تعرف بعض المدن المغربية ظاهرة لافتة تتمثل في الدراجات النارية الضخمة التي أصبحت تجوب شوارع هذه المدن بكل ما تحدثه من ضوضاء، ونوعية راكبي هذه الدراجات الهادرة بلباسهم المثير، وأشكالهم المتميزة وما يعكس ذلك من تمظهر اجتماعي خاص. ركوب الدراجات النارية الضخمة وتكريس التمظهر الاجتماعي لقد عرفت شوارع العديد من المدن الأوربية والأمريكية، على الخصوص في منتصف ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ظاهرة اقتناء بعض شرائح الشباب الغربي لهذه الدراجات النارية الضخمة كدراجات هارلي دافيدسون”، دافعهم في ذلك تأثير حركة التمرد السياسي التي عرفتها هذه الدول في ستينيات القرن الماضي والتي استهدفت بالخصوص انتقاد تغول المجتمع الاستهلاكي وتداعيات حرب الفيتنام، بالإضافة إلى حركة الهيبيين. وبالتالي، كان لجوء الشباب إلى اقتناء هذا النوع من الدراجات تمردا على التقوقع داخل هياكل السيارات الفارهة والمقفلة، لركوب دراجات نارية تحقق الإحساس بالحرية والانطلاق نظرا لسرعتها، وقوتها في قطع مسافات خارج زحمة المدن باختناقاتها المرورية. وبالتالي، فقد تكونت مجموعات من هؤلاء الشباب بلباسهم المتميز وأسلوب حياتهم في الاختلاط بين الجنسين، حيث كانوا يتنقلون بين المدن وينطلقون في الشوارع متحررين من مختلف القيود الاجتماعية ومتمردين على نمطية المجتمع الاستهلاكي وتشييئه للجانب الإنساني وتسليعه للقيم المدنية. وقد اشتهرت من بين هذه المجموعات الأمريكية المتسكعة على الخصوص مجموعة الباتنيك التي عرفت بنظامها الاجتماعي الخاص وبطريقة عيشها المتميز، وبنزعتها المتمردة وعشقها لأغاني بوب ديلن وغيره . وعلى هذا الغرار، انتشرت سياقة مثل هذه الدراجات الضخمة في بعض شوارع المدن الأوروبية كلندن وباريس وغيرها من العواصم الشيء الذي عكسته أغنية إديت بياف (l'homme à la moto ) المقتبسة من الأغنية الأصلية للمجموعة الأمريكية Diamonds Collection التي تعكس مقاطعها التالية : He wore black denim trousers and motorcycle boots And a black leather jacket with an eagle on the back He had a hopped-up 'cicle that took off like a gun That fool was the terror of Highway Il portait des culottes des bottes de moto Un blouson de cuir noir avec un aigle sur le dos Sa moto qui partait comme un boulet de canon Semait la terreur dans la region نوعية لباس هذه الشريحة من الشباب وتبطن فلسفتهم في الحياة خاصة في أمريكا . وبالتالي، فليس من الغريب أن الشبيبة المغربية من الجنسين، التي تكونت سواء في الجامعات الأمريكيةبالولاياتالمتحدة أو في كندا، أن تعود إلى المغرب متأثرة بهذا النمط الأمريكي في الحياة وتفضيل هذه النوعية في السياقة. من المعروف أن السيدة مريم بنصالح، الرئيسة السابقة للاتحاد العام للمقاولين المغاربة وصاحبة مجموعة هوراكوم التي تضم شركة ولماس وسيدي علي، تعتبر من هواة سياقة دراجة هارلي دافسون، حيث تناقلت الصحف والمواقع الإلكترونية صورا خاصة لمريم بنصالح وهي تقود طائرتها الخاصة أو درّاجات نارية من الحجم الكبير (هارلي)... كما أن السيدة دليلة مصباح، التي تعد المؤسسة لأول جمعية نسائية بالمغرب تحمل اسم "ميس موتو ماروك"، قد سبق لها أن عاشت جزءا من حياتها بالولاياتالمتحدة، وتأثرت بالنمط المعيشي هناك؛ وهو ما دفعها، بعد عودتها للاستقرار بالمغرب، إلى إنشاء ميس موتو ماروك. فبعد مشاركاتها في تظاهرات عالمية سواء في الولاياتالمتحدةالأمريكية أو أوروبا، أسست جمعية خاصة للنساء المغربيات الهاويات لركوب هذا النوع من الدراجات النارية الضخمة، حيث تعد هذه الجمعية هي الأولى من نوعها على هذا الصعيد. ويبدو أن تنظيم هذه الجمعية لمجموعة من التظاهرات الخاصة بسباق الدراجات النارية الكبيرة قد أسهم في تمدد هذه الظاهرة وانتشارها في مدن كمراكش والدارالبيضاء وبعض مدن الشمال. كما أن تنظيم معارض للسيارات تتضمن أروقة لبيع الدراجات النارية الكبيرة أسهم هو أيضا في انتشار هذه الظاهرة. ويأتي هذا الإقبال الكبير على اقتناء الدراجات النارية خلال جميع نسخ المعرض الدولي للسيارات، “أوطو إكسبو”، خصوصا علامات “هارلي دافيدسون” و”ياماها” و”كوازاكي”، نظرا لصغر حجم هذا الناقل، واستجابته لإكراهات السير والجولان في المدن الكبرى. وهكذا، تعكس هذه الظاهرة تجلي من تجليات نمط معيشة شريحة اجتماعية محدودة تتميز بدخلها المرتفع يمكنها من اقتناء مثل هذه الدراجات الضخمة، التي يتراوح سعرها ما بين 49 ألف درهم ليصل إلى 270 ألفا، ومستواها العمري الشبيبي حيث يتراوح سن هؤلاء السائقين والسائقات في أغلب الأحيان بين 18 سنة و40، وبسلوكية خاصة تتمثل في البحث عن روح المغامرة، والانطلاق وعشق السرعة في محيط اجتماعي يتميز في غالبيته بالدخل المحدود، وتدني المستوى المعيشي وكثرة حوادث السير المميتة على الطرقات. وهذا ما يجعل تحرك هذه الشريحة بنسائها ورجالها في شوارع هذه المدن يتخذ طابع استعراض اجتماعي بمختلف تمظهراته الاجتماعية والطبقية. ولعل السرعة التي تميز انطلاق هذه الدراجات في شوارع مكتظة بمختلف أنواع الناقلات، والهدير الذي تحدثه هذه الدراجات غالبا ما تحركه نزعة هذه الشريحة في حب الظهور ولفت الانتباه لتكريس إحساسها بنوع من التميز الاجتماعي يشابه "تبوريدة الفرسان " من أعيان القرى والمداشر . ولعل بارود التبوريدة عادة ما يشابه هدير دراجات أبناء أعيان المدن الجدد ما دام أن عقلية التبوريدة وحب الظهور هي التي تحرك سلوكية كلا الشريحتين. ركوب الدراجات النارية الضخمة وتكريس التلوث السمعي الاجتماعي إن أغلب المدن في المغرب تتميز ليس فقط باكتظاظ ساكنتها، بل أيضا بانتشار نفاياتها واتساخ شوارعها وأزقتها بسبب رمي السائقين لأعقاب سجائرهم، وبقايا مقتنياتهم عبر نوافذ سياراتهم ومركباتهم بالإضافة إلى انتشار أدخنة محركاتهم نتيجة تقادم هياكلها أو بسبب الاختناقات المرورية. لكن شوارع هذه المدن تعاني، إلى جانب هذا التلوث البيئي، من الضجيج التي تحدثه منبهات السيارات بمختلف أحجامها وأشكالها، بالإضافة إلى هدير مختلف الدراجات النارية الصغيرة الحجم التي تعتبر وسيلة التنقل المفضل لشرائح شعبية واسعة، والدراجات النارية المتوسطة الحجم اليابانية وخاصة الصينية التي غزت السوق المغربية نظرا لرخص أسعارها. وكل ذلك يسهم في الرفع من نسبة التلوث السمعي في هذه المدن؛ لكن هذا التلوث السمعي تحول إلى تلوث ضوضائي بعدما اقتحمت هذه الدراجات النارية الضخمة شوارع وأزقة هذه المدن بهدير محركاتها المزعج، وصدى أصوات سرعتها القوي الذي عادة ما يقلق راحة الساكنة خاصة في الليل، حيث يسمع هدير هذه الدراجات لمسافات بعيدة. ولعل هذا التلوث السمعي تكون له عدة انعكاسات سلبية وإن كانت خفية على الصحة النفسية والبدنية للساكنة بمختلف شرائحها وأعمارها، إذ إن الضوضاء الشديدة تزيد من ارتفاع ضغط الدم بتأثيرها على الأوعية الدموية الصغيرة في القلب؛ وهو ما يؤدي إلى انقباضها ويفضي إلى الشعور بالصداع. ولقد ذهب بعض الأطباء إلى أن الأصوات المرتفعة قد تؤدي إلى الوفاة اختناقاً بالنسبة إلى مرضى القلب والقولون العصبي. كما أضاف الأطباء أن هذا النوع من التلوث يزيد من تفاقم قرحة المعدة والاثنى عشر، حيث تفرز المعدة الحساسة والجهاز العصبي المرهف حمضاً لمواجهة سماع هذه الأصوات. وأيضاً تحدث انقباضات في جدار الأمعاء، ويزداد القولون انتفاخاً إلى حد أنه يضغط على الحجاب الحاجز محدثاً اختناقات مفاجئة ربما تنتهي بالموت المفاجئ دون مقدمات. وعلى غرار أصوات المفرقعات التي تقتنى بمناسبة عاشوراء في العديد من المدن خاصة الدارالبيضاء التي تؤذي السمع بسبب انفجار طبلة الأذن أو حدوث نزيف في الأذن الوسطى، فإن الضوضاء اليومية المستمرة التي تحدثها أصوات هذه الدراجات الضخمة والكبيرة تقلق العصب السمعي وتسبب له ما يشبه الكدمات نتيجة الإزعاج المستمر لخلايا هذا العصب. وهو ما يؤدي إلى ضعف مستديم في السمع لا يستطيع معه الإنسان سماع الحديث الهادئ أو منخفض الشدة. بالإضافة إلى ما تحدثه أصوات محركات هذه الدراجات من انعكاسات نفسية سلبية على الساكنة، حيث إن التعرض لفترات طويلة للتلوث الضوضائي يفضي إلى ما يسمى لدى الأطباء النفسانيين بالتقلب المزاجي الذي يتمثل في القلق والتوتر والاضطراب العصبي والإحساس المتزايد بعدم الراحة النفسية. من هنا، ضرورة العمل على تقنين هذه الظاهرة من خلال عدم السماح لها بالجولان وسط المدن وداخل شوارع الأحياء الآهلة بالسكان، إذ إن مكانها الطبيعي هو الانطلاق في فضاءات أوسع خارج التجمعات السكنية من طرق سريعة، ومناطق قروية على غرار ما يقوم به هواة هذا النوع من الدراجات في أوروبا وأمريكا، حيث ينظمون خرجات بعيدا عن اكتظاظ المدن وازدحام الشوارع للتمتع بالمناظر الطبيعية، وتقديم معونات لفقراء القرى ومحتاجيها في الوقت الذي يقتصر هواة هذه الدراجات عندنا على التباهي والتجمع في مقاهٍ خاصة للتمظهر وحب الظهور متناسين أن جولانهم في الشوارع بهدير دراجاتهم، خاصة في أوقات متقدمة من الليل، يزعج الساكنة ويقلق راحة شرائح من الشغيلة وأطفال المدارس التي تريد أن تنعم بقسط من الراحة والنوم بعد الكد والجهد طول النهار.