لا يشكو البرلمان المغربي فقط من عزلته نتيجة تقلص الشعب الانتخابي أمام الشعب الحقيقي والواقعي، بل يشكو كذلك من عدم قدرته على القيام بدوره التمثيلي الفعلي، من خلال البحث عن المصلحة العامة. ومن اللحظات الفارقة في تاريخ هذا البرلمان، مرحلة الثمانينات، حيث صوت البرلمان على قانون للكراء، مما أحدث ارتفاعا في السومة الكرائية؛ الشيء الذي دفع المتظاهرين في عيد العمال إلى الوقوف أمام البرلمان رافعين شعارا جد معبر (برلمان السماسرية زاد الغلاء في الأكرية)، هذا الشعار التقطه الملك الراحل الحسن الثاني وعمل على التدخل فورا، من خلال العمل على تخفيض السومة الكرائية، مما يثبت أن البرلمان المغربي كان دائما تحت رحمة اللوبيات والمصالح الخاصة. بعد المصادقة على دستور 2011، انتظر المتتبعون تصرف البرلمان المغربي، لكن الطامة الكبرى تمثلت في أن هذا البرلمان لم يقف فقط عاجزا أمام وحش السوق ووحش الاقتصاد واللوبيات المرتبطة بهما، بل تحول كذلك إلى استعمال سلطة التشريع من أجل تمرير نصوص تحسن المستوى المادي لنوابه أثناء ممارسة المهام وحتى عند نهاية المهام من خلال استعمال الكلفة العمومية في سد عجز صندوق تقاعد النواب. وبالتالي يستدعي مشروع القانون المتعلق بتقاعد النواب الملاحظات التالية: أولا: حسب الفصل السادس من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن، فإن القانون هو تعبير عن الإرادة العامة، وكل المواطنين يجب أن يساهموا بشكل شخصي أو من خلال ممثليهم في صياغته. وبالتالي، فإن القانون يهم المواطن، لأنه يمثل مشاركته في حياة المجتمع السياسية، وليس مصالح ممثل الشعب، أي البرلماني. الفيلسوف أرسطو سبق له أن أكد على الطابع الشمولي للقاعدة القانونية، من خلال التأكيد على أن القانون من المفروض أن ينص على قواعد عامة (تهم عامة الناس)، وليس قواعد خاصة (تهم فئة محدودة ومصالح خاصة). أما الفيلسوف بورطاليس، فقد أكد على أن القانون يسمح أو يمنع أو يأمر أو يعاقب أو يكافئ، وغير ذلك فهو يعتبر ثرثرة قانونية. ومونتسكيو سبق له أن أكد أنه لا يمكن المس بالقانون إلا بيد مرتعشة، مما يعني أن الفرق البرلمانية كان عليها التفكير مليا، قبل تقديم مشروع القانون، من خلال استيعاب المشرع المغربي للشروط العامة للقواعد القانونية، لأن القانون ليس فقط أغلبية عددية تمرر نصا معينا، بل إن القاعدة القانونية تبقى مرتبطة أولا وأخيرا بالمصلحة العامة التي تنجزها القاعدة والأثر العام الذي تتركه لدى المواطن ودافعي الضرائب والمرتفق العمومي، وغير ذلك تتحول القاعدة القانونية إلى قاعدة ريعية بامتياز. ثانيا: ينص الفصل السبعون من الدستور على أن البرلمان يصوت على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية، أي إن البرلمان مكلف بثلاث مهمات، ولكنه فعليا لا يقوم إلا بالتشريع لأنه تنازل طوعيا عن المراقبة التي تحتاج إلى معارضة مرتبطة بهموم المجتمع وقادرة على اقتراح الحلول وتمتلك أفكارا ومقتنعة بالقيام بالمهام التي يتطلبها التواجد في موقع المعارضة. وعلى اعتبار أن البرلمان منبثق من المشروعية الشعبية، فمن المفروض فيه أن يكون سلطة تمثيلية، ونعني بالتمثيلية، تمثيلية للإيديولوجيات، تمثيلية للحلول التي تتصارع من خلال الأفكار، حتى يستطيع الحسم في الحلول، ولكن البرلمان المغربي تحول إلى برلمان للأغلبية والمصالح الذاتية للنواب واللوبيات والمصالح الخاصة، وبالتالي لم يعد البرلماني موجودا من أجل الشعب، بل تحول الشعب باعتباره دافعا للضرائب إلى خدمة النواب من خلال تأدية رواتبهم أثناء الولاية، وتمويل عجز صناديق تقاعدهم بعد نهاية الولاية. كما أن البرلمان لا يقوم بمهام التقييم، وخصوصا أمام غياب الإرادة السياسية وضعف التكوين، وكذلك الصعوبات المرتبطة بعدم وجود سياسات عمومية محددة ومستقرة (مازالت الحكومة المغربية تعيش بازدواجية الهياكل، هيكل إداري عتيق، منصوص عليه من خلال المرسوم المتعلق باللاتركيز الإداري لسنة 2005، منظم من خلال وزارة –كتابة عامة-مديرية-قسم –مصلحة، وهيكلة حداثية منصوص عليها من خلال القانون التنظيمي للمالية، وتعتمد على تنظيم، وزارة-برنامج-جهة-مشروع) في الزمن حتى تتيح القيام بتقييم هذه السياسيات في المدى القصير والمتوسط. وبالتالي، وتطبيقا لمبدأ التعويض مقابل العمل، فإن البرلماني من المفروض أن يقلص التعويض الذي يستفيد منه إلى الثلث، بدل أن يفكر في تقديم مشروع يستهدف تمويل عجز الصندوق الخاص بالتقاعد من المال العام. ثالثا: المهمة الوحيدة التي يقوم بها البرلماني حاليا، المتمثلة في التشريع، والتي تخول له الاستفادة من ثلث ما يتقاضاه حاليا، تعيش هي الأخرى أزمة وتراجعا مهولين، فالتشريع صار عنوان للثرثرة البرلمانية. وكما يقول المثل العربي، فإن الثرثرة عنوان لعدم اكتمال العقل. ومن جهة أخرى، فإن القاعدة القانونية فقدت الوضوح والثبات. وبالتالي، فقدت شروط الاستقرار القانوني، فالقاعدة القانونية صارت تتميز بارتفاع العدد والطول والإطناب والتفصيل الممل، ودخلت في المغرب في مرحلة أزمة قاتلة. وبالتالي، حتى ثلث التعويض، نظرا للقيام بثلث المهام المخولة دستوريا للبرلماني، لا يستحقها البرلماني كاملة، نظرا للأزمة والتراجع اللذين تعرفهما مهمة التشريع. رابعا: أكد جون جاك روسو على قاعدة المشروعية الشعبية، التي كان يهدف من ورائها إلى التأكيد على أن الشعب لا يمكن أن يضر نفسه ويمس بحريته وقوت يومه وأولوياته. وبالتالي، استنتج البعض أن المشرع لا يمكن أن يتصرف بشكل سيء، ولكن تقديم مشروع قانون يخص تقاعد النواب هو التأكيد الفعلي على أن النواب في المغرب يتصرفون غالبا بشكل سيء، خصوصا وأن مشروع قانون إصلاح منظومة التقاعد الخاصة بالنواب هو مشروع له كلفة مالية. ومن خلال العودة إلى الفصل الرابع عشر من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي، نلاحظ أنه يضع بشكل مسبق شرط ضرورة مراقبة الكلفة العمومية، وكذلك شكل ترتيب هذه الكلفة على مجموع المواطنين. وبالتالي، فإن شرط تبرير النفقة العمومية الذي رسخ في سنة 1789، يفرض على البرلمان تخصيص النفقة العمومية المترتبة عن مشروع قانون تقاعد النواب من خلال إعمال مبدأ التبرير، خصوصا أن التبرير لا يتطلب فقط تحديد موضوع النفقة أو تصنيفها الاقتصادي أو شخصية المستفيد من التمويل، بل يتطلب تحديد الأهداف أولا وترتيب الخيارات واستطلاع رأي المواطنين والقياس وتحديد الأثر المتوقع لمشروع هذا القانون، (خصوصا وأن القانون التنظيمي للمالية الجديد يِأخذ بمبدأ القياس والتبرير والأثر المتوقع)، وإخضاع مشروع قانون تقاعد النواب لهذه المسطرة، يعني سقوطه الأكيد والمدوي في مرحلة ما قبل تقديمه للبرلمان للمناقشة والتصويت. خامسا: يعتبر البرلمان، صاحب المشروعية الشعبية، ومن خلال الأغلبية التي يشكلها تنتخب الحكومة، وتعمل هذه الحكومة من خلال سلطة التعيين على اختيار أصحاب المناصب العليا داخل الإدارة. وبالتالي، فان هرمية البرلمان في النظام السياسي المغربي تجعل منه قدوة، وخصوصا من خلال كيفية تعامله مع النفقة العمومية في بلد عاجز ومديون، ولكن الإشارة والدرس الذي يقدمة البرلمان، من خلال طرح مشروع قانون، يخص تخصيص مبالغ من أموال دافعي الضرائب إلى الحساب الخاص بتقاعد السادة النواب، يعتبر درسا وقدوة سيئين للحكومة وأصحاب المناصب العليا داخل الإدارة ومدراء المؤسسات العمومية، باعتبار السلطة المالية التي يمتلكونها. هذا الدرس السيئ، قد تكون له نتائج وعواقب كارثية على المالية العمومية، من خلال إمكانية شرعنة الالتزام القانوني والمحاسباتي الشخصي بدل أن يكون الالتزام القانوني والمحاسباتي مرتبطا بأداء كل ما يهم استمرارية الحياة الوطنية والمصلحة العامة. الخلاصة: إن اختيار المشرع البرلماني تقديم المشروع المتعلق بتقاعد النواب هو ضرب لسلطة البرلمان في التشريع، وسلطة البرلمان في التشريع ما قبل تقديم هذا المشروع لن تبقى كما هي ما بعد تقديمه (وتخبرنا التجربة الفرنسية أن البرلماني اندري لنيل دافع في سنة 1981 عن مشروع قدمه الفريق الاشتراكي في البرلمان الفرنسي، رغم عدم قانونيته، قائلا للمعارضة إنكم قانونيا على خطأ لأنكم سياسيا أقلية، منذ ذلك التصريح تعرضت سلطة البرلمان الفرنسي للتشريع إلى مجموعة من الدراسات في أفق التقليص، تقرير لومبير، تأطير المبادرة التشريعية، تقنيات التقييم التشريعي، والمراجعة الدستورية لسنة 2008). تقديم مجلس النواب لمشروع قانون حول تقاعد النواب هو انحراف خطير في الدور الموكل للمؤسسات السياسية، فبدل أن يكون النواب في خدمة الشعب، تحول المواطن باعتباره دافعا للضرائب إلى خدمة النواب من خلال تمويل تقاعد النواب، هذا التحول يفترض حماية المواطن ضد انحرافات السلطة السياسية الممثلة في البرلمان. وقد سبق للدستوري آبي سييز أن أكد أن انحرافات المشرع القانوني تحتاج إلى تدخل من قاض أو حارس ينبه إلى المخالفات والتجاوزات، خصوصا وأن المحكمة الدستورية مقيدة في التدخل، وتابعة للسلطة السياسية. وبالتالي، من المفروض التفكير في منح المواطن المغربي سلطة العزل الشعبي، سواء لنائب أو لمجموعة من النواب، لأنها صارت ضرورة أمام الانحراف في استعمال السلطة من طرف البرلمان. *باحث في العلوم السياسية