، وهي في الأصل لهجة مغاربية تونسية لا تختلف كثيرا عن الدارجة المغربية، كانت إلى حدود 1934 أضعف وأفقر، من حيث المصطلحات والمفاهيم المجردة، من الدارجة المغربية الحالية بسبب انقطاع علاقتها بالعربية وبالعالم العربي والإسلامي منذ أن استولى المسيحيون على "مالطا" في أواخر القرن الحادي عشر (انظر مقالنا حول اللغة المالطية على رابط "تاويزا"). لكن منذ أن قررت الدولة المالطية استعمالها ابتداء من 1934 كلغة رسمية للدولة وفرضتها كلغة مدرسية وكتابية، أصبحت اليوم لغة العلم والاقتصاد والتكنولوجيا والطب والهندسة، بل أصبحت إحدى اللغات الرسمية للاتحاد الأوروبي. فهل تساءل دكاترتنا عن الطريقة التي تعاملت بها الدارجة المالطية مع المصطلحات العلمية والمفاهيم الفكرية المجردة، وهي التي لم تكن قبل ولوجها إلى المدرسة والكتابة، سوى مجرد لهجة شفوية بدائية لا تصلح لنقل المعرفة ولا لإنتاجها؟ دعوى أن اعتماد الدارجة سيُحدث قطيعة مع التراث: (يُتبع)