مصر المحروسة.. أرض الكنانة.. بعد طول انتظار، بعد أن قلَوْكِ زمناً.. وجرحُوكِ أزماناً.. ها نحن نتطلّع إليكِ اليوم من بعيد، وأنتِ حائرة، ملتاعة، قلقة، متوجّسة في مفترق الطرق، نصغي إلى أنينك، ونتلظّى لنداءاتك، ونتشظّى لآهاتك، ملأتْ جسمَك الجرُوح، وتسربل إهابك بالقرُوح، تذكرين العهدَ والجدَّ والدّارَ، تنعين أمجادَك، وتتألّمين لماضيك، نهشوك نهشاً، وخدشوك خدشاً، وخذلوك خذلاناً أيتها الأرض المخصاب. مصر الآمنة.. ها أنتِ تطلّين علينا مشرئبّة الهامَة، عالية القامة، من قعر الهوّة السحيقة، واليمّ العميق اللذين زُجّ بكِ فيهما ولا قرار لهما، فهل من مَخرج وشيك، أو مَلاذ قريب؟ وهل من مَنفذٍ للمِحن التي ألمّت بك؟ وما انفكّ فلكك يهيم، وينسابُ تائهاً، متأرجحاً، مترنّحاً، حائراً، بدون وجهة، ولا بوْصلة في يمٍّ متلاطمٍ، هَائجٍ مَائج، لججه عالية عاتية، وأمواجه هادرة مُزبدة؟ وها قد أضحى صيفك قائظاً مُستعِراً، وأمسى خريفك شاحباً مكفهرّاً، وغدا شتاؤكِ صقيعاً منهمراً، وأصبح ربيعك مُزهراً مُزدهراً... لقد مرّ بك في لمحٍ من العين كخِلسة المختلس! تحملين همومك، وقلقك، وهواجسك، وتوجّساتك فوق ظهرك وتمضين، ولا أحد يبالي بكِ ولا بآلامك، ومعاناتك إلا شعبك، وأهلك الطيّبون، ولا أحد يكترث بأحزانك، وهمومك إلاّ أناسك وأبناؤك البَررة ومُحبّوك وما أكثرهم. اسمكِ على كلّ جَنان ولسَان مصر.. كلمة تحمل في طيّاتها أجمل المعاني وأنبلها، كلمة تنثال على شفاه ناطقيها كقدَر مُشْعَلٍ، أو كبريقِ غسَقٍ منبلج بين ثنايا دياجي ليلٍ سديميٍّ بهيمٍ مُدلهمّ، يندّ عنه فجر نورانيّ مشرق مضيئ.. اشتدّي أزمةٌ تنفرجِ//قد آذن صُبحك بالبلج! على الرّغم من بُعد المسافات والديار، ونأي الفيافي والقفار، وهوْل التوابع والزوابع، وشموخّ الجبال والتلال، وعلوّ الآكام والمرتفعات، التي تفصل بينك وبين عاشقيك وخلاّنك ومُحبّيك، فإنّهم جميعاً مُدركون لا محالة أنّه ليس هناك قوّة يمكنها أن تثنيهم مهما كان عتوّها وجبروتها عن معاودة اللقاء بك، وتجديد عناقك، هيام متيّميك لا يتغيّر، ولا يفترّ، بل إنه يزكو، ويتكاثر، وينمو يوماً بعد يوم، لا يطوله البلىَ، مُتجدّد كالصّبح الباسم الوهّاج، متفتّح كشرانق فراشات ورودك الزكيّة، وشذى أكمام زهورك النديّة. وأفئدة المولهين بك، وبسِحرك، وعِطرك، وجَمالك، وبَهائك تنبض أبداً باسمك السّاكن في كلّ جنان، القاطن في كلّ وجدان، والسّائر على كلّ لسان. على الرّغم من شحط المزار، والبُعد عن الديار، ولظى قيظ الفيافي، والمفاوز، والقفار، أنتِ ملازمة لنا في معايشاتنا، ساكنة في هنيهات عمرنا المنساب وحاضرنا الكئيب، بديعة أنتِ في جميل المعاني وسحر البيان. أبو الهول.. وجه الخلود أبو الهول الشامخ المهيب.. وجه الخلود.. إرتاع نابليون لرؤيته، وهلع ورُوّع لنظرته الأبدية المحيّرة المخيفة، وملأ الحقدُ قلبَه، إرتاع، والتاع لصموده وعناده، ذات يوم تطلّع إليه منبهراً مفتوناً، أنكر ابتسامته، رآها ساخرة متشكّكة، فأطلق مدفعه في وجهه الأبدي، وشوّه أنفه، لكنه لم ينل قيد أنملة من أنفته وكبريائه. أبا الهول طال عليك العصر /وبلغت في الأرض أقصى العمر! كم من رحّالة تغنّى بمآثرك، وافتتن بجمالك، وقناطرك، ومراعيك، وجِنانك، ورياضك، وجداولك، وجدائلك، وحدائقك، وبساتينك، وريفك، ونهارك وأمسياتك، وغسَقك وشفقك، وصباحياتك ولياليك، وببحْرَيْك الناصع والقاني، اللذيْن يشقّهما نيلك الخالد في انسياب أبديّ سحريّ، أسطوريّ مُحيّر. وكم من زائرٍ والهٍ بك سحرته مناظرُك، وأسرته آثارُك، وأذهلته مآثرُك، وبهرته أهراماتُك، وقاطنوها الأبديّون خوفو، وخفرع، ومنقرع، وراعه أبو الهول ثابتاً، صامداً لا يتزحزح يتحدى الزّمن. كم من رحّالةٍ انطلق من هذا الصّقع النائي البعيد، منذ شيخ الرحّالين ابن بطوطة الطنجي المغربي، إلى آخر مسافرٍ أو زائرٍ وصل لتوّه إلى أرضكِ الفيحاء من كلّ صوب وحدب، سائراً، ساهراً، طائراً، ومهرولاً، مشتاقاً، ملتاعاً، ليرتمي في حضنك الرّؤوم. النّيل الخالد من أيّ عهدٍ في القرى يتدفّقُ هذا النيل العظيم، كم أقام أجدادك على جنبات ضفافه المبثوثة بالبساط الأخضر، ومشوا على كثبانه، وسهوبه، وسهوله، وهضابه، أمينوفيس، توت عنخ آمون، نيفيرتيتي، أخناتون، مينفيس، كليوباترة، حتبشوت، رمسيس، سميراميس... كم من قصّة حكيت، وأسطورة نسجت، وحكاية حيكت، وحدّوثة صيغت على وقع خرير مياهه الأبدية، كم من نبيّ، وتقيّ ورع نقيّ، وقطبٍ ربّانيّ مَشَى على ثبجه وتوضّأ بمائه الرّقراق، وكم من مركبٍ من مراكب البّردي وزوارقه، ومن فُلك الآسل مَخرتْ على صفحته البلّورية، وشقت حيازمُها غمرَ عُباب مياهه، وهي محمّلة بقوارير الأحلام، وأحقاق الآمال، ومتون الأشعار، وباقات الأزهار، وعُلب المِسك، والعطر، والعنبر، والكافور، وما طاب واستطاب من خيراته، وثماره، وبهاراته... من أيّ عهد في القرى تتدفّقُ ** وبأيّ كفّ في المدائن تغدقُ ومن السّماء نزلت أم فجرت من** عليا الجنان جداول تترقرقُ مصر التاريخ مصر التاريخ.. مصر الحضارة، التي شرّفها الله تعالى في مُحكم تنزيله "ادخلوا مصرَ إن شاء الله آمنين" أوّل ما يقرأه الزّائر أو الداخل إلى سرّة الكون، وكنانة الله في أرضه، عند وصوله إلى قاهرة المعزّ، أمّ المدائن، وسيّدة الحواضر ذات الألف مئذنة. مصر التي تُبهر الناظرَ إليها، وتأخذ بمجامع كلِّ من رأى آثارَها، ومآثرَها، وعمرانَها، وعمائرَها، وبنيانها، وقلاعها، وحُصُونها، وقصُورها، وأقْصُرها، مهد الحضارة، والعلوم، والفنون، والآداب، والألوان، والتصوير، والمعمار، والتنوير، والتطرية منذ غابر الأزمان. لا بدّ أن بيت شاعر العربية الكبير أحمد أبي الطيّب المتنبّي الشهير مستوحىً من زيارته للأخشيدي بهذه الربوع: حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريّةٍ ** وفى البداوة حُسنٌ غيرُ مَجلوبِ. مصر الجَمال، والحُسن، والعيون النّجل العسلية المُسبلة التي تسافر بنا إلى آخر الدنيا، وتغوص بنا في بحورها، وتنقلنا في لمحة من العين إلى عوالمَ سحرية لازوردية نائية ملوّنة حالمة. ما لعيونك لا تنامُ ** كأنَّ في جفونها كِلامُ (كِلامُ أيّ جِرَاح) مصر.. الأزهر الشّريف، والجوامع، والصوامع، والمآذن، والقباب، والتكايا، والزوايا، وأضرحة أولياء الله الصالحين والاقطاب الربّانييّن. مصر السيّد أحمد البدوي، نزيل طنطا، القادم إليها من حاضرة فاس العامرة، والسيّد المرسي أبو العبّاس، نزيل الإسكندرية الساحرة، القادم إليها من مرسية الأندلس. مصر الزّمن الجميل مصر الزمن الجميل.. مصر الفكر الخلاّق، والثقافة الرّاقية، والأدب الرّفيع، والشّعر، والسّحر، والسّينما، والمسرح والموسيقى، والزجل والمواويل، وأعذب الألحان، والعطر العبق الفوّاح.. وعيون بهيّة.. وخلاخل عدويّة! مصر الجَبرتي، ومحمّد عبده، والأفغاني، وقطب، وعبد الرازق، والرّافعي، وطه حسين، والعقاد، والمنفلوطي، والبنّا، ومتولّي، وشعراوي، وحافظ، وشوقي، والبارودي، والمازني، والحكيم، ومحفوظ، والبِّشري، وحقّي، وعبد الصبور، وباكثير، وروز، وميّ، وشعراوي... مصر.. ليلى مراد، وإسمهان، وأمّ كلثوم، وبديعة مصابني، ومحمّد فوزي، وليلى مراد، وعبد الوهّاب، ودرويش، وفريد، وعبد الحليم، ونجاة، وشادية، ومكّاوي، والموجي، والطويل، وبليغ حمدي، والرّيحاني، وأبيض، ووهبي، وشاهين... مصر العمّال الكادحين، والصنّاع العسيفين، والفلاحين البسطاء الطيّبين، الذين يقنعون بالقليل، بناة أعظم حضارة عرفها التاريخ القديم أنا الفلاّح في مِصرَا ** أردّ تُرابها تِبرَا يالله بنا على باب الله يا صنايعيّه ** يجعل صباحنا صباح الخير يا أسطة عطيّه صبح الصّباح فتّاح يا عليم ** والجيب مافيهشي ولاّ ملّيم... مصر الأهرام، والمقطّم، وآخر ساعة، وأخبار اليوم، والجمهورية، والهلال، والمعارف، والمصوّر، وروز اليوسف.. لذا ليس من باب العبث أن قال أحمد شوقي: لكلِّ زمانٍ مضىَ آيةٌ/ وآيةُ هذا الزّمان الصُّحُف.. آخرُ الليلِ الطويلِ نَهَار! مصر.. الذائدة عن كلّ شبر من ترابها على امتداد تاريخها الطويل، حتى أصبحت-كما جرت به الألسنُ منذ غابر الأزمان- "مقبرة الغزاة"، ولا غرو ولا عجب أن قال أمير الشعراء أحمد شوقي لها، وبها، وعنها صادحاً مترنّحاً: للحرّيّة الحَمراء بابٌ ** بكلّ يد مُضرّجة تُدقّ. مصر التي كادت أن تحقق اكتفاء ذاتيا وتعمل على إيصال منتوجاتها إلى مختلف أرجائها، ونواحيها، وأرباضها وأصقاعها، وتحقق قفزات نوعية اقتصادياً، وتجارياً، وتصنيعياً، وسياحياً في مختلف القطاعات، المرافق، والمجالات...لا تسلني اليوم عن حالها وأحوالها.. فلكلّ شيء إذا ما تمّ نقصانُ** فلا يُغرّ بطيب العيش إنسانُ! مصر التي كانت تضطلع بدور رياديّ طلائعيّ بارز في منطقتها، وما جاورها، كانت حافظة للسّلام، راعية له، ومشيعة للخير والبِرّ والبركة، والطمأنينة، والأمن الاطمئنان. مصر التي كان "صوتها القاهريّ" حتى الأمس القريب يصدح في مختلف إذاعاتها، ووسائل إعلامها المتطوّرة والمتعدّدة جَهوريّا، قويّاً، مدويّاً ليُسمع في أقصى الدّنيا، وعمق المدائن، والحواضر، والقرى، والضّيع، والمداشر، في الغدوّ، وفى الرّواح، وفى الصّبح وفى المساء، وكانت فضائياتها تملأ الدّنيا، والأجواء الأثيرية البعيدة في المدى، كانت تطلّ وتهلّ علينا من خلالها وجوه حسان، وابتسامات نديّة تؤسرنا، وتُسحرنا، وتترفّق بنا، وتتدفّق في أعماقنا في رقّةٍ، وعذوبةٍ، وطلاوةٍ، ودلالٍ. مصر المؤمنة الآمنة التي كانت حتى الأمس القريب حاضرة في كلّ بيت، توصل إلينا أذان الفجر من مسجد السيّدة زينب، والظهر من سيّدنا الحسين، والعصر من السيّدة سَكينة، والمغرب من السّلطان الحنفي، والعشاء من الإمام الشافعي.. رحمهم الله تعالى جميعاً، وكانت تجعل النّائين والمغتربين عنها يعيشون عوائد، وعادات، وتقاليد، وطقوس أمّ الدّنيا، وكأنهم يعيشون فيها. مصر.. كلمة ذات نبرة حلوة آسرة تدخل القلوب بدون استئذان... تعيش هذه الأيام مرحلة انتقالية عسيرة، عصيبة، وتجتاز ظروفاً قاسّية صعبة، نار الفتنة ما برحت مختبئة تحت ثفال أتونها، لقد عَلِقت الحيرة أهلها، وذويها، وسكّانها، وقاطنيها، وهم يواجهون اليوم على مضض فتنة تلو فتنة.. و"الفتنة أشدّ من القتل" وأحدّ وأفتك وأفدح من التنكيل، والتهويل، والتقتيل، إنّها تجتاز مخاضًا عسيرًا لا بدّ أن تخرج منه منتصرة بسلام.. ترى أين المفرّ وأين المستقرّ؟ بعد أن كاد-كما يقول شاعرها المُعنّى كامل الشناوي-أن يشبّ في القلوب حريق..ويضيع من بين الأقدام الطريق، أنزل الله تعالى عليها، وعلى أهلها السّكينة، والطمأنينة، والألفة، والتآلف، والوئام، والسّلام، والأمن، والأمان، والتصالح، والتسامح، والتصافح، والاستقرار، والتعايش، والعودة إلى سالف عهدها الزّاهر... فآخر الليل الطويل نهار! *كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا - (كولومبيا)