قد أكمل الخمس سنوات ، واليوم آخر تطعيم له ، الموعد قد علقته على باب الثلاجة ، موعد كهذا لا يجب أن تنساه هي التي على ما يبدو قد أصيبت بداء النسيان !!! ذهب الأبناء إلى المدارس ، رتبت البيت ونظفته بعد خروجهم وجهزت طعام الغذاء على غير عادتها باكرا ، فموعد ابنها مع طبيبه الساعة العاشرة . حمته حمام الصباح ، فهو مازال يتبول في السرير تبولا لاإراديا ، وعليها الآن أن تساعده على ارتداء ملابسه . آه ثم آه من ملابس الخروج!!! تلك المشكلة العويصة ، والمهمة الصعبة التي عليها أن تباشرها كل يوم !! اختارت له طقما جميلا ، لكنه تمسك ككل مرة بذاك القميص وذاك السروال المتسخين ، طقم واحد يحب أن يلبسه ولا يرضى أن يغيره .إلى درجة أنه عندما يحدث أن تغسله يقف بجانب الغسالة ،وعندما تنشره، لا يكف عن تفقده على حبل الغسيل، وقد لا يصبر على بعده أكثر فيلبسه قبل أن يجف !!! اقترحت عليه الكثير من البدائل ، عرضت عليه كل الملابس التي في خزانة الملابس بكل ألوانها الملفتة ،لكنه أصر على أن يلبس ذلك الطقم المتسخ !!! شرحت ، أمرت ، هددت ، توعدت ، تفاوضت ... لا فائدة !!! ما العمل؟؟؟ ستلبسه إذن ما اختارت له هي أن يلبسه . ألا تستطيع أن تحكمه ؟!!سألت نفسها بتحد هي في الحقيقة ليست في مستواه !!!! نوبات صراخ ، وتشنجات أصابت الولد من أجل ذلك الطقم!! تعلق غريب بذلك الطقم !! "إن سرا ما يعرفه هو ولا تعرفه هي يربطه بذلك الطقم و يجعله يتمسك به كل هذا التمسك": يقول علماء النفس . هكذا سمعت البروفيسور في البرنامج الإذاعي يقول عندما تحدث عن كراسة وسخة أو دبدوب وسخ يتعلق بهما الطفل . هذا ما قاله البروفيسور ، رجل أمضى عمرا مع الكتب والتجارب . وماذا عن قوم الجهل والجهالة ؟؟ ماذا سيقولون ؟؟سيقولون حتما أمه لا تهتم به ولا بنظافته !!! وماذا عن زوجها هو الآخر ؟؟ سيتهمها بالإهمال والتقصير طبعا!!! وماذا عن الأطقم التي اشترتها له والتي دفعت فيها مبالغ وقدرها ؟؟؟ هل تكومها في الخزانة ؟؟؟ وقت ليس بالقصيرانقضى أمام الخزانة همت فيه مرات كثيرة بأن تضرب ابنها . تذكرت الضربات والقرصات التي كانت تتلقاها من أمها وهي طفلة . ماذا سيحدث لو ضربته ؟!!؟؟ هاهي ذي سليمة معافاة جسديا ونفسيا رغم تلك القرصات والضربات ،ولا تذكر أنها عاشت يوما طفولة تعيسة ولا أنها حقدت على والدتها بسبب ذلك !!! ولكنها متعلمة ، والطفل لا يجب أن يضرب ،هكذا تقول التربية الحديثة ، لا داعي للمغالطة إذن ولا للمقارنة بين جيلها وجيل أبنائها فالأبناء قد خلقوا لزمان غير زمانها وليس كل مرة تسلم الجرة !!! لن تضرب ابنها إذن ، ولن تهتم بما سيقوله الناس، ولا بما سيقوله زوجها . ولن تحرمه من الطقم الذي يحبه ،و لن تقهره من أجل خرقة ! ولا شيء عندها أهم من دموعه . كفكفت دموعه ، غسلت وجهه وطبعت قبلتين ناعمتين على خده تصالحه بهما .وعادت إلى الطفل بسمته. لبس الابن طقمه ، و لم يبق سوى الحذاء. وقد بقي على موعد الدكتور ربع ساعة . أرادت أن تلبسه حذاءه ، لكنه أصر على أن يلبس هو الحذاء بنفسه . شيء جميل ، يريد أن يثبت نفسه ، عليها أن تشجعه ، لكن يا إلهي ليس الآن !!! لبسه أخيرا ، تنفست الصعداء ، والساعة الآن العاشرة . أمعن الطفل النظر في حذائه : " ماما السباط موسخ خاصني نسيريه " أجابت : واخة آماما لما نرجعوا " لكنه بدا مصمما على أن يلمع حذاءه . اختصرت الوقت الذي ستضيعه في محاولة أن تصرفه عن ذلك ، وأحضرت خرقة نصف مبلولة من المطبخ ولمعت له بها الحذاء . لم يكن مقتنعا ، فالخرقة ليست هي " السيراج "الذي يستعمله والده ، ولكنه لم يعلق هذه المرة !!!! تعودت أن تقفل الباب من الداخل بالمفتاح خوفا على ابنها من النزول إلى الشارع . المفتاح ليس في الباب . أين هو المفتاح ؟ كان هنا في الباب . أين وضعته ؟؟!! آه من موضوع النسيان هذا !!! فتشت في كل الأماكن التي تعودت أن تضع فيها المفاتيح ، في حقيبة يدها ، خلف مخدات الصالون ، فوق الثلاجة ... نظر إليها وهو يضحك ضحكاته الشقية وعيناه تشعان مكرا ودهاء طفوليا لذيذا : " علاش كتقلبي ؟ " كان السؤال وحده دليلا على أن له يدا في اختفاء المفتاح . - "فين هو "الساروت" آ العفيريت ؟ فين خبيتيه ؟؟" - " ما عنديش " أجاب ضاحكا يريد أن يشاكسها . يا ربي ليس وقت مشاكسة الآن . تريد أن تلحق الموعد ، لقد تأخرت !!! أراها المفتاح وأشار أن اتبعيني وأخذ يجري في الشقة لتمسك به . - عافى ولدي آرى الساروت . تعطلنا . استمر في جريه ... لم تستطع أن تمسك به . - آرى الساروت قلت لك . غيرت نبرة الصوت من الاستعطاف إلى الأمر . لكنه استمر في المشاكسة وصعدت هي في النبرة مهددة : راه غادية نضربك آرى الساروت أحسن لك !!! استمر في جريه وعندما كادت أن تمسك به اتجه إلى الشرفة ورمى بالمفتاح في الشارع !! أحست هذه المرة أنها تريد أن تضربه ضرب غل وانتقام لا ضرب تأديب ، لكنها تماسكت في آخر لحظة ... فرغت شحنة الغضب بالعض على شفتيها ،ولما آلمتها شفتاها عضت على أطراف أكمامها !!!!!! الشارع خال من المارة ... نادت على جارتها من الشرفة ... لم ترد . يبدو أنها في السوق ... اتصلت بها على الجوال ... هي فعلا في السوق . نادت من الأنترفون على بواب العمارة ، لكنه لم يرد ، هو هكذا دائما ، يختفي عندما تحتاجه ولا يظهر إلا نهاية كل شهر !!!! أخذت تترقب المارة إلى أن رضي أحدهم أن يفتح لها باب الشقة . بمجرد أن فتح الباب خرجت مسرعة ، وعندما وصلت تحت عند باب العمارة ، تذكرت البوتاجاز . ربما تكون قد نسيته مفتوحا ... عادت ثانية إلى فوق ونزلت بعد أن قطعت الشك باليقين . اعتادت أن يكون الشارع الذي تسكن فيه مليئا بسيارات الأجرة، لكنها هذه المرة أحست وكأن كل سيارات الأجرة قد اتفقت على أن لا تمر من ذلك الشارع لكي تزيدها تأخيرا. وعندما استطاعت أن توقف واحدة ، كانت الساعة قد تعدت الحادية عشرة !!!!! اعتذرت لموظفة الاستقبال عن تأخرها ... شرحت لها ما حدث ... تعاطفت معها ووعدتها أن تدخلها بعد أن تخرج المريضة التي سبقت ابنها . الحمد لله سترجع قبل الثانية عشرة ، قبل عودة الأولاد ووالدهم إلى البيت . عندما نادت الموظفة على اسمها سمعت صوتا من المنتظرين :" آش هاذ الشي آ لالا ؟!! احترمي الدور !! يا لطيف ... يا لطيف !! هاذ الشعب عمرو ما يتقدم ... ديما اللور اللور ... الشعوب ما عرفت فين وصلات واحنا مازال باقين نتضاربو على الدور !!!!!!!!" أحست بالخجل ، وموظفة الاستقبال أيضا ... موقف لا تحسدان عليه !! حاولت الاثنتان أن تبررا غلطتهما لكن الرجل كان يرفض حتى أن يسمع :" كلنا عندنا ظروف آ لالا ..." وانضمت إلى صوته باقي الأصوات . تأسفت للجميع ، وتأسفت للموظفة على الموقف المحرج الذي وضعتها فيه ، وأخذت مقعدا تنتظر دورها بعد أن يمر كل من سبقوها . وخيل إليها أن الأنظار كلها مسلطة عليها وعلى ابنها بحذائه النظيف وطقمه " التحفة "!!!!!!!!! عندما عادت إلى البيت كانت الساعة الواحدة . كان الزوج قد عاد من العمل والأولاد من المدرسة من أجل فسحة الغذاء . - " فين كنت ؟" سأل الزوج . " ومال الولد مخرجاه معاك هكذا بحوايجو موسخين كي الطلاب ؟!! واش ما عندو حوايج ؟؟!!" وقبل أن تشرح علق : " عرفتي ... إنت زيرو ... والو ما كتعرفي لا تربي، لا تنظمي حياتك " -" إيوا بارك الله فيك آسيدي ... ما عندي ما نقول ليك !!!" أجابت ودخلت إلى المطبخ لتسخن الأكل وتجهز مائدة الطعام .