على غرار كل سنة، ومع إطلالة الشهر الفضيل، شهر رمضان، ترسل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية مئات الأئمة والوعاظ والواعظات إلى مختلف الدول الأوروبية، وخاصة إلى الدول التي تعرف حضورا مكثفا للجاليات المغربية. ويكمن الهدف من هذه البعثات، حسب الجهة المكلفة، في تأطير مغاربة العالم دينيا وتأمينهم روحيا وحفظهم من كل غلو، عبر الإشراف المباشر على هذه العملية والتعاون مع مختلف المؤسسات والمساجد التي توجد بعين المكان. ويتم توزيع هؤلاء الأئمة والوعاظ والمرشدين، حسب ما أعلنت عنه الوزارة الوصية، استنادا إلى الاتفاقيات التي توقعها مع سفارات وقنصليات المملكة بالخارج ومع الهيئات والمساجد والمراكز المغربية بعين المكان. يتولى هؤلاء الموفدون إلى الخارج مهمة إمامة المصلين في صلاة العشاء والتراويح، فيما يقوم الوعاظ من كلا الجنسين بمهمة الوعظ والإرشاد وإلقاء الخطب يوم الجمعة، فضلا عن ربط علاقات اجتماعية مهمة جدا بين أفراد الجاليات، والسهر على انسجام وحدات هذه الجاليات. يتزامن حضور هذه البعثات إلى الدول الأوروبية مع نقاشات وسجالات تأخذ طابعا أكاديميا وسياسيا تارة ومجتمعيا تارة أخرى، حول مكانة الإسلام والمسلمين بهذه الديار، وحول المخاطر التي تتعرض لها الدول الأوربية من التطرف الديني، ومع الدعوات إلى القطع مع الإسلام المستورد من الدول العربية والإسلامية، ومن بينها المغرب، وفي الوقت ذاته العمل على بناء إسلام أوروبي محلي، قائم على أسس اجتماعية وخصائص ثقافية للدول المستضيفة. وفي إطار هذا الجو المفعم بالتعدد والتنوع والاختلاف والتباين على مستوى الأفكار والآراء ووجهات النظر حول هذه البعثات، وما تثيرها من إشكالات في الدول الأوروبية المستضيفة، ارتأينا أن نحاور الباحث المغربي الدكتور محمد أجواو في الموضوع نفسه. في البداية، هل يمكن أن تقربوا القراء من شخصكم الكريم؟ اسمي محمد أجواو، مزداد سنة 1968 بقرية ثازغين بإقليم إدريوش، تابعت دراستي الجامعية بمدينة فاس، شعبة الفلسفة. في سنة 1991، انتقلت إلى هولندا، بهدف متابعة الدراسة الجامعية، حيث استكملت دراساتي العليا في تخصص علم الأديان (اللاهوت)، ثم بعد ذلك ولجت قسم تكوين الأساتذة، وفي سنة 2010، نلت شهادة الدكتوراه بجامعة تلبرخ بجنوب هولندا، وصدرت في السنة نفسها بعنوان "أئمة وراء القضبان". اشتغلت في مجال التعليم والعمل الاجتماعي ومستشارا بوزارة العدل الهولندية في قضايا الاندماج والأقليات المسلمة، عينت سنة 2007 كأول رئيس هيئة الإرشاد الديني في مندوبية السجون بوزارة العدل الهولندية.. ومنذ سنة 2011 أشتغل أستاذا باحثا بالجامعة الحرة في قسم الدراسات الإسلامية بمدينة أمستردام، وبجامعة لوفان لنوف بمدينة بروكسل البلجيكية. صدرت لي، إلى حدود اللحظة، الكتب التالية: سنة 2006 كتاب "المسلم الذي أكون"، وفي سنة 2010 "أئمة وراء القضبان"، وفي سنة 2014 صدر لي أيضا كتاب بعنوان: "من هو المسلم؟". كيف تقيّمون أداء البعثات الدينية التي ترسلها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب إلى مختلف بقاع العالم؟ وكيف تنظرون إلى تأثيرها إيجابا أو سلبا داخل المجتمع المغربي بهولندا؟ أود، في البداية، أن أقر بمسلمة تكمن في غياب البحوث والدراسات في هذا المجال، لكي نقف على التقييم الدقيق والصائب لفاعلية هذه البعثات المغربية على الجالية المغربية في مختلف بلاد العالم بشكل عام، وعلى الجالية المغربية بهولندا بشكل خاص.. في ظل غياب هذه البحوث والدراسات، لا يمكن لنا أن نحكم بالإيجاب أو بالسلب على هذه المبادرات، لكن يبدو لي شخصيا أن مثل هذه المبادرات مؤشر إيجابي، لأنها تلبي حاجات المتدينين المغاربة في هولندا، وخاصة الحاجيات الروحانية، وتسد فراغا كبيرا على مستوى الكفاءات والقيمين الدينيين الذين يمارسون هذه المهمة، وثمة فراغ أيضا على المستوى السوسيولوجي تسدها هذه البعثات. وكما نعلم بالإضافة إلى دوره الروحي والديني المهم، فإن شهر رمضان يلعب أيضا دورا اجتماعيا، يتمثل في تشبث المتدينين بنمط من الألبسة سواء كانوا رجالا أو نساء، ويساعد حضورهم على توثيق أواصر العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع الواحد، ويملأ فراغا هوياتيا، وخاصة أننا نعيش حربا رمزية. ومن ثمّ، أرى أنه إذا لم يتم ملء هذا الفراغ من لدن أئمة ووعاظ مغاربة وبأشكال ورموز التدين المغربي سيملأ لا محالة بأشكال ورموز من بلدان أخرى، ونحن في هولندا مثلا نعيش ويلات تدخل جهات ودول من المشرق العربي، والكل على علم كيف أسهمت الدول في بلورة نموذج من الغلو الديني، كانت له الآثار السلبية على الجاليات المسلمة وعلى الجالية المغربية بشكل واضح. لا ينبغي أن ننسى أن هؤلاء الأئمة موسميون، نخفف بهم العبء على الأئمة المستقرين، وخاصة أن هؤلاء الأئمة أمام مهمة صعبة وجسيمة خلال شهر رمضان، وتطلعات المتدينين كبيرة وغير محدودة خلال هذا الشهر، فهنا يقع التكامل والتعاون، وهي فرصة مهمة للجميع، لربط أو إعادة الصلة بالبلد الأصل.. هذه الأشياء أعتقد أنها بريئة وليست لها عواقب سلبية على الجاليات المغربية، وحضور الجانب الإيديولوجي في حدود ما أعلم ضئيل، كما أنها تدعم مسألة التنوع والتعدد داخل الثقافة الواحدة، إلا أن ما أخافه هو السير وراء النماذج المغالية والمتطرفة القادمة من بلدان أخرى كالمملكة العربية السعودية مثلا، ولا تنسجم وخصوصيات الدول الأوروبية. أما النموذج المغربي فيعمل على تناسق الهوية الأم والهوية المكتسبة، وهذا التوازن مهم بالنسبة لنا نحن في هولندا. في الموضوع نفسه، كيف تقيّمون سلسلة التكوينات للقيمين الدينيين وللأئمة على وجه الخصوص التي أشرفت عليها بعض المؤسسات الرسمية المغربية، في السنوات الأخيرة، ومدى فاعليتها ضمن السياق الهولندي؟ وما رأيكم في فكرة استيراد ما يسمى ب"النموذج المغربي المعتدل في التدين" إلى الدول الأوروبية عامة وهولندا على وجه الخصوص؟ لقد حضرت دورات من هذا الشكل، أرى أنها مفيدة جدا، وهذا الأمر أيضا رهين بطبيعة هذه الدورات نفسها وبموضوعاتها وبمدى الجاهزية المعرفية وكفاءة المؤطرين الذين يشرفون على تأطير هذه الدورات أنفسهم، وبمدى تطابق موضوعات الدورات بحاجيات المكونين أو لنقل المشاركين او المستهلكين. وأعني بالحاجيات في هذا المقام: الدينية والاجتماعية أو المعرفية في هذه البلاد. لقد حضرت دورات من هذا الشكل كان فيها الأئمة مستهلكين، وفي الوقت نفسه منتجين للمعرفة؛ لكنها تظل للأسف الشديد هزيلة جدا، بالمقارنة مع خطورة وأهمية المهنة التي يمارسها الأئمة أنفسهم، وتأخذ طابع الارتجالية وتفتقد إلى الاستمرارية. أما الشق الثاني من السؤال، الذي يذهب إلى الحديث عن النموذج المغربي في التدين، الذي ألاحظه كباحث ومعاين عن قرب للظاهرة، أنه نموذج يتسم بالمرونة والاعتدال، ويقدم في شكل نصائح وتوجيهات واقتراحات ولا يفرض فرضا على المتدينين أو على المؤسسات الدينية، بما فيها المساجد أو المراكز الإسلامية. إن الاعتدال يشمل الشعائر التعبدية، كالصلاة والصوم والزكاة، لا تنسى أن أئمة من أنواع تدين أخرى لا يزالون في قلب العواصم الأوروبية، يفتون بأشياء غريبة.. طبعا، لا يمكن لك لنا، بأي حال من الأحوال، أن نسقط السياق المغربي على السياق الهولندي، فهما مختلفان ومتباينان بشكل كبير؛ لكن الذي نلاحظه أيضا أن سؤال الاعتدال سؤال محرج للغاية لنا اليوم، وخاصة في هذه البلدان الأوربية، فلفظة اعتدال اشتقت من الجذر عدل، ومن قيمة العدل الذي جاء الدين ليؤسسها ويبني الإنسانية عليها، فلا عمران بلا عدل، وضده الظلم، لكن الأحكام التي صدرت في الأيام الأخيرة على شباب الريف، الذين خرجوا في تظاهرات شعبية، منددين بالأوضاع الاجتماعية المزرية، التي تعاني منها شرائح اجتماعية كثيرة بالمنطقة وبالمغرب كله، كانت أحكاما قاسية وفيها غلو كبير، تتنافى مع نموذج الاعتدال الذي تريد الدولة المغربية تقديمه وتسويقه إلى الآخرين، على أنه النموذج المغربي في التدين، فكيف نقر بمبدإ الاعتدال في وسط هذا المناخ من الترهيب والخوف والأحكام القاسية؟ إنها ضربة قاصمة لمصداقية هذا النموذج.. بكلمة إن الاعتدال ينبغي أن يشمل جميع مناشط الحياة، وفي الوقت ذاته يظل هذا المفهوم مفهوما فضفاضا. من جانب آخر، كنتم من الأطر المغربية التي اشتغلت على موضوع التكوينات الجامعية للأئمة المغاربة داخل الجامعات الهولندية، التي برمجت وقت قدوم وزيرة الاندماج ريتا فردونك، إن على مستوى رسم السياسات أو البرامج بالإضافة إلى التدريس الجامعي. أما وأن هذه الشعب والتكوينات قد توقفت في معظم الجامعات، فما هي الأسباب والعوامل التي أدت إلى فشل هذا المشروع؟ اعذرني، إن أشرت إلى أنني منذ 2012 أشتغل رئيسا لقسم شعبة الدراسات الإسلامية بالجامعة الحرة، فكانت عندي مسلمة جاهزة ولا أزال أومن بها، تكمن في أن رجال الدين والأئمة لا يتم تكوينهم في شعب بالجامعات، وظيفة الجامعات تكمن في تخريج أطر أكاديمية وباحثين. أما تخريج الأئمة ومدرسي العلوم الشرعية وما إلى ذلك، فهي من مهمة الجاليات نفسها، أو بتعبير أدق الجماعات جماعات المتدينين أنفسهم، إنها مهمة ذاتية، فكنت دائما أعارض هذه الفكرة، فكرة تكوين الأئمة بالجامعات. وفي حالة ما إن كان الإمام في حاجة إلى تطوير لقدراته المعرفية ومهاراته الاجتماعية أو التواصلية، فإن الجامعة بإمكانها أن تلعب هذا الدور وتمارس هذه الوظيفة. أما تكوين الأئمة في الجامعات الذي جاء في سياق سؤالكم، فهي قضية مضللة، ولا يطابق الواقع ولا يطابق واقع الجامعات، يستحيل تكوين الأئمة شرعيا أو دينيا في الجامعات؛ فسياستي كانت كالتالي، أسائل المسؤولين عن هدفهم من وراء هذا التكوينات، فيجيبونني بأن الهدف من وراء هذه التكوينات هو تأطير الأئمة وهم بدورهم يِؤطرون الشباب داخل المساجد. وفي هذه القضية، خطأ كبير وفادح، الشباب يقضون معظم أوقاتهم في المدارس والجامعات والأندية وما غير ذلك وليس في المساجد.. لذا، فالجهود ينبغي أن تنصب على تكوين الأطر والمدرسين الجامعيين والفاعلين ومستشارين اجتماعيين من أصول مغربية.. قد أضرب مثلا في هذا المقام، بالباحث المغربي التيجاني بوالعوالي الذي درس عندنا في هذه الجامعة، وتخرج منها، والآن يشتغل إطارا تربويا في بلجيكا.. هذه النماذج هي التي أريد دائما وأبقى دوما أسعى إلى الاشتغال عليها، والأكثر من ذلك هو أن هناك فراغا كبيرا لدى كثير من الطلبة والأطر والموظفين المغاربة، الذين يمارسون مختلف المهن، من أطباء ومحامين وباحثين في العلوم الإنسانية. هؤلاء في أمس الحاجة إلى هذه التكوينات الإسلامية داخل الجامعات الهولندية. أما في الجامعة البلجيكية، فالأمر يختلف، إذ تتوجه الجهود نحو تكوين أساتذة نظاميين للإسلام في المدارس الحكومية. هذا فضلا عن تكوين ما يسمى بأئمة المجال أو الفضاء العمومي. ثمة أئمة كثيرين يشتغلون في السجون والمستشفيات وفي الجيش الهولندي أيضا؛ لكن هذه التكوينات، التي شملت هاته الفئات المستهدفة، كانت تكوينات أكاديمية وعلمية بحتة، ولم تكن شرعية، والغرض منها هو بالإضافة إلى تطوير الجانب المعرفي والعلمي والبحثي والنقدي، تأهيلهم لكي يتمكنوا من ممارسة وظائفهم، كمرشدين روحيين. أما بالنسبة للديانات الأخرى كالمسيحية، فالقساوسة مثلا يكونون في جامعات بعينها، ويلقون مختلف العلوم والمعارف، كل ذلك يتم عن طريق مؤسسات الكنائس، فالكنائس تسهر على تزكيتهم ومنحهم لقب القسيس أو ألقاب أخرى، وفي آخر المطاف على توفير الإمكانات وتوظيفهم في أماكن مختلفة. على الرغم من أن استقرار المسلمين فعليا في هولندا قد تجاوز نصف قرن وعدد المساجد وصل اللحظة إلى حوالي 500 مسجد، لا تزال تثار قضية الحسم بين: جلب الإمام من البلد الأصل، أو تكوينه في البلد المستضيف، كيف يمكن حل هذا الإشكال، أخذا بعين الاعتبار الفشل الذريع للتكوينات التي أشرت إليها سابقا وهشاشة وضعف تكوين الأئمة الذين يجلبون من المغرب؟ أود أن أذكر القارئ الكريم، وأنا بصدد الإجابة عن هذا السؤال، بأن موضوع رسالتي للدكتوراه كان حول الإمام الذي يزاول مهنته كمرشد روحي داخل السجون؛ فعدد لا يستهان من هؤلاء الأئمة تكونوا بالمغرب أو في العراق أو في سوريا أو في مصر بالنسبة إلى كثير من الأتراك، قبل أن يأتوا إلى الديار الهولندية.. إذن، فهم لم يكونوا صفحة بيضاء، وفئة كبيرة منهم تكونوا تكوينا جامعيا، في تخصصات من قبيل الدراسات الإسلامية أو تخرجوا من كليات الشريعة وأصول الدين، هذا فضلا عن ما تلقوه في الجامعات الهولندية، من تكوينات إضافية أخرى في مجالات علمية مختلفة، ومن تدريبات خاصة بهدف تطوير مهاراتهم التواصلية أو الاجتماعية أو لتحسين أدائهم في مراكز عملهم، إلا أن الإمام داخل المساجد يظل خلف الركب. فعدم توفير هذه الإمكانات، على الرغم من وجودها بشكل كبير في المجتمع الهولندي، من لدن المشرفين ومسيري مؤسسات المساجد يجعل الإمام من داخل المساجد لا يستطيع أن يواكب التطورات الهائلة والتغيرات السريعة التي تعرفها المجتمعات الأوروبية... هذا ما يؤثر على طبيعة الخطاب الذي ينتجه، خطاب أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه ينتمي إلى عهود غابرة، ولا يواكب العالم والعصر.. وهذا ما يجعل الإمام داخل مؤسسات الدولة، كمندوبية السجون أو وزارة العدل بشكل عام أو من داخل المستشفيات أو الذي يشتغل كمؤطر روحي داخل الجيش، أكثر قدرة على التأقلم والاندماج وعلى أداء مهمته بشكل فعال وإيجابي، من الإمام الموجود بالمساجد. أما بخصوص استيراد النموذج المغربي، فمن الناحية الصورية، أقول وأكرر إننا نحن شخصيا استفدنا ولا نزال نستفيد من هذه التجربة ومن المراجع التي نستعين بها كتاب "دليل الإمام والخطيب والواعظ" لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، الذي يشكل خريطة طريق بالنسبة للأئمة، يجيب عن أسئلة دقيقة، كمن هو الإمام، ما هو شروطه، وأدواره ومهامه وحدود اشتغالاته وتخصصاته، وما هي القوانين المؤطرة لمهنته، وماذا عن الإمام وعلاقته بالمجال العام في دول تؤكد على فصل الدين عن الدولة. لا أخفيك أنني عندما بدأت العمل في هذا المجال، عانيت كثيرا من الفقر الكبير على المستوى النظري وعلى مستوى المساطر والقوانين المؤطرة لهذه المهنة. هذا فضلا عن أننا استفدنا الكثير من التجربة التركية، وخاصة أنها دولة علمانية، فسهلت علينا أمورا كثيرة، في تعاملنا مع قضايا وإكراهات متعدد ومختلفة واجهتنا طيلة هذه المدة من اشتغالنا في هذا المجال. بكلمة أقول: إن الاستفادة من الأطر والنماذج، سواء أكانوا في الداخل أو في الخارج أمر محمود ومرغوب فيه؛ لكن ينبغي أن يخضع للتمحيص والنقد والتبيئة، بما يتوافق والبيئة الأوروبية التي نعيش فيها، والتي نشكل جزءا لا يتجزأ منها. ولا ينبغي أن نكون عدميين، بمعنى أن كل ما يأتي من الخارج فهو مرفوض، فهذا لا يقبله المنطق والعقل.. و هذا يسري أيضا على المجموعات الدينية الأخرى، وأضرب مثلا بالكنيسة الكاثوليكية الهولندية، التي تجلب كل سنة المئات من القساوسة من أمريكا اللاتينية، يشترط فيه أن يكونوا مؤطرين تأطيرا أكاديميا، ويتم تكوينهم في شعب متخصصة وبشكل مكثف في الجامعات الهولندية، وتوفر لهم كل الإمكانات لأداء مهمتهم على الشكل اللائق بهم، ويتلقون راتبا محترما جدا.. إذن، ما الفرق بيننا وبين هؤلاء؟ فالإشكال ليس هنا، إنما يكمن في الثقافة التي ما زالت سائدة عندنا نحن المغاربة، فمعظم مؤسسات المساجد تريد استقطاب أئمة من المغرب، حافظين للقرآن وقليلي أو متوسطي العلم الشرعي، ومن ثم يسلبوا من كل حقوقهم الطبيعية، ويخضعون لشتى أنواع الابتزاز، في غياب قانون يؤطر مهنتهم، في الوقت نفسه لا يستطيع الإمام الوافد اللجوء إلى السلطات، بهدف حماية حقوقه الشرعية أو البحث عنها... إنها وضعية مزرية هاته التي يعيشها الأئمة داخل المساجد، فأخجل أحيانا عندما أصلي وراء بعض الأئمة، لمعرفتي الدقيقة بأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية البئيسة والمزرية.. أما الذين يشتغلون من داخل مؤسسات الدولة، فهم أشبه ما يكونون بالموظفين الآخرين من أطباء ومحامين وقضاة وأساتذة إلخ.يتقاضون راتبا شهريا محترما، ويستفيدون من جميع حقوقهم، لذا فعلى المتدينين أن يشتغلوا على حماية الأئمة من الابتزاز والحرمان والاستغلال البشع، وإرغام مؤسسات المساجد على توفير الإمكانات والأجواء الملائمة لأداء ومزاولة مهنهم. لقد راكمتم خبرة كبيرة، بوصفكم مديرا لشؤون التأطير الديني للسجناء بوزارة العدل الهولندية، وبوصفكم أيضا باحث وأكاديمي جامعي بجامعات هولندية وبلجيكية، هل يمكن لكم أن تقدموا لنا وصفة علاج لمعضلة التأطير الديني للجالية المغربية في هولندا؟ الزمن كفيل بحل هذا الإشكال، هذا بالإضافة إلى تراكم التجارب في هذا الميدان، وتطور العقليات وتغيير الثقافات، والعمل على صياغة رؤى وفلسفات في هذا المجال، وهذا الأمر يحتاج منا إلى وقت طويل، وهذا موكول أيضا للمؤمنين أنفسهم، فما لم ندرك أهميته وضرورة الاشتغال عليه، طبعا بالتعاون مع الأفراد والجماعات والمؤسسات، فسنظل نخبط خبط عشواء، وسنظل نعاني من الأدواء والأزمات نفسها، ونكرر الأخطاء نفسها.