أنتِ الأمل.. هذه «القصيدة» ، الموفيّة، الآسرة، المخمليّة المثيرة ، العميقة الغور، البعيدة المدى، تحلّق بك فى الأفق البعيد، وتكاد أن تطوف بك فى سدرة العلا ، تُسْعِد النّفوسَ المكلومة، وتغبط القلوب العاشقة الولهانة.. إنها ومضات نورانية، جوّانية،إستبطانية تبعث على الأمل والتأمّل، وتفسح أو تفتح البابَ على مصراعيْه للخيال المجنّح الطّليق، بضربٍ من المعاناة، والمكابدة، والغنوص، والنغوص. فالكلمات عند الشّاعرة فى هذه القصيدة وفى سائر قصائدها الأخرى تنويعات وتريّة مختلفة متوتّرة ، وهي نبع رقراق يتفتّق من أعماق نفس مُترفة الإحساس ، مُرهفة المشاعر، عاشقة والهة،أشرعة زورقها الشعري الحالم يمخرُعبابَ بحور الهوىَ والصّبابة والجوىَ، بوصلتُه فيض هائل من الوَجْد والوجدان، فالكلمات المشحونة بالعواطف المتأججة، والإنفعالات العميقة تتسابق، وتتلاحق، وتتلاصق،وتتعانق فى القصيدة مكوّنة سلسلة شفيفة، عفيفة، مُحمّلة بأعمق الأحاسيس، وأنبل المشاعر، فإذا ألصقنا احدى قصائدها ببعضها سطراً، سطراً لتفتّقت عنها قصيدة أخرى من نفس جنسها، وطينتها ،وهندامها، وجيناتها، وجذرها، وجذوتها،فتغدو فى آخر المطاف وكأنّها تكوّن مظلة مزكشة هابطة من علياء جبل أبولو، أو منبثقة من ضفاف وادي عبقر، تحيكُ حروفُها طوقَ نجاةٍ للعاشقين المتيّمين الوالهين يندّ بأرقّ المعاني، وأجمل الدّلالات، فلنجرّب شابكين فقط أواخر الكلمات فى القصيدة فتكون النتيجة مذهلة: الأمل، الرّوح، الزهور، الكيان، القصور، الإحساس، النّور،الظهور، السّرور،التحذير، الثبور، الفم، الدم، اللحن،العصور،الحبيب، الشّوق، الوجدان، الترديد، الأحزان، الحدائق، العطور، الحياة، المشاعر،الصّخور، الإمتلاء، الأمور، المعنى، الذكور .. كلّ تلك العناقد المدلاّة كثريّاتٍ مضيئة من كرمة الإبداع الخلاّق مُعلّقة فى برُوش من ذهب، أو فى قرط من أقراطٍ لجينيّة يُسمّى..(الجمال).. هنيئاً لها، وبورك يراعُها، فالعِطرالعبق الفوّاح يُودَع فى قوارير بلّورية رائقة بالغة الدقّة والصّغر، (كلماتها) ، وأغلى وأثمن الآلئ، والدّرر،والصّدفات دانات تكاد تخطئها العين (معانيها) . يديّ.. أمّا إذا جمعنا أواخرالكلمات فى لمحتها الشعرية الجميلة الأخرى «يديّ..» وهي: (المُجون، الصباح، العُمق، البِطاح، القوّة، النّجاح، الذّكرى، المكان، النّواح، الضّحايا، والمِلاح، الهناء، الرّواح، الشفاه، الأقاح. فنجد أنّ الكلمات فيها مختارة بأناقة،ورشاقة، ورقّة وعذوبة وشبكناها بأولىَ الكلمات فى القصيدة وهي: اليد، التساؤل، الوقع، الشمس، العِطر، الحُبّ، السِّحر، الإصرار، الفراق، الجِراح، الجَارّ، الفيْض، اليد، الاغتراب، الانسكاب، الحقل)…. فإنك تجدها تشكّل عِقداً فريداّ من نوادرقلائد العقيان، يُرصّعُ جيدَالغواني الحِسان… تقولُ الشاعرة صادحةً فى هذا السياق : يَدِي، كيفَ التّسَلِّي عن مُجونٍ؟؟ / وكيفَ سَتمسَحين ندى الصّباحِ؟؟/ وَوَقعُ القبلةِ الأولى عميقٌ/ كَوَقعِ الشمسِ في صيفِ البِطاحِ/ وعطرُ القبلةِ الأولى قويٌّ/ كما حُبُّ القداسةِ للسَّماحِ / وسحرُ القبلةِ الأولى عنيدٌ / كإصرارِ الكبارِ على النّجاحِ/ وَكَيفَ تفارِقُ الذكرىَ مكانًا/ أصابتهُ الجراحُ بكلِّ ناحِ / إلى أن ماتَ تاريخُ الضّحايا/ بفيضٍ من أصابعِكَ المِلاحِ/ يَدِي، كيفَ اجْتُذِبْتِ إلى هناءٍ/ كمُغتَرِبٍ يحِنُّ إلى الرَّواحِ/ وَكيفَ قد انْسَكَبْتِ مَدىَ شِفاهٍ/ كَحقلٍ نامَ في قلبِ الأقاحِ… ! فى دلالٍ وغنجٍ إنها كما ترى قصائد تندّ عن موهبة متوقّدة، وإلهام وهّاج، كلمات وضّاءة مشعّة كشمس تموز أو قمر 14…هذه القصائد الجمالية والجميلة ما إنفكّت تستهوينا ،وتجرّنا إليها جرّاً قوياً لطيفاً.. وتشدّنا إلى معانيها الرائعة شدّاً منيعاً ظريفاً.. سبق لي أن كتبت عنها من قبل بغبطةٍ وسرور منقطعيْ النظير.. وها أنذا راجع إليها .. وما أحلىَ الرّجوعَ إليها.. ! فالشّوقُ الذي يحرّكه الذّوقُ لا يحدّه حدود ،ولا تقف فى زخمه أو زحفه جدران، ولا حيطان، ولا أعمدة أو صولجان.. مهما علتْ، وإرتفعتْ، وسمتْ، وتعالت .. ولا تحُول دونه أسلاك حتى ولو كانت شائكة جارحة مهما وخزت وشكّت، وأدمت .. إنه ينفذ الى أعمق أعاميق الأعماق لإستكناه، وإستبطان، وإستغوار، وإستقراء ،وإستخلاص وعناق أو إعتناق أو معانقة الجواهر اللؤلئية الثمينة.. والدانات النفيسة التي حتى وإن حاولت أن تختبئ أو تتوارى وراء الأسطر، وتحت ظلالها الوارفات، أو تتّكئ، أو تنكفئ على جنباتها فانّ عطرها الفوّاح العبق الزكيّ الطيّب يفضحها، ويعرّيها فى دلالٍ وغنجٍ فى لمحٍ من البصر، وفى رمشٍ من العين ليذيقنا، ويذيق القرّاء الأصفياء، والقارئات الكريمات العطشىَ إلى الجمال.. أعذبَ الكلام وأحلاه ،وأطيبَ الحديث وأطلاه الذي يتبدّى لهم ولهنّ فى أثواب قشيبة، مزركشة، مخملية، بلورية، ناصعة، صافية، كالعُيُون النُّجْل، والعُيُون الحَوَر.. (بفتح الحاء والواو).. هذا البريق، أو هذه الضّياء اللاّزوردية التي يشعّ من طرفها.. والسّهام الكِلام (بكسر الكاف) ما زالت بريئة لم تتماد بعد فى قتل أحد حبّاً.. أو إهْلاكُه صبابةً.. وجوىً.. وهوىً.. وتيماً ،وهياماً..كما أنها لم تُحي قتلانا.. لقد صَرَعْنَ حُبّاً ذا اللبّ حتى كاد ألاّ يكون له أو به حراك ..وهنّ أضعفُ خلقِ الله إنسانا …!! …( ما لعيون قصائدها لا تنامُ …كأنّ فى جفونها كِلامُ )…جِراح..! من النابغة إلى أبي تمّام والبحتري هذه اللمحات الشعرية تبيّن لنا بجلاء أنّ الشّعر ليس هذراً طوّلت خطبُه ، بل هو لمحٌ تكفي إشارته، قالها وبصمها قديماً أبو عبادة البحتريّ المنبجيّ، بعد أن بذّ وتفوّق على أستاذه، ومُعلّمه الطّائي أبي تمّام عند مقدم النيّروز ،وهو يتغنّى بالرّبيع وبالبِركة الحسناء، والآنسات إذا لاحت مغانيها، لمولاه المتوكّل، و يطرب لعيون المها ، والرّصافة، والجسر ، فضُربت له قبّة من أدم فى قرض الشّعر،كما ضُربت من قبل لبلديّه، وصاحبه فى سماء النقد والبلاغة والإبداع النابغة الذبياني فى سوق عكاظ ،مثل هذه الّلمحات "البيطارية" الموفيّة، الحالمة، الهائمة ،والعائمة ، التي "ترسم الأحلام" وتشيع بيننا حلو الكلام ،وتنشر أو تنثر " أريج الأشواق" فى النّفوس المكلومة، وتغبط القلوب المعنّاة، والأفئدة الحزينة.. ومضات إستبطانية جوّانية تطلق سراح "أسراب الشّوقّ" لتحلّق طليقة فى عنان الفضاء اللاّزوردي البهيج، حيث تُصبح الكلمات عند الشاعرة فى هذه اللّمحات نوارس طائرة، وتساؤلات حائرة، ومعاني زاهرة، ومباني باهرة ،وتنويعات وتريّة متوتّرة، وأنغاماً مؤثّرة ،وهي وإن قَصُرَتْ، تظلّ نبعاً رقراقاً،وقبساً نورانياً متفتّقا من أعماق نفسٍ عاشقةٍ، والهةٍ، ساهرةٍ، ساهدةٍ، سامرةٍ، مُترنّحةٍ بين أعطاف الصبّ، والصّبابة والصّبا، والتّيم، والتيه، والجوىَ، هذه الأحاسيس النبيلة تقطن فى الأعالي، فى هيادب السّمت البعيد، جارةً للثريّا والسّماكِ الأعزل… ألف مبروك للشّاعرة الرّقيقة، والإنسانة الانيقة الدكتورة يسرى البيطار وهنيئاً لها بيراعها المِخصاب، وبحِبرها المُزْن.. (بضم الميم. وسكون الزّاي)، عطاءاتُها الشعرية الإبداعية اللاّمعة المتألقة تُحيي القلبَ..وتُنعش الروحَ.. وتملأ الأفئدةَ والألبابَ سروراً، وبهجةً، ومُهجة، وبِشراً، ونضارةً، وحبوراً .