أثار موضوع معاش البرلمانيين كثيرا من النقاش وسط المجتمع، لكونه يوحي أن البرلمانيين يصوتون على قوانين لفائدة ذواتهم أكثر من التصويت على قوانين لفائدة المجتمع ككل. وكيفما كان الحال، فالنقد الاجتماعي كان عنيفا، فالبرلمانيون نواب للأمة، و لا يمكنهم أن يصوتوا على معاشات لذواتهم في حين هناك عددا كبيرا من المواطنين المغاربة بدون دخل وبدون تقاعد. لذلك فموضوع تقاعد البرلمانيين أثار نقاشا متنوع الأبعاد والجوانب، غير أن ما يهمنا في هذا المقال هو الجانب القانوني، أي الشرعية الدستورية والقانونية لمعاشات البرلمانيين. لذلك، لن ندخل في التفاصيل المالية وطبيعة التعامل مع الوضعية الحسابية لهذا الملف الذي كان مبررا لإعادة النظر في وضعيته القانونية، لأن ما يهمنا هو الوضعية الدستورية والقانونية لهذا الموضوع الذي يعرف مواجهة عنيفة تدعو إلى إلغائه كامتياز أو بقائه كمكسب، غير أنه يجب أن ندرك أنه ليس هناك مبرر قانوني يمكن من خلاله إلغاء مبدأين قانونيين يتجليان في عدم رجعية القوانين والحقوق المكتسبة لأجل حسابات مالية أو لتلبية توجه اجتماعي، وذلك لارتباطهما بضمانات أسستها المراكز القانونية للمستفيدين، ثم لا يمكن الحفاظ على استمرارية هذا المكسب خاصة عندما نكتشف أنه يتضارب ومبادئ دستورية، بل وفوق دستورية ( المساواة وفصل السلط) والتي هي موضوع ضمانات دستورية لكل المواطنين، لذلك علينا أن نتعامل مع الموضوع من موقع المسؤولية الدستورية بغض النظر عن الباقي. إن نص القانون المعمول به حاليا في مجال معاش البرلمانيين هو قانون يعود لسنة 1993 (ثم تعديله سنة 2006)، أي ورثه البرلمان الحالي من البرلمانات السابقة، وأصبح يتمدد في الزمن، تارة يعلو عليه النقاش وتارة يخبوا، لذلك سنعيد طرح السؤال الذي يفرض نفسه كلما أثير النقاش حول هذا الموضوع، وهو كالآتي: هل من حق البرلمانيين دستوريا وقانونيا أن يكون لهم تقاعد؟. أعتقد أنه قبل الدخول في النقاش القانوني والدستوري حول النصوص القانونية المنظمة لهذا التقاعد، علينا أن نناقشه من حيث المبادئ العامة للقانون، فالنقاش المبدئي هو الذي سيؤسس لشرعية هذه القوانين من عدمها، ذلك أن القوانين كيفما كان نوعها تحكمها مبادئ نص عليها الدستور، والمبادئ العامة هي التي تحكم طبيعة مفهوم الدولة الناتج على تطور نضالات المجتمعات من أجل أن يكون القانون عاما ولفائدة المصلحة وللجميع، ولا يجوز مطلقا أن يكون ماسا بمبدأ المساواة، فما هي إذن الاختلالات التي مست قوانين معاشات البرلمانيين على ضوء هذه المبادئ العامة؟. أولا: على مستوى مبدأ المساواة يعتبر مبدأ المساواة من المبادئ الأساسية الدستورية التي تحكم عملية التشريع، وبالتالي أي تشريع لابد له أن يستند على احترام مبدأ المساواة، وهذا المبدأ ليس فقط شرط دستوري وفق الفصلين 19 و31 من الدستور، ولكنه مبدأ إنساني فوق دستوري كذلك، استندت عليه الديمقراطية كأساس لبناء هندسة مؤسساتية وسياسية. والبرلمان بما يملكه من سلطة تشريعية في هذا المجال، لا يمكن أن يخل بمبدأ المساواة، لكون سلطته تخضع للضمانات الدستورية ولمبدأ استقلال السلط، وإذا خرجت السلطة التشريعية عن هذا المجال ولو بوسائل تشريعية، فإن القانون الذي تصدره يكون مخالفا للدستور. إن المواطنين متساوون في المساهمة حسب إمكانيتهم في تحمل أعباء الوطن (الفصول 34-35-38-39-40 من الدستور)، وهذا التحمل قدر المستطاع للتكاليف، تقابله مساواة في المزايا والخدمات الاجتماعية التي توفرها الدولة لمواطنيها ( الفصل 31 من الدستور)، ومن تم فأي قانون يصدر عن البرلمان والذي يحمل الدولة تكاليف مالية يجب أن يخضع لمبدأ المساواة، فهل قانون معاشات البرلمانيين يحترم هذا المبدأ؟ إن هذا القانون ينص على أن هناك مساهمين رئيسيين في معاش البرلمانيين، هما الدولة و البرلمانيين، غير أنه يلاحظ بأن مساهمة الدولة تخل بمبدأ المساواة لأشخاص معنيين من حيث المنطلق ومن حيث النتيجة، وسنناقش كل علاقة على حدة. أ)من حيث المنطلق: نرى أنه وبشكل عام هناك برلمانيون موظفون في السابق ، كانت الدولة تساهم في إطار حقوق التقاعد المرتبطة بحقوقهم حين كانوا موظفين قبل أن يلجوا البرلمان، وأن الدولة مازالت تساهم لفائدتهم في صناديق التقاعد، ماداموا لم يحالوا على المعاش في وظيفتهم الأصلية، وحتى إذا أحيلوا فالدولة تكون قد ساهمت سابقا من خلال أموال دافعي الضرائب في صناديق تقاعدهم الذين استفادوا أو سيستفيدون منها بعد إحالتهم على المعاش، ومن الإخلال بمبدأ المساواة أن يكون هناك برلمانيون استفادوا كمواطنين من التقاعد مرتين، مرة عبر وظيفتهم الأصلية تم عبر مهامهم البرلمانية، فتكون الدولة مساهمة مرتين من أجل حصولهم على التقاعدين، مرة بحكم وظيفتهم الأصلية ومرة أخرى بحكم صفتهم البرلمانية، ويبقى المواطنون الآخرون والعاديون اللذين لا يملكون سلطة التشريع (أي ليسوا برلمانيين) يستفيدون فقط من مساهمة مالية فريدة للدولة في تقاعدهم بصفتهم موظفين، وهذا إخلال بمبدأ المساواة، لاسيما وأن الصفة البرلمانية تمنح الامتياز السياسي في مراقبة عمل الحكومة والحديث باسم الأمة و لا تمنح الامتياز الاقتصادي أو الاجتماعي للبرلماني كشخص، ومن تم هذا تمييز لفائدة البرلماني اتجاه المواطنين وهو تصرف مخالف للدستور. من جهة أخرى فإن السلطة التقديرية التي يملكها المشرع في مجال تنظيم الحقوق لا يمنحه الحق في خلق نوع من التمييز بين المركز القانوني الذي يمكن تحديده وفق شروط موضوعية، والحالة هته فإن التمييز في منح تقاعدين للنائب البرلماني ليس فقط مخالف للدستور، ولكن كذالك ماس بمصلحة عموم المواطنين، لكونهم هم من يؤدون الضرائب التي يتم من خلالها تمويل التقاعد الإضافي الثاني، فيكون هناك تمييزا ثانيا تعسفيا وشاذا عن الحماية القانونية المتكافئة التي لا تمييز فيها بين المراكز القانونية المتماثلة، بل ينم عن تمييز طائفة دون أخرى، من خلال الاستفادة من الحقوق التأمينية دون وجود أساس قانوني أو أسس موضوعية لهذا التمييز، غير أن مبدأ المساواة هذا ليس مبدأ جامدا منافيا للضرورة العملية، فالأشخاص الذين لا يستفيدون من مساهمة الدولة ومن تقاعد وظيفي أصلي فيما يخصهم لا يمسون بمبدأ المساواة. إن المعاش ليس مسألة حسابية ولكنهما مسألة مرتبطة بطبيعة القانون الذي يضمن المساواة للجميع عند صرف أموال دافعي الضرائب، فجزء من النواب الذين يتوفرون على معاش الوظيفة لا يحق لهم في هذه الازدواجية، لأنها ازدواجية تهم الأصل، أي الاستفادة من مساهمة الدولة في هذا المعاش، أما المساهمة الفردية فهذا حقهم الإرادي لايطاله القانون، أما البرلمانيين ذوي المهن الحرة فتقاعدهم مرتبط بالأجهزة القانونية التي تنظم مهنهم، ويمكنهم أن يستفيدوا من خلالها مع ما يمنحهم الحق في خصم تلك المبالغ من مساهماتهم الضريبية، وأما رجال الأعمال البرلمانيين فلهم الحق في التقاعد الفردي مع شركات التأمين أو مع الضمان الاجتماعي، من خلال مواقعهم في الشركات التي يديرونها أو في المجال التجاري الذي يشتغلون فيه. ب)من حيث النتيجة: إن اللامساواة عند المنطلق من خلال مساهمة الدولة مرتين في تقاعد البرلمانيين، ينتج عنها إخلال بالمساواة عند النتيجة، فكيف يعقل أن يكون هناك مواطنون موظفي الدولة، أحدهم يملك تقاعد فريدا وحيدا، وآخر يملك اثنين، علما أن كلاهما يؤدي الضرائب حسب إمكانية كل واحد منها. ثانيا: على مستوى مبدأ استقلالية السلط نعتقد أن طبيعة الوضعية القانونية للنائب البرلماني تجعل الإخلال الدستوري والقانوني لا يكمن في الشرعية القانونية لمساهمة الدولة فحسب. إن الدولة تساهم في صناديق التقاعد لفائدة موظفيها، نظرا لما يقدموه من خدمات طيلة عمرهم للإدارة لفائدة المصلحة العامة وباعتبارها رب العمل، وأن مساهمة الدولة في هذا التقاعد هو جزء أساسي من الأجر، فقط يراكم ويوظف ليستفيد منه الشخص حينها تنتهي علاقته بوظيفته مع الإدارة، فيصبح مساهما من خلال الأقساط التي راكمها لسنوات، سواء بشكل مباشر من خلال الاقتطاعات والتي تخصمها في حقيقة الأمر من أجره الأصلي وتوصف بمساهمة الدولة لصناديق التقاعد بصفتها المشغل له، وملتزمة بسحب مبالغ مالية من أجره لأداء ما يفرضه القانون للصناديق الاجتماعية للموظفين، ومن تم يطرح السؤال الأساسي: هل هذه الطبيعية القانونية بين الوظيفة والدولة تنطبق على البرلماني؟. بادئ ذي بدأ هناك مبدأ أساسي ينظم العلاقة بين الإدارة والسلطة التشريعية، وهو مبدأ فصل السلط، ثم إن الإدارة هي جزء من السلطة التنفيذية التي تستند على مبدأ وحدة الوظيفة، ويترأسها رئيس السلطة التنفيذية، (الفصلين 89 و90 من الدستور)، وهذين الفصلين يجعلان البرلمانيين خارج مجال السلطة التنفيذية، أي خارج المجال المنظم للموظفين، فلا يمكن للبرلماني أن يكون موظفا وبرلمانيا في نفس الوقت. وإذا كانت العلاقة الرئاسية هي التي تحكم علاقة الموظف بالوظيفة، فإن الأمر خلاف ذلك في العلاقة بين البرلمان والإدارة التي تحكمها السلطة التنفيذية، تم أن البرلماني يضع القانون باسم الأمة لتنفذه الإدارة، وهذا يتناقض ومبدأ مفهوم الوظيفة، لذلك فأعضاء البرلمان ليسوا موظفين، ومن تم لا يتوصلون برواتب، بل يمنحون تعويضات عن المهام لكونها مهام ظرفية من حيث الزمن ومحدودة في الموضوع، ولا تستند على مبدأ الرئاسية الإدارية. وهكذا ثم وصف ما يتلقاه البرلمانيون بالمكافئات، وتارة أخرى بالتخصيص، وحتى بالتعويض، وفي جميع الأحوال ليس راتبا، وحينما لا يكون راتبا شهريا لا يقترن بمفهوم الراتب الوظيفي الذي يتضمن من مكوناته تعويضا عن التقاعد لكون رئيس السلطة التنفيذية ليس رئيسا لنواب الأمة. وعليه إذا كان ممثلو الأمة لا يتوصلون برواتب، فإنهم لا يستحقون معها التقاعد، وكذلك أن الأساس القانوني وطبيعة مهامهم لا تمنح لهم الحق في القفز على مراكز قانونية أخرى لا تشملهم ليستفيدوا من مزاياها، وإذا كانوا لا يستحقون التقاعد لأنهم لا يتقلون تعليمات من السلطة التنفيذية وليسوا معها في علاقة تبعية، فإن الدولة من خلال السلطة التنفيذية لا يجوز لها مطلقا أن تساهم في برامجهم التقاعدية لكونها مساهمة لا ينص عليها القانون إلا لفائدة الموظفين أو المستخدمين. وعليه، فمساهمة الدولة في برامج معاشات البرلمانين مخالفة تماما لطبيعة وظيفتهم ومهامهم و تموقعهم داخل المؤسسات الدستورية، وكان على البرلمانين إذا رغبوا الحصول على التقاعد أن يستندوا أساسا على إمكانيتهم المادية من خلال تعاقدات خاصة في اتفاق مع شركات تأمين خاصة، يساهمون فيها فرادى وأن لا تكون الدولة من خلال السلطة التنفيذية طرفا فيها. ومن تم فإن الحق الذي يمكن أن يمنحه المشرع لنفسه، يحب أن يتوفر على شروط غير مخالفة لمبدأ فصل السلط ومبدأ المساواة، لكون هذه الشروط جزء لا يتجزأ من النص التشريعي نفسه، والحالة التي نحن فيها الآن نرى أن الوضعية القانونية والدستورية للنائب تتعارض مع مسؤولية الدولة في توفير خدمات التقاعد التي أحاطها بسياج من الشروط، حماية للمال العام وأن يخضع للاستفادة من التقاعد إلى نظام الوظيفية العمومية، وأعضاء مجلس الأمة لا يخضعون إلى شكل وطبيعة وشروط الوظيفة العمومية، لوجود خلاف جوهري ودستوري بين طبيعة كل سلطة على حدة، فلا يمكن للشخص أن يقوم بدورين، الوظيفة العمومية و تمثيلية الأمة، لكون الجمع بينهما مخالفة صريحة لمبدأ فصل السلط، تم أن الموظف كما هو متوافق عليه هو ذلك الشخص الذي يعهد إليه بعمل دائم في خدمة مرفق عام تديره الدولة أو أحد أشخاص القانون العام، بينما وظيفة البرلماني فهي وظيفة سياسية ومؤقته، وهي وظيفة دستورية سيجها المشرع بعدة شروط ضمانا لاستقلاليتها وأهمها استحالة التعيين، تم أن علاقة الموظف بإدارته علاقة تنظيمية تحكمها القوانين الداخلية ومفهوم التراتبية الوظيفية، بينما ممثل الأمة فيوجد خارج هذا التصور الوظيفي، لذلك لا يمكن ترتيب النتائج الإجتماعية بشكل متماثل بين الطرفين. ثالثا: الوضعية القانونية لمشروعي القانونين من الواجب القول، بأننا ورثنا مأزقا تشريعيا اسمه قانون معاشات البرلمانين، فإذا كان الأول (قانون رقم 24.92 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.136 الصادر في 8 رجب 1414 (22 ديسمبر 1993) مخالف للدستور ولا أحد طعن فيه في حينه، بل كل ما قيل حوله كان مجرد مزايدات سياسية بين القوى السياسية حسب تموقعها بين المعارضة والأغلبية، ليتحول بعد ذلك إلى موضوع اهتم به النقاش المجتمعي، تمت من خلاله إدانة المشرع لكونه يشرع لذاته ولمصلحته، ثم تبين بعد ذلك أن هناك عجزا ماليا أوقف هذا الصندوق السنة الماضية ما كان يمنحه للبرلمانيين السابقين. وبعد بداية النقاشات السياسية حول مقترح قانون جديد لإصلاح معاشات النواب البرلمانيين، تحرك جزء من المجتمع من جديد، وعبر عن عدم قبوله لهذا القانون لكونه يتضمن مساهمة الدولة من جديد في إنقاذ وضعية الصندوق المالية، فدخلنا في خليط من النقاش التشريعي والسياسوي، انتهى المطاف في النهاية إلى وضع مقترح قانون جديد، في حقيقة الأمر جاء مخالفا بشكل كبير للدستور ولمبادئ القانون المتعارف عليها، سواء من حيث مبدأ المساواة أو من حيث طبيعة المركز القانوني للبرلماني أو حتى من خلال المس بالمراكز القانونية التي خلقها القانون السابق (قانون رقم 24.92 المتعلق بإحداث نظام المعاشات لفائدة أعضاء مجلس النواب الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.92.136 الصادر في 8 رجب 1414 (22 ديسمبر 1993)) رغم أنه جاء متسما بالعور التشريعي، فإن البرلمانيين الذين كانوا في إبانه لم يتعرضوا دستوريا وقانونيا اتجاه هذا النص باللجوء إلى المجلس الدستوري، وهذا ما جعله قائما ومنتجا لآثاره، فالمبدأ أن النص لا يبطل فقط لأنه مخالف للدستور، ولكن أن يتصرف من له مصلحة في مواجهة هذا النص بالطعن فيه، وكان وفقا للدساتير السابقة أن تطعن فيه الحكومة أمام المجلس الدستوري أو حتى البرلمانيين، فالحكومة كان بإمكانها الطعن فيه بصفتها المسؤولة من حيث تطبيق القانون و المسؤولة كذلك عن أموال المساهمين، والبرلمانيين من حقهم الطعن لالتزامهم الأخلاقي والقانوني اتجاه النص الدستوري، وأنه بعدم الطعن وتواطئ الطرفين بالصمت أصبح هذا القانون قائما بذاته، منتجا لآثاره القانونية، لخلقه مراكز قانونية لا يمكن المساس بها دستوريا. وبالتالي هل خالف المقترح الجديد مبدأ عدم الرجعية ومبدأ احترام الحقوق المكتسبة؟. إ)من حيث مبدأ عدم الرجعية: حينما نتحدث على مبدأ عدم رجعية القوانين (الفصل 6 من الدستور) فهو ملزم للإدارة والقضاء، فكلاهما لا يمكن أن يجتهدا من ذواتهما ويقرران رجعية قانون، وهذا الإلزام لا يهم المشرع عند التشريع وبشكل مطلق، بل للمشرع الحق في أن ينص على رجعية قانون، وهذا الحق التشريعي مسيج ومضبوط بمبادئ دستورية ومبادئ عامة متفق عليها إنسانيا، فإمكانية التنصيص على الأثر الرجعي لدى المشرع هي إمكانية مقيدة، لكون الرجعية مشروعة إذا أملتها مصلحة اجتماعية ليس فيها ما يخالف المبدأ العام، لكونها لا تمس باستقرار المراكز ولا بالثقة في القانون. إن المادة الثانية من مقترح القانون عندما نصت على إلزامية بلوغ سن سنة 65 سنة للإستفاذة من تقاعد البرلمانيين، تكون قد فرضت شرطا بشكل رجعي، وكان عليها شكليا أن تنص في هذه المادة على أن القانون سيتم تطبيقه بأثر رجعي، إذ لا يمكن للإدارة ولشركات التأمين تطبيقه بأثر رجعي إلا إذا نص المشرع بوضوح عن ذلك، لذلك فالمادة 2 من المقترح لا يمكنها أن تنسحب على الماضي استنادا على صياغتها الحالية، وسنلاحظ لا حقا أنه لا يمكن القبول برجعيتها ولو نص عليها المادة 2، لأنها تمس مراكز قانونية بلغت مداها، بينما يمكن إعمال هذه المادة بالنسبة للذين لم يحالوا على المعاش بعد، والذين سيستفيدون منه مستقبلا. ونفس الموضوع فيما يهم المادة 6 في فقرتها الأخيرة، حين خفضت من نسبة الاستفادة بأثر رجعي (من 1000 درهم إلى 700 درهم) فهو مساس بمبدأ الحقوق المكتسبة. ب) من حيث احترام مبدأ الحقوق المكتسبة. إن أي نص قانوني يتم إلغاؤه أو تعديله لا يجوز له مطلقا أن يمس بالحقوق المكتسبة، خاصة إذا كان هذا الحق مستجمعا لكل شروطه، وإلا كان أي تصرف أو تعديل فيه مساس بالحق بعد تقريره. وعليه، فإن رجعية القانون التي تخل بمبدأ احترام الحقوق المكتسبة هي تلك الرجعية التي تمس باستقرار المراكز القانونية التي تكاملت حلقاتها، لكون الحق المؤسس وفق القانون القديم يخضع للحماية الدستورية. ثم إن تلك المراكز تخضع للحماية القانونية التي تضمنها القانون القديم الذي نشأت في ظله تلك المراكز، خاصة وأن البعد الاجتماعي للقانون يستند على عنصرين قانونيين أساسيين هما الدوام والاستمرار. واحترام هذه الحقوق المكتسبة يعد ضمانة حقوقية وقانونية ودستورية لاستقرار المراكز القانونية للأفراد، رغم إمكانية صدور تشريعات جديدة أو إلغاء أخرى قديمة بشرط أن لا تمس بالمراكز القانونية المستجمعة لشروطها. لذلك، وفي ظل هذين المبدأين، كيف سنتعامل مع الوضعية الحالية لتقاعد البرلمانيين؟. أولا علينا أن نفرق بين الحقوق المكتسبة التي لا يجب المساس بها بشكل رجعي لتكامل مراكزها القانونية، وبين الحقوق التي لم تكتمل بعد، وهنا يمكن المساس بها، وسنستند على منطلق أساسي هو أن قانون معاشات البرلمانيين يجب إلغاؤه لتضاربه مع مبدأ المساواة، ولخلافه مع طبيعة دور البرلماني وعلاقته مع السلطة التنفيذية، وحينها سيتم إلغاء تقاعد البرلمانيين عبر القانون، و سنضطر إلى مواجهة إشكاليتين قانونيتين، الأولى تهم البرلمانيين السابقين الذين انتهت علاقتهم بالمؤسسة التشريعية في ظل انتخابات 2016، وما سبقها من انتخابات، والثانية تهم برلمانيي الولاية الحالية أي ما بعد انتخابات 2016. 1) الإشكالية الأولى: فيما يخص فئة البرلمانيين السابقين، أي قبل انتخابات 2016، فإن مراكزهم أصبحت قانونية ومكتملة العناصر، أي نهائية، ومن تم لهم حقوق مكتسبة لا يجوز المساس بها، لذلك لا يمكن إلغاء حقوقهم التقاعدية كما نصت عليها القوانين التي نشأت في ظلها رغم عورها التشريعي، لكونها أصبحت حقوقا مكتسبة، تم أن الدولة توقفت عن أداء أي مبلغ لفائدة صندوق التقاعد لتكامل المراكز القانونية لكل طرف. 2) الإشكالية الثانية: بالنسبة للفئة الثانية، أي فئة البرلمانيين الحاليين لما بعد 2016: فإن مراكزهم القانونية لم تبلغ غايتها النهائية، ومن ثم لم تكتمل مراكزهم بعد، وتبقى هذه الأخيرة قابلة للتدخل التشريعي، هذا التدخل الذي يمكن أن يبلغ مداه في إلغاء هذا التقاعد، ولا يمكن اعتبار الحقوق المتراكمة عن الولايات السابقة مراكز منتهية. لكون الشرط الأساسي للحصول على التقاعد، أي لخلق المركز القانوني هو وجود قطيعة نهائية مع التمثيلية البرلمانية، هذه القطيعة التي تشكل المركز القانوني الذي يخول إنشاء حق مكتسب، حيث والحالة هته، فإن البرلمانيين الحاليين لا يحق لهم مطلقا أن يحصلوا على تقاعد مستقبلا، وذلك استنادا على قاعدة ضرورة احترام مبدأ المساواة، وعدم المس بطبيعة استقلالية البرلماني عن السلطة التنفيذية، ولتعارضه كذلك مع مبدأ وحدة الوظيفة. إن إلغاء تقاعد البرلمانيين الحاليين لا يمكن أن يتم بشكل تلقائي، بل لن يتم إلا بتدخل تشريعي، أو بصدور حكم عن المحكمة الدستورية، والتي قد يخول لها الحق في البت نهائيا في حق البرلمانيين من التقاعد أو من عدمه. نحن إذن أمام وضعيتين قانونيتين: الوضعية الأولى: تهم مراكز قانونية اكتملت ولا يمكن المس بها احتراما لمبدأ عدم الرجعية ولمبدأ الحقوق المكتسبة، و لكونهما احتراما للدستور ولسيادة القانون، وتهم فئة البرلمانيين السابقين قبل 2016 بشرط عدم تجديد ولايتهم. الوضعية الثانية: وتهم فئة البرلمانيين الحاليين سواء المنتخبين لأول مرة خلال سنة 2016 ، أو المجدد لهم خلال هذه الولاية بعدما كانوا برلمانيين كذلك في إحدى الولاية السابقة، وكذلك فئة الوزراء البرلمانيين السابقين وكبار المسؤولين (الفقرة الأخيرة من المادة 6 من مقترح القانون) ، حيث لا حق لهم في التقاعد البرلماني، لأنهم سيكونون في وضعية مخالفة للدستور، لكونهم "خاصة فئة الوزراء البرلمانيين والمسؤولين" هم أنفسهم لم تكتمل مراكزهم القانونية، لكون تموقعهم في هذه المناصب يعفي الصندوق من أداء التقاعد لهم أصلا، ومن تم تصبح وضعيتهم متماثلة مع وضعية البرلمانيين الحاليين، أي لم تكتمل مراكزهم القانونية. ولأجل كل ذلك نؤكد على أن مقترح القانون الجديد الذي تمت إحالته على لجنة المالية، يكون قد جاء مخالفا للمبادئ الدستورية وللمبادئ العامة. *نائب برلماني