.. طرقت باب الشعر ، وجدت أحمد يردد السؤال وينحت جمرا من الكلام ، طرقت الباب ..عسس ترتج خلفه، لأن مليكا قادرا مقتدرا ينام على سبحة الشعر.. حملت بضعا من أوراق تاريخه الشعري وكنت قد لململت بعضها من صحف وصحائف قديمة وأخرى جديدة ، منها ما اصفر لونه بعبث الرطوبة فازداد عبق الورق عطرا من عبق الكلمات .. وتحيرت في السؤال: كيف لي في لحظة من تاريخ وجيز أن أمخر هذا العباب ،أو أشم بعضا من أريجه من فوحه ، الطيب العريق الملتهب المائس الجذاب؟ كيف لي أن أسأل أو أجيب، أن أرتب ما قاله الشاعر في أبواب من البلاغة والخبر؟ وحينما آنست منه قربا، تلقفت الكلمات من صدري ووهبتها ألقا من بوحه الشعري، من الصورة التي يهجس داخلها بحثا عن الجوهر الكوني قال :"الشعر وارد يأتي محمولا على البوارق واللوامع، كسحابة مثقلة بالأمطار ، تتلقفها تربة اللغة الشاعرة ، وإذا باليناعة قد اهتزت منها الأرض وربت..فتورق بالإكسير الخالق، شجرة الإبداع على هيئة قصيدة ..هي الشمس والقمر في ليل البشرية (1) وحينما جلت جولات طوال في بعض قصائد الشاعر "اهبطوا مصر.. سلاما سلاما"، و"الحبات الستون"و"..ومن أسمائها الحسنى طنجا العاليا" أدركت وعورة المكان والزمان وتفيأت ظلا ظليلا قرب دوحة الشاعر أرتوي من شعره وأغمس يدي في حناء طرية فائحة من رائحة الخلد تفوح.. فكَرَرْتُ الطرق على باب عتيد :لديوان اهبطوا مصر عسى أن أحظى بوصلة أو طرفة عين ..مصر التي يراها الشاعر بروعة المدينة الصاخبة نهارا، الرائعة ليلا، ونهرها النيل ماؤه السخي الشجي على حافة المدينة والناس، يقول الشاعر: ما أروع قاهرة الليل ، حين يناغي نهر النيل الساجي سيمفونية الله تتلو معه أصداء التهليل وأنغام التكبير : من مآذن ضاويةٍ وصوامع لامعةٍ(2) تشكيل ينحت الشاعر ألوانه وأحجامه وحدوده من صفاء المكان وصفاء اللغة ، ويصر دائما أن يكون صادقا متآلفا مع هذا المكان ، وهذا سمت الشاعر في القصيدة وغيرها من القصائد التي تنسج علاقات الشاعر مع الأفضية التي يسكنها ولو لحين ..يقول الشاعر: اهبطوا مصر..سلاما ..أقول لكم وأنا لست دليلا إخواني في رفقة رحلتنا إلى مصر الكرنك ومعابدها وصواريها.. في باحات الأقصر وجوانبها إلى إرم ذات العماد (3) حكايةُ تاريخ ..وتاريخُ حكاية ينظمها الشاعر في مهبط مصر التي يجول عبر أزقتها وأسمائها وشهدائها وأفراحها، يقرأ ذاكرة التاريخ ويحلم في صفحة الحاضر فيقول: شاهدنا أياما من عرس الزين: أعراسا في قصر الشوق ميلادا فضيا لتوأمة بين البلدين الأسطوريين طنجيس ? البحرين وإيزيس ? الهرمين(4) للمكان إذن عبق سحري في قصائد الشاعر أحمد الطريبق ، عبق يسري من خلال الصور المتناسلة المصفوفة بريشة لا يسيل صمغها إلا بقدرة قدير، يرخي لأنفاسه وشطحاته وأجواقه الشعرية جداول تمتلىء بالحياة لتزرع بذورها في أرجاء الكون الشعري سؤالا وحنينا وحكاية .. ولا يمكن للصورة الشعرية في قصيدة أحمد الطريبق أن يكتمل بهاؤها دون مكان تترعرع فيه ،لذلك نشهد باستمرار احتفاء الشاعر بالمكان على كبير اختلاف وتنوع . كما أن للحكاية في شعر أحمد الطريبق حضورا قويا حضور يؤثث دلالات القصيدة بالوقائع والأخبار والأحداث والشهادات، إنه شعر يمثل الحياة بكل تفاصيلها الجميلة والمؤلمة ،الحزينة والحالمة ، شعر على الرغم مما قد يتهم به من الإيغال في الرمز والرمزية والتعبير العرفاني الموغل في اللغة الإشارية، إلا أنه يدق ناقوسه فينسرب صداه القوي العنيف ، المثَبِّت الأليف ،إلى داخل النفس الإنسانية وفكره ووجدانه، فيصب ناره ونوره في كف القارئ اللامع... وكررت الطرق ثانية :الحبات الستون (5)، إن حبات سبحة الشاعر ،غير المنفرطة أبدا ، تتنضد في ترتيب زمني متدرج متناسل مشبع بالتفاصيل اللامعة ليس في حياة الشاعر الشخصية ولكن أيضا في تاريخ الأمة العربية وفي التاريخ الثقافي الخاص والعام. وقد مثلت السبحة بعدا ترميزيا للزمن، فهي ترمز لعمر الشاعر/الإنسان الذي تتوارى لحظاته كما تتوارى حبات السبحة خلف أصابع المسبح، وقد تكررت هذه الكلمة بالقدر الذي يثير الانتباه ويشعل لهب السؤال:(تنفرط الحبات الستون، من سبحة عمر محدود،يتجاوز حبات السبحة، حبيبات العمر تطوفني الحبات العشر، يرقص حبات السبحة، سبحة عمر تلألأ بالأزهار،أصداف الحبات، تنفرط الحبات الستون، وآخر سبحة قوم، سبحة عمري) تنمو قصيدة أو لنقل حكاية "الحبات الستون" وتمتد.. لتَشْهَد وتُشْهِدَ على سيرة قصيدة أو قصائد، سيرة تحكي عن طفولة وصبا وكهولة، وعن محطة الستين التي تملأ فضاء القصيدة والشعر بالسؤال الوجودي، وتُقَلِّب صفحات العمر في براءتها ووهجها وحلمها ونضجها في حيرتها وسكونها، في تفاعلها مع القضايا كبيرها وصغيرها ، في كل ما يمكن لروح شاعر أن تهيج به "في معترك القاعدة الوجودية" وتتشكل الحبات الستون من إثنتي عشر لوحة تتفاوت في الطول والقصر، تشكل في منتهاها لوحة عمر الشاعر المتقصية لفضاءاتها وتفاعلاتها وانفعالاتها، وحينما نمضي في قراءة القصيدة نتجول في أرجاء عمر الشاعر: - الطفولة (تطوقني حبات العشر الأولى(15) - مرحلة العشرين: والولد الصاعد في مسراه/ وافى/ الحبات العشرين من/ سبحة عمر تتلألأ بالأزهار.(19) - حفل ختم القرآن : يوم كانت تتملى مشهد ولد/ فلذة كبد/ في جلباب أزهى من كل بياض/20 - بعض من وقفات الشاعر العاطفية : ربما... غادة أندلس سمراء/تترقرق عيناها باخضرار النعناع/كانت تردد أغنية لهواها...؟ (22) - مغادرة الشاعر طنجة إلى فاس :فارقت الأهل وخلاني /في طنجيس/غادرت القصبة/ ومن فيه.. (38) - كشف الشاعر أنه ملك في مملكة الشعر:أدركت بأني أحترف/ بصدق/ صنع الكلمات وأني/حقا.../من مملكة الشعراء (40) - أحداث 67 المؤلمة : وبعد الستين بسبع/شهدت فاس/تنكيس الأعلام/ قيامة جمهرة من خلق الله،/ طلابا وشيوخا/ ومن كل الطبقات ./هبط الموكب من "ظهر المهراز"/ إلى الباحة في البطحاء /أطاحوا بالعلم الأمريكي (40) - علاقة الشاعر بالشاعر الخمار الكنوني: ظل عزيزي الخمار/ يحكك تفعيلته/ عن شواهد مقبرة،بقباب،/ تعلوها قباب (47) - موت الخمار الكنوني : يوم النعي المفجوع.../ يرحل عني../ جسد الخمار/ وكرمته مُشربة بالسكر الريان (48/49) - الشاعر في تطوان: في تطوان أغراني/ نفح الطيب،/ وعقد فريد منثور(44) - زواج الشاعر: وعلى مرمى الصدفة والأقدار/ اخترت لوجدي/ زكية نفس.../ بظلال وارفة /أرخيت لها كل قلاعي في رحلة العمر(53) - موت والدي الشاعر: أعوام التسعينات/ وبآخرها/ غابت من نسيج السبحه../ لؤلؤتان وجوهرتان / وهما لي كالجوهر في/ سر وجودي(68) - حرب العراق وسقوط بغداد: سراعا توالت فانفرطت/ عشر من العقد الخامس/ تقترب الدورة/من سهم القرن الواحد والعشرين/ لم يحمل معه إلا معه/حربا ودمارا/ في ساحتنا العربية/ تسقط دار سلام- بغداد/ يسقط معها تمثال الحرية (71) تكشف الحلقات السردية الحكائية في القصيدة والمرتبطة بفقرات من حياة الشاعر عن ارتباط الشاعر القوي بالمكان وهو ارتباط حميمي إن لم نقل ارتباط وجودي يؤرخ الشاعر للحظات عميقة ومؤثرة ومشكلة لمرجعه الشعري والثقافي، ففي طنجة وفاسوتطوان وفي أماكن أخرى، ترد عبر الاستحضار أو عبر ترابط دلالي ، تترعرع صور الطفولة والشباب والكهولة ، صور التعلم والتعليم وصور معاشرة القصيدة .. أما في ديوانه ".. ومن أسمائها الحسنى طنجا العاليا " فإننا نتطلع إلى تجربة تنحو منحى مغايرا وإن كانت تتخذ شكل القصيدة الطويلة كسابقتيها، لقد ضمخ الشاعر قصيدته بالكثير من الرموز الأسطورية والتاريخية والثقافية والقصص الديني : هيرودوت، أدونيس، هرقل الروم، الفينيق، الرومان،هاريس، الإدريسي، ابن بطوطة، ابن ليون، طارق، نفح الطيب، ابن بصال، طريفة، المضيق، جبل طارق، أنجرة، ابن المرحل، سبتة، مليلية، لمتونة الصحراء، الكويرة العيون، وجدة، سيدي بوعبيد، بلقيس، يوسف الصديق... ويشتغل التاريخي والثقافي والأسطوري في هذه القصيدة الرائعة من أجل تأثيث صورة عن حاضر مدينة طنجة من خلال رؤية استرجاعية ، حيث يطل الشاعر من شرفة الحاضر على تاريخ المدينة الذي "ليس ببعيد " وينقش تفاصيل الصورة بريشة تغمس في مداد الماضي المتألق ليقارنه ب"حالها الوضيع" في زمنها الحاضر. يقول الشاعر: مدينتي، تلك التي، بخاطري، وفي دفاتري، أخالها مثل العروس، حالما يضيع خلسةً؛ من صندوق عرسها تاجُها، تزينتْ به، في عيدها، والعهد ليس (6) ليست طنجة بالنسبة للشاعر أحمد الطريبق أحمد مجرد جدران وشوارع ومقاهي وأسواق.. تشوهت ملامحها ، بل هي دفتر تاريخ شخصي سجل فيه الشاعر ذكرياته: ماضيه، طفولته، وشبابه، وتاريخ جماعي نسج أحمد الطريبق أحمد صورته عبر تقابل زمني لعب دورا مهما في تشكيل الصورة الشعرية في القصيدة. لقد تحول المكان إلى قضية.. إن الشاعر يقف بين زمنين مؤكدا على هويته المكانية، ووجوده المكاني وهو يرى أنه ليس لطنجة /الحاضر امتداد ولا تآلف مع طنجة /الماضي. يقول الشاعر: هوية تكاد أن تزولْ، أو تحولْ، بسلطةِ الإسمنتْ، والإسفلتْ، أو تقولْ، لمَا للنفسِ من رعونةٍ ومن طغيانْ، لا يعير قيمة لوجه البرّ أو لموج البحرْ، (هو العماء والعمى): للأسواق صوتُها، للأبناك رقمُها، وقيمة القيمْ؛ .... فمن ترى يكون المنصفَ لها؟ ! (7) كما تنتظم أشطر القصيدة وفق بناء يخضع للتوزيع المحكم للأصوات والمقاطع التي تتسم بالقصر وبتواتر الفواصل، وبتدفق الكلمات دون انتشار أي بياض يفصلها أو يكسر إيقاعها الخارجي والداخلي: تمتد القصيدة كما لو كانت حالة جذب أو مس نوراني ، إن استثمار العنصر البصري إذن يدل على أن القصيدة تخضع لنسق سيميائي محكم يثير بصر القارئ الذي يشعر باتساع المساحة وباتساع الزمن الذي ينتشر فيه صوت الشاعر، منددا وشاجبا وعاشقا لطنجة المدينة القصيدة /القصيدة المدينة. فصورة طنجة التي رسم معالمها الشاعر في هذه القصيدة لا توغل في وصف الحاضر ولا في وصف إحساسه بالاغتراب الموجع الذي قد يحسه ، ولكن تتشكل هذه الصورة ، وهو ما نال القسط الأوفر من مساحة الديوان، من استرجاع تفاصيل جميلة مرتبطة بالفضاء والمعمار والتقاليد والطفولة: الأبواب المرسومة، والأقواس ، الزليج، عطر المديني، الزوايا والسماع، لهفة الناس على الاستقلال، شهر رمضان، صباح العيد، النفير،الطبال..يقول الشاعر: بحارة ببوح العشق يعلنونْ بالجنونْ، .... ردوا لها خمارَها، حليّها عروسُ كعبةٍ يؤُمها، على مدى فصول أربعة، من أصلاءِ القوم؛ طلاب حكمةٍ وحقّ، وجمالْ (8) ... ويقول الشاعر: كنا على الدروبْ، تلْتقي، فواصلَ الجمانْ، على مطاف عمرنا الجميل(9) كما لا يغيب عن روح القصيدة ذلك النفس الصوفي الذي يعتبر مكونا في الكتابة الشعرية للشاعر أحمد الطريبق، إلا أنه في هذه القصيدة يبدو أقل حضورا من قصائده الأخرى، ومع ذلك تظل جمالية لغة التصوف وارفة ظلالها على القصيدة مشكلة أبعادا رمزية، وصورا شعرية تتناسل داخلها الألفاظ الصوفية ،ويظل المعجم الصوفي مهيمنا على لغة القصيدة:عيان، الأعيان، الأزل، الأبد، أسرار، الطين، السر،اللفظ ، المعنى، السبحة، الوجود، الوصل،الذات، صاحبي، حدسه، الفناء،تنورت بصيرتي، فيضه، الوجود،الحال،التجليات،أرباب الحد والعرفان،الإشارة، ألطافها.. -------------------------------------- 1- خطاب وحوا ر. منشورات اسليكي إخوان ط1 2007. ص 50 2- اهبطو مصر.. سلاما سلاما منشورات المركز المتوسطي للدراسات والأبحاث، ط1 2006. ص 5/ 6 3- نفسه ص 8/9 4- نفسه ص 17/18 5- الحبات الستون. منشورات اسليكي إخوان ط1. 2007 . 6- ومن أسمائها الحسنى "طنجا لعاليا" منشورات اسليكي إخوان ط 2010 . ص 64/ 65. 7- نفسه ص ص 52 /54. 8- نفسه ص 61 /62/ /63. 9- (ص 84)