شكل النضال النقابي تاريخيا، وعلى رأسه الاضراب؛ دورا بارزا في تحسين شروط العمال على المستوى الذهني والعضلي على حد سواء. مما ارغم الدول ومنظمات الرأسمال على صياغة تشريعات قانونية تضمن مكتسبات العمال وتؤسس لنيل مزيد من المكتسبات، تماشيا على الاقل، مع تطور ظروف الحياة. وقد انخرطت الحركة النقابية بالمغرب منذ بدايات تشكلها، بالتوازي مع تشكل الرأسمال التبعي، في خطوات نضالية ضد القهر والاستغلال؛ من أجل أن يتمكن الأجراء من الدفاع عن مصالحهم ومكتسباتهم ضد أرباب العمل. وقد وظفت الإضراب كشكل من أشكال الاحتجاج التي ابتدعها الأجراء و أقرتها وضمنتها، المواثيق الدولية والمقتضيات الدستورية المغربية، منذ دستور 1962، في فصله 14 حتى دستور 2011 في فصله 29؛ للدفاع عن مصالحها وانتزاع حقوقها. غير أن الحكومة المغربية الحالية، بقيادة حزب العدالة والتنمية، انخرطت بشكل ممنهج في عملية الاجهاز على العمل النقابي الديمقراطي وعلى المكتسبات التي تحققت بفعل نضالات جسيمة، وذلك من خلال اقدامها على الاقتطاع من أجور المضربين ضدا على ما نص عليه الدستور وكذلك النظام الاساسي العام للوظيفة العمومية الصادر بتاريخ 24 فبراير 1958، وكذا التشريعات الدولية التي وقع عليها المغرب او التزم دستوريا بها. وقد كرست بسلوكها هذا، بعد قسم وزير عدلها الشهير، أن القانون تعبير عن علاقات القوة داخل المجتمع، وعلاقات القوة ما هي إلا تعبير عن وزن المصالح الاجتماعية وطبيعتها. ففي المرحلة التي تحتد فيها أزمة الرأسمال وخاصة التبعي منه، تستخف الحكومات في بلدان المحيط على حد تعبير سمير أمين، بالقوانين السائدة وتوظف السلطة السياسية في لبوس وأشكال، الثابت فيها؛ القفز على النصوص القانونية الناظمة والمحددة للعلاقات بين أطراف الفعل السياسي. حيث تتحول غبار الشعبوية والعنجهية والعشوائية، إلى فعل سياسي حيوي، يجهز على الوعي ومن ثمة الإدارك، من خلال نشر العبث عبر فضاءات السياسة والاجتماع. ومن تجليات ذلك في مغرب اليوم، ضرب حكومة الاخوان لحق الاضراب وشيطنة القائمين به (قصة بن كيران والميزان)، من خلال الاقتطاع من أجورهم خارج النصوص والتشريعات القانونية السائدة. وبالعودة إلى موضوع الانقطاع عن العمل، نجد أن جل الباحثين يعرفونه: "بأنه تعمد الموظف ترك الوظيفة بمبادرته الشخصية، وذلك دون إذن أو ترخيص مسبق من السلطة الادارية التي لها الحق في السماح له بمغادرة الادارة". أما الاضراب فهو:" اتفاق عدد من العمال أو الموظفين على الامتناع عن العمل الواجب عليهم بمقتضى القوانين، أو عقد العمل، مع التمسك بالوظيفة العامة، احتجاجا منهم على سوء الاوضاع التي يعملون فيها أو عدم مسايرة الاجور التي يحصلون عليها، لمتطلبات العيش الكريم؛ وذلك لإرغام الحكومة على الاستجابة لمطالبهم أو التراجع عن إجراءاتها المضرة بمصالحهم". وقد عرفه مشروع القانون التنظيمي للإضراب بأنه: "توقف جماعي ومدبر عن الشغل من أجل الدفاع عن مطالب مهنية".(المادة 2). وحتى نستفيض في هذا الموضوع سنحاول الإجابة عن التساؤلات التالية: -هل يوجد في الدستور المغربي أو النظام العام للوظيفة العمومية ما يشرعن الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل؟. - وما مدى شرعية الدفع بقاعدة الاجر مقابل العمل في نطاق الوظيفة العمومية؟. - وهل هناك اجتهاد قضائي ما، يبرر الاقتطاع من أجر الموظف العمومي المضرب عن العمل أم الاجتهاد القضائي المحدود في هذا المجال مختصر فقط؛ على جانب الشرعية في ممارسة الاضراب؟. نحن نفترض/ ولا نجزم، في هذه الورقة أن الاضراب لا يعد انقطاعا غير مبرر عن العمل على شاكلة الانقطاعات الفردية المعروفة والتي نص عليها الفصل 75 مكرر من النظام العام للوظيفة العمومية؛ بقدر ما هو نوع من أنواع الاحتجاج. مادام لا يوجد في الدستور المغربي أو النظام العام للوظيفة العمومية ما يمنعه أو يحدد شروط ممارسته. كما إنه لا يوجد اجتهاد قضائي متواتر عن المجلس الاعلى للقضاء سابقا او محكمة النقض حاليا؛ يقر صراحة بأن الاضراب تغيب غير مشروع؛ وحتى إن وجد في قضية أو اثنتين فهو محصور في مبدأ شرعية ممارسة الإضراب. وبالتالي، فهذا غير مبرر للاقتطاع، علما أنه لا اجتهاد مع وجود النص. أولا: الاضراب في الدستور المغربي: يعد الدستور القانون الاسمى للدولة وهو أعلى القواعد القانونية، مادام يفترض فيه أن: - يعبرمباشرة عن ارادة الشعب صاحب السيادة؛ - هو المصدر القانوني لجميع السلطات الأخرى؛ - يستمد تفوقه من حيث انه وضع لضمان حقوق وحريات الافراد والجماعات ضد أي اعتداء؛ - يعبر عن فكرة الدولة القانونية لتمييزها عن فكرة الدولة البوليسية؛ التي تدوس على القوانين والتشريعات التي وضعتها. ارتباطا بما سبق؛ نص دستور 2011 في تصديره على أن المملكة المغربية تؤكد تشبثها بحقوق الانسان، كما هو متعارف عليها عالميا. كما أكد ذات التصدير على أنه جزءا لا يتجزأ من الدستور، الذي نص في بابه الثاني : الحريات والحقوق الاساسية؛ الفصل 29: " على أن حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. حق الاضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته". ما يهمنا هنا، هو أن الانتماء النقابي وحق الاضراب مضمونان بقوة الدستور؛ والاطار النقابي كما هو معلوم، هو الوسيلة التي تدافع عن حقوق ومطالب الموظفين في سياقنا هذا؛ من خلال المفاوضة أو الاضراب. وعليه لا يمكن الحديث عن النقابة بدون الحديث عن الحق في الاضراب. ذلك أن الحق وضع شرعي يجعل للشخص الاختصاص بمنفعة مادية أو معنوية. فمن خلال الفصل 29 السالف الذكر؛ يتضح أن الدستور المغربي باعتباره القانون الاسمى؛ يقر بضمان الحق في الانتماء النقابي والاضراب على حدا سواء؛ مع تنصيصه على أن شروط وكيفيات ممارسة الاضراب سيحددها قانون تنظيمي. والقانون التنظيمي كما هو معروف أدنى مكانة من الدستور، فالدستور هو مجموع القواعد القانونية التي تنظم شكل الدولة وطبيعتها ونظام تسييرها و المبادئ الأساسية فيها؛ من حيث الحقوق والواجبات والحريات العامة الجماعية والفردية واختصاصات المؤسسات الوطنية العليا وعلاقاتها فيما بينها. وعليه تعتبر قواعد القانون الدستوري أسمى القواعد القانونية، حيث لا يجوز لأي قانون تصدره السلطة التشريعية أو قرار تصدره السلطة التنفيذية( قرار الاقتطاع أنموذجا) أن يخالف ما جاء به الدستور، وإلا حكم بعدم دستوريته، من طرف القضاء الاداري في الدول التي تحترم دساتيرها. فالمغرب مُنح أول دستور سنة 1962 تمت مراجعته في سنوات 1970 و1972 و1992 و1996؛ نصت كلها في فصلها 14 على أن: (حق الإضراب مضمون.وسيبين قانون تنظيمي الشروط والإجراءات التي يمكن معها ممارسة هذا الحق)، الى حين صدور دستور 2011 الذي أكد هو الاخر على حق الاضراب. فالقانون التنظيمي المنتظر، سيشرعه البرلمان و يتحتم عليه أثناء إقراره"أن يتقيد بالإجراءات الخاصة المنصوص عليها في الدستور وللإشارة فصلاحية القانون التنظيمي المنتظر،ستنحصر في تنظيم شكليات اجراء الاضراب وليس إلغائه؛ فالضمانة حاصلة بقوة الدستور باعتباره القانون الاسمى وأي قانون تنظيمي يحاول أن ينزع هذه الضمانة أو يحد من جدوائتها فهو غير دستوري قطعا ويجب إلغاؤه اذا ما اندرج في هذا السياق، علما انه لم يصدر الى حدود الساعة أي قانون تنظيمي حول موضوع الاضراب بالمغرب، (باستثناء مشروع قانون الاضراب) ومادام الامر كذلك؛ فأشكال الاضراب إن خضعت فقد تخضع فقط للظهير المنظم للحريات العامة" (للاستزادة يراجع الاستاذ عبد العزيز العتيقي: الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عمل غير مشروع). خلاصة لما سبق؛ يمكن القول أن حق الاضراب والانتماء النقابي مضمونان بقوة الدستور باعتباره التشريع الاسمى؛ و لا يمكن أن يصدر أي قانون تنظيمي يحد منهما، وبالتالي لا يمكن مصادرة هذا الحق الدستوري بالقانون التنظيمي المنتظر. ثانيا: الانتماء النقابي في النظام العام للوظيفة العمومية. نصت المادة 14 من ظهير 24 فبراير 1958 كما تم تعديله بتاريخ 18 فبراير 2011 بشأن النظام الاساسي العام للوظيفة العمومية على مايلي:( يمارس الموظف الحق النقابي ضمن الشروط المنصوص عليها في التشريع الجاري به العمل. ولا تنتج على الانتماء أو عدم الانتماء إلى نقابة ما، أية تبعة فيما يرجع لتوظيف المستخدمين الخاضعين لهذا القانون الاساسي العام وترقيتهم وتعيينهم، او فيما يخص وضعيتهم الادارية بصفة عامة). ما يهمنا هنا، هو أن هذا النظام العام يشرعن ممارسة الحق النقابي، وليس فقط إقراره، دون ان ينعكس ذلك على وضعية الموظف الادارية بشكل عام والوضعية المالية كما تعلمون تدخل ضمن الوضعية الادارية. فكيف يمكن القول بضمان ممارسة الحق النقابي للموظفين والاقتطاع من أجورهم بدون سند قانوني؛ دون أن توجد أي إشارة في أي نص قانوني تجيز ذلك، مع أن الإضراب من أهم مظاهر وتجليات الممارسة النقابية؟. على أساس أن الأصل في الأشياء الإباحة؛ بمعنى أن النظام الاساسي العام للوظيفة العمومية لا يمنع الموظفين من ممارسة حق الإضراب، الذي يعد التجلي العملي لممارسة الحق النقابي كما ورد في المادة 14 السالفة الذكر. وعليه، يعتبر الإضراب تغيبا مبررا وهو في ذلك مثل باقي التغيبات الأخرى المبررة بدواعي صحية أو نقابية وغيرها، التي لا يتم اقتطاع أجور أيامها لأنها تغيبات قانونية. فالنظام الاساسي العام للوظيفة العمومية، لم يضع ضمن العقوبات التأديبية الاقتطاع من الأجرة، مادام الفصل 66 حصر العقوبات التأديبية في الانذار والتوبيخ كعقوبتين تصدرهما الادارة بمقرر معلل دون استشارة المجلس التأديبي والحذف من لائحة الترقي والانحدار من الطبقة والقهقرة من الرتبة والعزل من غير توقيف حق التقاعد والعزل المصحوب بتوقيف حق التقاعد؛ تصدرها بعد استشارة المجلس التأديبي, وبالتالي لو كان في نية المشرع أن يعاقب على الإضراب لوضع ذلك ضمن لائحة العقوبات التأديبية المذكورة، التي تعتبر حصرية، على حد تعبير الاستاذ عبد العزيز العتيقي الذي اعتمدناه في هذه الورقة. وحتى عندما تحدث المشرع عن التوقيف مع ما يستتبع ذلك من توقيف الأجرة مؤقتا كعقوبة تأديبية، فقد ربط ذلك بالضمانات التأديبية. فالفصل 75 مكرر أشار الى انه باستثناء حالات التغيب المبررة قانونا ومن ضمنها الاضراب بطبيعة الحال مادام لم يرد في متن النظام العام للوظيفة العمومية ما يمنعه، فإن الموظف الذي يتعمد الانقطاع عن عمله، يعتبر في حالة ترك الوظيفة. ففي هذه الحالة يوجه رئيس الادارة الى الموظف المؤاخذ بترك الوظيفة، انذارا لمطالبته باستئناف عمله، يحيطه فيه علما بالاجراءات التي قد يتعرض لها في حالة رفضه استئناف عمله. ويوجه الانذار الى الموظف بآخر عنوان شخصي له، مصرح به للادارة وذلك برسالة مضمونة الوصول وباشعار بالتسلم. واذا انصرم أجل سبعة أيام عن تاريخ تسلم الانذار ولم يستأنف المعني بالأمر عمله فلرئيس الادارة صلاحية إصدار عقوبة العزل من غير توقيف الحق في المعاش أو العزل المصحوب بتوقيف حق المعاش وذلك مباشرة وبدون استشارة المجلس التأديبي. اما اذا تعذر تبليغ الانذار؛ أمر رئيس الادارة بإيقاف أجرة الموظف المؤاخذ بترك الوظيفة . واذا استأنف هذا الاخير عمله داخل أجل 60 يوم أحيل على المجلس التأديبي، أما اذا لم يستأنف عمله في هذا الاجل تم عزله. من خلال هذا الفصل، يتضح ان المشرع المغربي يتحدث بلغة المفرد أي انه يعني الموظف الذي يترك الوظيفة لأسباب شخصية ويحدد مجموعة من الاجراءات للتعامل معه و لايعني الموظفين الذين يضربون عن العمل بناء على دعوة نقابية . وفي نفس سياق الفصل 75 مكرر سار منشور بن كيران رقم 12/2012، حول التغيب غير المشروع عن العمل.حيث اشار الى بعض بنود الدستور الجديد التي تطرقت الى تلبية حاجيات المرتفقين على وجه المساواة واستمرارية خدمات المرافق العمومية واخضاعها لمعايير الجودة والشفافية والمحاسبة وهذا لا يعني لا من قريب ولا من بعيد موضوع الاضراب وإنما تدور حيثياته حول طبيعة الادوار الملقاة على عاتق المرافق العمومية. ليدعو في الاخير الى تطبيق المساطر المنبثقة من الفصل 75 مكرر تحديدا. فالمنشور مسطري وليس تشريعي . - اما المرسوم رقم 2.99.1216 الصادر في 6 صفر 1421 (10 ماي 2000)، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 4801 بتاريخ 05/06/2000 الصفحة 1333. في شأن تحديد شروط وكيفيات تطبيق القانون رقم 12.81 بشأن الاقتطاعات من رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية المتغيبين عن العمل بصفة غير مشروعة. فقد ذهب هو الاخر في نفس الاتجاه الذي سلكه المشرع في الفصل 75 مكرر السالف الذكر. وهذا ما يتضح من خلال: المادة الأولى : ( تخضع رواتب موظفي وأعوان الدولة والجماعات المحلية، الذين يثبت غيابهم عن العمل بدون ترخيص من لدن رؤسائهم أو مبرر مقبول، للاقتطاع باستثناء التعويضات العائلية وذلك طبقا للشروط والكيفيات المحددة بعده). المادة الثالثة: تعتبر كل فترة تغيب عن العمل، خلال إحدى فترتي العمل القانونية اليومية، بمثابة 2/1 يوم، وتباشر الاقتطاعات من أجور الموظفين والأعوان على أساس 60/1 من مبلغ الأجرة الشهرية). المادة الرابعة:(يتم الاقتطاع بعد أن تقوم الإدارة بتوجيه استفسار كتابي للموظف أو العون حول أسباب تغيبه عن العمل). المادة الخامسة: (يجري الاقتطاع، المشار إليه أعلاه في المادة الأولى أعلاه بعد إسقاط الاقتطاعات برسم التقاعد والضريبة العامة على الدخل وواجبات الانخراط في الهيئات التعاضدية). المادة السادسة: (تباشر الاقتطاعات، المشار إليها في المادة الأولى أعلاه، بموجب أمر يبين المدة الجاري عليها الاقتطاع، يوجهه رئيس الإدارة المعنية بالأمر مباشرة إلى المصالح المكلفة بأداء الأجور. وتسلم للمعني بالأمر نسخة منه). من خلال هذه المواد يتضح مايلي: أولا: إنها تعني الانقطاع أو التغيب غير المبرر، وغير المقبول؛ كما نص عليه النظام العام للوظيفة العمومية وبالتالي لا تعني بأي شكل من الاشكال الاضراب. ثانيا: الإدارة بتطبيقها لهذا المرسوم على المضربين تكون قد اعتبرت الإضراب تغيب غير مشروع بشكل متعمد كما ورد في استفساراتها التي توجهها للمضربين، وبالتالي أخرجت هذا المرسوم من نطاق تطبيقه ووظفته بشكل سياسي في غير سياقه؛ الذي هو الانقطاع غير المبرر. كما استصدرت حق دستوري بشكل عنجهي، ينم عن ثقافة سياسية سمتها البارزة الاستخفاف بالقانون والقفز من السياسة إلى الدين والعكس بالعكس. وعليه، يمكن القول، أن الاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل بناء على دعوة الاطار النقابي الذي ينتمون إليه، عمل منافي للدستور واستهتارا به، بل إيحاء واضح بأن النص القانوني مجرد يافطة لتزيين الواجهة، بينما القوة هي المحدد خلف الستار بالنسبة لحكومة اليوم. ذلك ان الدستور كما ذكر هو التشريع الاسمى، الذي نص بكل وضوح على الضمانة الدستورية للحق في الانتماء النقابي والحق في الاضراب. كما يعتبر الاقتطاع ضربا لديباجة الدستور ( ولا ننسى أنها جزء من الوثيقة الدستورية بالنص الصريح) والتي تنص على التزام المغرب بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان. ثالثا: الاضراب في التشريع الدولي: يعد المغرب ملتزم باحترام الحريات النقابية مادام قد صادق على الاتفاقية رقم 98 المتعلقة بالحق النقابي والمفاوضة الجماعية منذ 1957 ومادام قد صادق على اتفاقية منظمة العمل الدولية المتعلقة بالحقوق الأساسية المرتبطة بالعمل (1998) وبالطبع فإن الإضراب الى جانب التفاوض الجماعي هما الوسيلتان الأساسيتان لممارسة المنظمات النقابية لوظيفتها المطلبية، المتمثلة في الدفاع عن المصالح الفردية والجماعية للفئات التي تمثلها. اضافة الى هذا، فقد صادق المغرب على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذي اقرته الاممالمتحدة بتاريخ 16 دجنبر 1966 واصبح ساري المفعول ابتداءا من 3 يناير 1976 والذي ورد فيه: تتعهد الدول الاطراف في هذا العهد بكفالة مايلي:" - حق الاضراب، شريطة ممارسته وفقا لقوانين البلد المعني" الذي هو الفصل 29 من الدستور(في غياب نص تنظيمي)؛ - لا يمكن الحد من ممارسة حق الإضراب فبالأحرى منعه إلا في حالات جد استثنائية معرفة؛ وهي تلك التي تتعلق بالمصالح الحيوية والتي تحددها منظمة العمل الدولية ( لجنة الحرية النقابية ) في " المصالح التي قد يسبب توقفها خطرا حالا وحقيقيا بالنسبة لحياة وأمن أو صحت السكان أو جزء منهم" . من خلال ما سبق ، يتضح ان الحكومة (خاصة قادة حزب العدالة والتنمية) في اطار تفعيل اجراءاتها اللاشعبية؛ تستهدف الموظف بمراسيم لا تشير الى الاضراب، وانما التغيب غير المبرر، الناتج عن اسباب شخصية محضة، لكنها تفعلها أساسا تجاه المضربين. رابعا: قاعدة " الاجر مقابل العمل" والموظف العمومي. بعدما لم تجد الحكومة قاعدة قانونية تستند عليها لشرعنةقرارالاقتطاع من أجور الموظفين المضربين عن العمل؛ لجأت الى ترديد قاعدة الاجر مقابل العمل. والواقع أن هذه القاعدة المستدل بها تبدو نشازا في حقل العلاقات المهنية بالوظيفة العمومية. ذلك أنها تعد تطبيقا للصبغة التبادلية لعقد الشغل، "اذ نقول أن من خصائص عقد الشغل أنه عقد تبادلي ملزم للجانبين، فالعقد شريعة المتعاقدين؛ إذا توقف أحد طرفيه عن تنفيذ التزامه حق للطرف الآخر أن يوقف التزامه بالمقابل. وكمثال على ذلك توقف أداء الأجر بمناسبة مرض الأجير أو تغيبه عن العمل لأسباب شخصية أو إصابته بحادث أو إضرابه عن العمل". وبالتالي، فهذه القاعدة نشأت في إطار القانون المدني وتحديدا ضمن نظرية العقد والمبنية على مبدأ سلطان الإرادة والتراضي وانتقلت الى قانون الشغل أي القانون الاجتماعي، مادام عقد الشغل يخضع – باعتباره عقدا تبادليا- لقواعد نظرية العقد ما لم يتضمن قواعد مقيدة وآمرة تحد من مبدأ سلطان الإرادة . فهل يمكن تطبيق هذه القاعدة في إطار الوظيفة العمومية ؟. للجواب على هذا السؤال، يقتضي المنطق القانوني الجواب عن الاشكالية التالية: هل علاقة الموظف بالإدارة هي علاقة تعاقدية في إطار عقد الشغل ويحكمها القانون الاجتماعي أم علاقة نظامية يحكمها النظام العام للوظيفة العمومية؟. بكل تأكيد، فعلاقة الموظف بإدارته هي علاقة نظامية لا مكان فيها لمبدأ سلطان الإرادة وبالتالي فهي بعيدة كل البعد عن تطبيق قواعد قانون الشغل والقانون المدني. ذلك أن علاقة الموظف بالإدارة يحكمها النظام العام للوظيفة العمومية الذي لا مكان فيه للتعاقد؛ وإذا كان هناك بعض الأشخاص الذين ارتأت الإدارة التعاقد معهم لاعتبارات المصلحة أو لعدم توفر شروط الموظف العمومي فيهم، فإن هذه العلاقة تخرج من دائرة النظام العام للوظيفة العمومية وتدخل في نطاق قانون الشغل أو القواعد العامة للقانون المدني. مثلا أعوان الحراسة والنظافة فعلاقتهم مع الادارة علاقة تعاقدية يحكمها قانون الشغل. والاستثناء الوحيد هو ما نص عليه الفصل 46 مكرر من امكانية طلب الموظف لرخصة التغيب مرة واحدة لكل سنتين بدون أجر لا تتعدى شهرا واحدا غير قابل للتقسيط، وبعد موافقة رئيسه وتحدد كيفية منح هذه الرخصة بمرسوم. وهكذا نلاحظ بأننا بعيدين جدا عن الطابع التعاقدي كموظفين عموميين وأن كل أوضاعنا بشأن تغيباتنا بأجر أو بدون أجر، يحددها النظام العام للوظيفة العمومية ولا مجال فيها لإعمال قاعدة الأجر مقابل العمل كقاعدة مدنية. ولذلك فلا يمكن الاحتجاج بقاعدة الاجر مقابل العمل واقحامها في مجال غير مجالها، المنبثقة منه والمنسجمة مع قواعده الأخرى . خامسا: الإضراب في متن الاجتهاد القضائي. الاجتهاد في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية هو بذل الجهد والوسع في استنباط الأحكام من أدلتها بالنظر المؤدي إليها. وقد يقوم بالاجتهاد فقيه من الفقهاء فيكون اجتهاداً فقهياً، أو يقوم به القاضي عند النظر في النزاع المعروض عليه فيكون اجتهاداً قضائياً. وفي مجال القانون يمكن القول، قياساً على تعريف الفقهاء للاجتهاد، إن الاجتهاد القضائي هو بذل القاضي لجهده في استنباط الأحكام القانونية من مصادرها الرسمية. على أن مصطلح الاجتهاد القضائي يقصد به غالباً الرأي الذي يتوصل إليه القاضي في مسألة قانونية والذي يقضي به. وعلى هذا يقال اجتهادات المحاكم بمعنى الآراء التي أخذت بها هذه المحاكم في أحكامها. فالاجتهاد القضائي لكي يسمى كذلك لابد أن يتشكل من قرارات متواترة عن المجلس الاعلى/محكمة النقض، باعتبارها محكمة قانون و موكول لها نظريا توحيد العمل القضائي. وهنا يمكن أن يكون القضاء مصدرا تفسيريا للقانون في غياب وجود النص. والحال ان النص موجود ودستوري في موضوعنا هذا. وباستقراء العمل القضائي –وهو محدود جدا- بشان الإضراب يمكن القول بانعدام أي حكم قضائي يقول بتطبيق قاعدة لا أجر بدون عمل و بالتالي يعطي مشروعية لاقتطاع أجور الموظفين المضربين. بإستثناء الحكم الابتدائي الصادر عن المحكمة الادارية بأكادير20 أبريل 2006، الذي اعتبر اضراب احد اعضاء الهيئة الوطنية للتعليم غير مبرر ودرجه ضمن التغيبات غير المبرر. والمطلع على هذا الحكم الذي يوحي بأنه استند على قاعدة الاجر مقابل العمل، يكتشف عدة ثغرات منها إقراره بأن القانون التنظيمي المنتظر صدوره لتنظيم الاضراب يوازي النص الدستوري وهذا غير صحيح. ذلك النص الدستوري أسمى من القانون التنظيمي المنتظر، الذي لن يستطيع إلغاء الاضراب بقدر ما سيحدد اشكال وطرق القيام به من جهة ومن جهة ثانية فالحق الدستوري لا يمكن ان يبقى معلقا في انتظار صدور القانون التنظيمي، الذي تبقى مسؤولية اصداره ملقاة على عاتق الحكومة وليس الأجراء. لكن يبدو أن هذا الحكم الذي لم يستأنفه صاحبه، يطعن في إضراب المدعي؛ لكون الاطار الذي ينتمي إليه لم يخبر الادارة بالإضراب. وهذا مبرر مقبول قانونا، ذلك أن استمرارية المرفق العام هي بالمقابل من حق المرتفقين. لذلك وجب إخبار الادارة بالإضراب من طرف النقابات حتى تتخذ كل الضمانات للحفاظ على استمرارية المرفق العام. أما الحكم الصادر عن المحكمة الإدارية بالرباط بتاريخ 2/يوليوز/2006 و الذي يقضي بمشروعية الاقتطاع من أجر الموظف الذي شارك في إضراب غير مشروع ومن تم فإن تغيبه لم يكن مبررا. بمعنى أن حكم المحكمة الإدارية لم يقرر إعمال قاعدة لا أجر بدون عمل لأن الموظف تغيب عن العمل بسبب إضرابه بل لأن الإضراب اعتبرته المحكمة غير مشروع وعدم المشروعية أن التغيب غير مبرر؛ أي أن المطالب المرفوعة مثلا ليست من حق المضربين. وهكذا يتضح بأن حدود تدخل القضاء هي مراقبة مشروعية الإضراب طبقا للقواعد العامة دون أن يسمح لنفسه بالتدخل في الجوانب الأخرى،والتي يعلم أنها مجال خالص للقانون التنظيمي. ولأن من شأن تجاوز تلك الحدود المس بمبدأ فصل السلطات الذي يقوم عليه نظام الدولة، وبالتالي فالفصل بين القانون الذي ينظم وضعية الموظف العمومي والاجير في القطاع الخاص تبقى مسألة جوهرية في هذا الباب. وما الاحكام القضائية التي اصدرتها عدة محاكم ادارية لصالح المضربين إلا انتصار لهذا الطرح. جاء أيضا في قرار المجلس الأعلى عدد 96 في 16/1/1996 :" ان الإضراب و إن كان حقا مشروعا بمقتضى القانون فإن القرار المطعون فيه حين اعتبر بأن ما قام به العمال يهدف إلى تحقيق مطالب مشروعة فإنه لم يوضح ما هي المطالب حتى يمكن تقييمها و البحث عن مشروعيتها". وبالتالي يجب أن نستمر في توضيح مطالبنا، كما دأبت على ذلك المركزيات النقابية والتنظيمات المهنية، رغم أن هذا القرار يعني القطاع الخاص وليس العام. في قرار آخر تحت عدد 19 في 14/3/2000 جاء فيه: " الإضراب و إن كان حقا مشروعا فإن الغاية منه الدفاع عن حقوق مكتسبة أو مشروعة للعمال و الإضراب النقابي التضامني مع عامل تم توقيفه لا يهدف إلى مصلحة عامة للمضربين و يشكل بالتالي عملا غير مشروع". ما يلهمنا هنا، هو الإشارة إلى الحقوق المكتسبة؛ باعتبار أن الحق المكتسب هو وضع شرعي بموجبه تتحصن المنفعة التي حصل عليها الشخص جراء قانون أو قرار إداري من الإلغاء أو التعديل. فالوضع الشرعي هو المركز القانوني الذي يجعله القانون للشخص بخصوص هذا الحق ، بحيث يكون محصننا، أي محمي بقوة القانون ضد أي تعديل أو إلغاء. والاضراب، إن افترضنا أنه غير قانوني أو لنقول أن الطرق التي نمارسه بها "غير قانونية" من قبيل عدم اخبار الادارة في بعض الحالات؛ فإن كل هذا أصبح حقوقا مكتسبة وبالتالي لا يمكن تعديلها أو إلغاؤها. مادامت تراكمت لسنوات بل عقود ولم تلجأ خلالها الحكومات المتعاقبة للاقتطاع. * عضو المكتب التنفيذي للاتحاد الوطني للمتصرفين المغاربة